المفاوضات المباشرة ونتائجها المحتملــــ
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
إنّ نجاح إدارة أوباما في تحريك المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينيّة من محادثات التقارب إلى مفاوضات مباشرة إنجاز مهمّ لإحراز تقدّم حقيقي. غير أنّ المفاوضات المباشرة لن تأت ِ بنتائج ملموسة إلاّ إذا أقدمت الولايات المتحدة على اتخاذ عددٍ من الخطوات المحوريّة للتأكّد بأن التقدّم الذي تمّ إحرازه في المفاوضات لا يُلغى وسيقود أخيرا ً إلى اتفاقيّة نهائيّة. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع الولايات المتحدة من خلالها تجنّب المآزق والحفرات التي وقعت فيها المفاوضات الثنائية في الماضي بحيث إذا توقّفت أو انهارت المفاوضات لأي سبب كان، يُمكن استئنافها من النقطة التي تُركت فيها. أضف إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تشارك في المفاوضات بصورة مباشرة وفعّالة بحيث تأخذ دور "المؤتمن لديه" لأية اتفاقيّة مرحليّة يتمّ التوصل اليها، وفي نفس الوقت فكّ التقدّم الذي يحصل في أية قضيّة معيّنة عن القضايا المتبقيّة الغير محلولة. ولهذه الغاية، يتوجّب على إدارة أوباما التركيز على الخطوات الأربع التالية:
أوّلاً، على إدارة الرئيس أوباما إقناع إسرائيل للشروع في المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين بالتركيز على قضيّة الحدود. فمعالجة قضيّة الحدود النهائيّة ستعطي أوّلاً وقبل كلّ شيء إشارة ً للفلسطينيين بأنه يتمّ التفاوض الآن وبجدية حول قضيّة في لبّ الصّراع حيث تشكّل هذه القضيّة أحد الدّعائم الرئيسيّة لحلّ الدولتين، الأمر الذي سيعزّز موقف الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بشكل ٍ جذريّ. وسيكون لهذا الأمر أيضاً تأثيرا ً سيكولوجيّا ً وعمليّا ً هائلا ً على الفلسطينيين حيث أنّه سيعالج بغير قصد وضع أغلبيّة المستوطنات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة. وسيسمح ترسيم الحدود لكلا الجانبين أن يقررا عن طريق التفاوض أيّة مستوطنات ستنضمّ إلى إسرائيل عن طريق مبادلة أراض ٍ بنفس الحجم والنوعيّة، وأيّة مستوطنات ستؤول للفلسطينيين وأخرى مطلوب تفكيكها. ونتيجة لذلك، فإن بناء المستوطنات أو التوسّع في القائم منها حاليّا ً لن يعد بعد الآن نقطة خلاف ٍ أو نزاع ٍ بين الطرفين حيث أنّ إسرائيل ستبني فقط داخل المستوطنات التي ستتقرّر أن تكون جزءا ً من إسرائيل. لقد تمّ
البحث في موضوع الحدود وبصورة شاملة ومفصّلة مرّتين في الماضي، وبالتحديد في عام 2000 في منتجع كامب ديفيد وفي عام 2008 بين حكومة أولمرت والسلطة الفلسطينيّة، وتمّ التوصّل إلى اتفاقية مبدئيّة في كلتا الدورتين من المفاوضات. وبالإستفادة من هذه الخبرة، من الممكن تصوّر الوصول إلى اتفاقيّة بشأن الحدود في غضون ستّة أشهر. ولكن النقطة الحرجة هنا أنّه في حالة التوصّل إلى اتفاقيّة حول الحدود، يجب حمايتها من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وفكّها من أية قضيّة أخرى، بما في ذلك قضية اللآجئين الفلسطينيين ومستقبل القدس الشرقيّة. زد على ذلك، سيصبح لدى الفلسطينيين اهتمام بالغ في الإستمرار بعمليّة التفاوض وسيكونوا ميّالين إلى حدّ بعيد للتفاوض حتّى خط النهاية حيث أنّ صورة دولتهم ستكون على مرمى أبصارهم.
