إحساس إسرائيل الخادع بأنها لا تُقهر
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
إنّ البراعة العسكريّة والإقتصاديّة الفائقة التي يتمتّع بها حاليّا ً الإسرائيليّون قد أدّت لديهم الإحساس الخادع بأنهم شعب ٌ لا يُقهر ولاعتقادهم بأن الوضع الراهن بينهم وبين الفلسطينيين دائم ومستقرّ. ولكنه غير ذلك. ففي حين أنّ اقتصاد إسرائيل قويّ وثقة الشعب في جيشها عالية، غير أنّ طموحات إسرائيل القوميّة في التوصّل إلى وطن ٍ آمن ومزدهر لليهود لم يتحقّق بعد. ويرتبط الوصول إلى هذا الهدف ارتباطا ً وثيقا ً بالوصول لحلّ الدولتين الدائم والثابت والتنازل عن أراض ٍ عربيّة أخرى محتلّة، وفي نفس الوقت نبذ الفكرة المحفوفة بالمخاطر التي يحملها العديد من الإسرائيليين وهي أنّه بإمكان بلدهم الإحتفاظ بهذا الإحساس الخادع والمضلّل بأنها بلدٌ لا يُقهر. ولربّما يفسّر هذا الموقف رفض حكومة نتنياهو تمديد فترة تجميد الإستيطان لمدة شهرين فقط لأن المجتمع الإسرائيلي قد أصبح راض ٍ عن نفسه ولم يعد يكترث إذا انهارت المفاوضات كليّا ً أم لا.
يتمتّع الإسرائيليون في الوقت الحاضر بحياتهم وكأنهم في سراب ٍ. ولتشاهد هذا الوهم بعينيك، قُد سيارتك على طرق إسرائيل العريضة وتمشّ على طول شاطىء تل أبيب لتشاهد الإسرائيليين الغير مهمومين اللذين يتمتّعون بالرمال والشمس على طول ساحل البحر الأبيض المتوسّط. فأي علاقة لهؤلاء بالمفاوضات مع الفلسطينيين ؟!! أجل، لدى الإسرائيليين الآن – باقتصاد ٍ قويّ وانخفاض ٍ في أعمال العنف بصورة جذريّة – إحساس قويّ بالأمن. هم من ناحية مستمرّون في شعورهم بأنهم ضحيّة ومعزولين من قبل المجتمع الدولي، ومن الناحية الأخرى يشعرون بأنهم واثقين من أنفسهم في قدراتهم للدفاع عن الدولة ضد أية عمليّات عدائيّة. وإبّان ذلك، فقد بدأ الإسرائيليون في فقدان العطف والشفقة على اللذين يتألّمون ويعانون في حياتهم اليوميّة، علّهم هم أنفسهم يتمتّعون بهذا الإحساس الخادع بالأمن.
أتذكّر أنني في الآونة الأخيرة كنت أتناول طعام الإفطار في أحد فنادق تل أبيب الواقعة على الشاطىء مع أحد الزملاء حيث قال لي في منتصف نقاشنا الحادّ حول العمليّة السلميّة: " يا ألون، أنت تتكلّم باستمرار عن الحاجة للسّلام وإنهاء الإحتلال، فلماذا نفعل ذلك ؟ أنظر إلى ما خلقناه من نعيم، إلى أطباق المأكولات الشهيّة والتّرف. فنحن نعيش في سلام ٍ فعلي وازدهار ٍ عظيم، فلماذا نتخلّى عن شيء ؟". وممّا يؤكّد للأسف على هذه النظرة السطحيّة أنّ 8 % فقط من الإسرائيليين قالوا في استطلاع ٍ أجري في شهر آذار (مارس) الماضي بأن "حلّ الصراع مع الفلسطينيين هو أكثر القضايا إلحاحا ً بالنسبة لإسرائيل". ومع قصر النّظر هذا – الذي يستوجب دقّ أجراس الخطر – أصبح الإسرائيليون يعتقدون أنّه بالإمكان الحفاظ على الوضع الراهن إلى ما لا نهاية. ولكن هل بإمكان هذا الوضع أن يستمرّ فعلا ًعلى ما هو عليه ؟ قد ينقشع هذا السّراب في يوم ٍ واحد بسلسلة ٍ من الهجمات القاتلة. إنّ حماية إسرائيل ضدّ كارثة محتملة من هذا القبيل تتطلّب جهودا ً مكثّفة ومنسّقة لإنهاء الصّراع مع الفلسطينيين، هذا في الوقت الذي يطالب فيه العالم أجمع بحلّ ٍ عادل ٍ ومنصف.
تعتمد رؤية إسرائيل بأنها دولة لا تُقهر على قوتها العسكريّة وازدهارها الإقتصادي وقدرتها التكنولوجيّة. فجيش إسرائيل من أقوى الجيوش وأكثرها تدريبا ً وخبرة ً في العالم. ميزانيّة دفاعها – محسوبة ً على الرأس الواحد – من ضمن أعلى ميزانيّات الدّفاع في العالم. وحتّى عندما وُجّهت الإنتقادات لإسرائيل من قبل المجتمع الدولي لإفراطها في استخدام القوّة في الحروب في لبنان وغزّة ( وأخيرا ً في قضيّة أسطول كسر الحصار عن غزّة) بقي الشعب الإسرائيلي مساندا ً لقيادته العسكريّة وواثقا ً بالكامل في صحّة استخدام القوّة العسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي. وفي هذه الأثناء، وبالرغم من وجود اقتصاد دولي راكد، تمرّ إسرائيل الآن بنموّ اقتصادي سريع، فقد نما الإقتصاد الإسرائيلي في الربع الثاني من عام 2010 بنسبة (4.7 %) وهو أسرع معدّل للنموّ خلال سنتين. ثقة المستهلكين عالية مع زيادة في الإنفاق بنسبة حوالي (9 %) خلال نفس الفترة. وقد تحرّرت إسرائيل إبّان ذلك من الأزمة الماليّة العالميّة بفضل قوّة صادراتها للعالم التي تمثّل حوالي نصف الإنتاج المحلّي الإجمالي لإسرائيل. وأخيرا ً فإن قدرة إسرائيل التكنولوجيّة والإنشائية لا تُضاهى في العالم. واليوم تتمتّع إسرائيل بعدد ٍ من المشاريع أكثر من أيّ بلد ٍ آخر في العالم ولها شركات مُدرجة في قائمة "ناسداك" (NASDAQ ) في البورصة العالميّة أكثر من كلّ الدول الأوروبيّة مجتمعة. وشهرتها كرائدة في مجال التكنولوجيا العالية (high-tech ) قد جعل كثيرين يلقّبون إسرائيل ب "وادي سيليكون الشرق الأوسط".
ولكن هل جميع هذه الإنجازات دائمة بدون سلام ٍ حقيقي مع الفلسطينيين ؟ الجواب المختصر على ذلك: لا. فبدون عمليّة سلام حيويّة ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، ولكن لدى إسرائيل كلّ شيء لتخسره. هذه هي معادلة كارثيّة يجب التصدّي لها قبل أن يتطوّر حلم إسرائيل هذا بأنها دولة لا تُقهر إلى كابوس مرعب. كان الوضع قبل عشرة أعوام شبيها ً تماما ً بالوضع الذي نراه اليوم. كانت الضفة الغربيّة هادئة والنموّ الإقتصادي في المنطقة كان جديرا ً بالإعتبار. وكانت إسرائيل آنذاك تتمتّع بتقدّم كبير في اقتصادها تماما ً كما هو الحال اليوم، وكان هناك شعور ٌ عام بالثقة بأنّه – بالرّغم من عمليّة أوسلو الفاشلة – بالإمكان الحفاظ على الوضع الراهن. ولكن الإنهيار التامّ لمباحثات السّلام والإنتفاضة الفلسطينيّة الدمويّة الثانية قد بيّنت بأنّ هذا كلّه لم يكن سوى وهما ً. وستكون فاجعة أخرى على الطرفين إذا أعاد التاريخ نفسه.
إنّ كسب الحروب قد أصبح أمرا ً باهظ الثمن لإسرائيل، على الأقلّ من الناحيتين الماليّة والدبلماسيّة. لقد تضاعفت ميزانيّة الدّفاع الإسرائيليّة عدة مرات لتتجاوز 50 مليار شاقل في العام الجاري 2010. ولكن إسرائيل لن تستطع إنفاق ما يكفي للتغلّب على العزلة الدوليّة التي ستقع فيها نتيجة "كسب" حرب ٍ أخرى. وإذا لم يطرأ تقدّم في مفاوضات السّلام في الأسابيع القليلة القادمة، سيكون وقوع زلزال ٍ جديد وعنيف مسألة وقت ٍ فقط، أي بمعنى انتفاضة جديدة وعارمة تشحب أمامها الإنتفاضة الثانية. وحتّى لو حاولت السلطة الفلسطينيّة منع تصاعد العنف، غير أنّ قواتها الأمنيّة قد لا تكون في وضع ٍ يسمح لها بالسيطرة على انتفاضة شعبيّة واسعة النطاق تشعلها عناصر متطرّفة. قدرات السلاح المتطورة لدى حماس وحزب الله معروفة وموثّقة، ولكلّ منهما آلاف الصواريخ القادرة على وصول عسقلان وتل أبيب. ولو قلنا أنّه بإمكان إسرائيل أن تربح حربا ً أخرى، حتّى لو اشتعلت على جميع الجبهات، ولكن السؤال هو: بأي ثمن سيكون ذلك من الأرواح والممتلكات وماذا ستكون بعدها آمال التوصّل لسلام ٍ وأمن ٍ طويلي الأمد ؟ هل ننتظر جيلا ً أو لربما جيلين أخريين ؟
أجل، إن لم يصبح بالإمكان إنقاذ جهود السّلام الحاليّة وقد أخذ الوضع يتدهور بصورة خطرة، فالثمن سيكون مدمّرا ً لإسرائيل. وإن أحجمت إسرائيل حاليّا ً عن تمديد تجميد الإستيطان الذي قد يبقي محادثات السّلام جارية ً، فإن المجتمع الدّولي متفق في الرأي بأن تراخي إسرائيل في هذا الموضوع يبرهن على أنها لا تريد السّلام. وعلاوة ً على العزلة المتزايدة لإسرائيل في المجتمع الدّولي، قد تقوم الدّول العربيّة بسحب مبادرتها السّلمية معطية بذلك المتطرفين الإسلاميين الفرصة والمبرّر لتقويض إسرائيل بأية طريقة ٍ أو شكل ٍ هم قادرون عليه. وإبان ذلك، فمن المحتمل أن تتكثّف الحملة الهادفة إلى إزالة الشرعيّة الدوليّة عن دولة إسرائيل ويُحشد المزيد من التأييد لها. وفي حين أنّ الولايات المتحدة ما زالت قادرة ً في الوقت الحاضر على الوقوف إلى جانب إسرائيل، غير أنّه من غير المحتمل أن تكون قادرة ً على التصدّي لعزلة إسرائيل الدوليّة المتنامية في غياب ما يثبت بأن إسرائيل راغبة في الإستمرار بمساعي السّلام. هذا وقد يعاني النموّ الإقتصادي الإسرائيلي بالفعل من نكسة ٍ مؤلمة حيث أنّ بلدان العالم، الواحد تلو الآخر، ستسعى في الإبتعاد عن بلد ٍ أصبح يُنظر إليه على أنه ليس فقط عقبة أمام السّلام، بل وأيضا ً عاملاً يقوّض مصالحها الإستراتيجيّة في الشرق الأوسط. وقد تصبح إسرائيل عبئا ً حتّى على الولايات المتحدة التي قد تتحمّل أسوأ العواقب الممكن تصوّرها نتيجة لموقف إسرائيل المتعنّت هذا.
يجادل المعارضون لذلك بقولهم إنّه من الممكن فعلا ً الإبقاء على الوضع الراهن وأنّه لا فائدة من مساعي السلام. ويقول هؤلاء الرافضون بأنّ إسرائيل مهما فعلت فالفلسطينيّون لن يعطوها السّلام مع الأمن، وأنّ المجتمع الدولي – وبالأخصّ الدول العربيّة - مستمرّ في انتقادها وعزلها. ويجادل هؤلاء أيضا ً بأن الإنسحاب من لبنان وغزّة والهجمات الصاروخيّة اللاحقة والحروب التي تبعتها تثبت جميعها بأن فكرة الأرض مقابل السّلام لم تعد صالحة. وباختصار، هم يدّعون الآن:" نحن صنعنا الأرض التي تدرّ لبنا ً وعسلا ً". وكما قال صديقي: "لماذا نتخلّى عن كلّ ذلك في الوقت الذي نملك الوسائل للحفاظ عليها ؟". هذه مغالطة. لا يمكن الحصول على سلام ٍ حقيقي