ثانيا ً، يجب على الولايات المتحدة توسيع المفاوضات إلى ما وراء نطاق الرّباعيّة الدوليّة وخارطة الطريق وذلك باحتضان مبادرة السّلام العربيّة رسميّا ً كالإطار المركزي لاتفاقية سلام ٍ عربيّة – اسرائيليّة شاملة وبهدف تغيير ديناميكيّة المفاوضات. هذه الخطوة حرجة ومهمّة جدّا ً في هذه المرحلة الحاسمة لأسباب ٍ خمسة هي: 1) ستعطي الدول العربيّة الثقة بأن الولايات المتحدة ملتزمة بحلّ شامل. ولذا ستكون هذه الدول ميّالة أكثر لاستثمار رأسمال سياسي أكبر في العمليّة السلميّة، 2) ستسمح لإدارة أوباما الإصرار على أن تقوم بعض الدول العربيّة القياديّة مثل المملكة العربية السعوديّة ودول أخرى خليجيّة وشمال إفريقيّة بالقيام بالمقابل ببعض التنازلات لإسرائيل، شاملة ايماءات ودّيّة مثل استعمال الأجواء العربيّة وفتح مكاتب أو مراكز تجاريّة. وستقطع مثل هذه الإجراءات شوطا ً كبيرا ً في إصلاح موقف الكثير من الإسرائيليين المعارضين لمبادرة السّلام العربيّة وتحرير الكثيرين من الوهم اللذين لا يعتقدون بأنّ الدول العربيّة عازمة على صنع السّلام. أضف إلى ذلك، ستقوّي يد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع شركاء ائتلاف حكومته بتزويده بالتغطية السياسيّة اللازمة للقيام بتنازلات ما دامت المفاوضات تتقدّم بنجاح، 3) ستزيد من التزام الدول العربية للعمليّة السلميّة وتعزّز تصميمهم للتعامل مع أية مجموعات رافضة مثل حماس بإعادتها للحظيرة العربيّة بشكل ٍ أو بآخر، بما في ذلك الدبلوماسيّة القهريّة، 4) من الضروري لممثلي الدول العربيّة القياديّة الإستمرار في التواجد كمراقبين على طاولة المفاوضات ما بعد الجلسة الأولى التي ستُعقد في البيت الأبيض في اليوم الثاني من أيلول (سبتمبر) القادم. ستعزّز مشاركتهم موقف محمود عبّاس في تقلّدهم دور الدرع السياسي الذي سيوفّر الدعم والحماية اللتين سيحتاجهما عبّاس من العالم العربي لاتخاذ قرارات صعبة في
المفاوضات، و 5) سيوفّر احتضان مبادرة السّلام العربيّة أيضاً بيئة مفيدة وضروريّة في محاولة ضمّ حماس للعمليّة السياسيّة وللتقدّم أيضا ً في المباحثات الإسرائيليّة – السوريّة. وبالرغم من أنّ مواقف حماس متشدّدة، فمن الحكمة بالنسبة للولايات المتحدة والسلطة الفلسطينيّة ومصر تشجيع حماس لقبول مبدأ مبادرة السّلام العربيّة لكي تصبح جزءا ً من العمليّة السلميّة ما دامت أيضا ً تحافظ على موقفها الحالي الخالي نسبيّا ً من العنف. فإذا تمّ تجاهل حماس، ستحاول هذه بشتّى الوسائل تقويض مفاوضات السّلام. وعلى نحو ٍ مماثل، على إدارة أوباما إعداد الأرضيّة لإعادة استئناف المفاوضات الإسرائيليّة – السوريّة، فالسّلام بين إسرائيل وسوريا يبقى قضيّة مركزيّةً لتحقيق الإستقرار الإقليمي. وختاما ً، ومن خلال هذه الجهود يجب على الولايات المتحدة أن تبقى مشاركة ً وملتزكة ً بصورة مباشرة وفعّالة، تقدّم أفكاراً جديدة وتقيم جسورا ً بين مواقف متباينة وتحثّ على التقارب للحصول على نتائج.
ثالثاً، من الأمور التي تعتبر في غاية الأهميّة قيام الرئيس أوباما مباشرة ً بمخاطبة الجمهور الإسرائيلي، ويُفضّل أن يكون ذلك إمّا بزيارة إسرائيل أو على الأقلّ بتخصيص مؤتمر ٍ صحفي في أعقاب استئناف المفاوضات المباشرة في مطلع شهر أيلول (سبتمبر) القادم. وبالرغم من قيام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتكرار التزام أمريكا الذي لا يهتزّ بأمن إسرائيل القومي، إلاّ أنّه ما زال هناك خوف كبير بين الإسرائيليين حول الإلتزام الشخصي للرئيس الأمريكي بذلك، فالعلاقات الثنائية الأمريكيّة – الإسرائيليّة كانت خلال الثمانية عشر شهرا ً الأولى من رئاسته مترنّحة وضعيفة لأسباب ٍ عدّة، منها الإختلاف حول ضرورة تجميد أنشطة الإستيطان. ويبدو الآن بأنّ الرئيس الأمريكي أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قد توصّلا إلى صيغة تفاهم أفضل بكثير فيما يتعلّق بمستلزمات إجراء مفاوضات ٍ مثمرة مع الفلسطينيين، وبالأخصّ بعد زيارة نتنياهو للبيت الأبيض يوم 6 تمّوز (يوليو) الماضي. ومن المهمّ مع هذا التقدّم أن يبيّن الرئيس الأمريكي للإسرائيليين ليس فقط التزام أمريكا الغيرقابل للتفاوض حول أمنهم القومي، بل أيضا ً أنّ السعي وراء السّلام مع الفلسطينيين على أساس حلّ الدولتين يقدّم لإسرائيل ضمانات أمنيّة بعيدة الأمد وبأن هذا يبقى الخيار الحيويّ الوحيد لحلّ النّزاع. وبالفعل، يجب على الرئيس أن يؤكّد بأنّ مصالح أمريكا الإستراتيجيّة في الشرق الأوسط مجدولة مع مصالح الأمن القومي لإسرائيل. ومصالح أمريكا المشتركة في الأمن والإستقرار في جميع أرجاء المنطقة ستتقدّم بشكل ٍ جذري إلى الأمام بسلام ٍ شامل ما بين إسرائيل والدول العربيّة. أضف إلى ذلك، على الإسرائيليين أن يفهموا بأنّ التعامل مع أيّ تهديد ٍ ناشيء من إيران أو من وكلائها حماس وحزب الله وآخرين يحتاج
إلى نهاية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مع الدّعم الكامل من طرف الولايات المتحدة والدول العربيّة.
قد يثير قيام الرئيس الأمريكي بزيارة لإسرائيل في هذا الوقت بالذات انتقادات من بعض الذين سيتهمون الرئيس "بالقودنة" السياسيّة في عام انتخابات. ولكن على العكس من ذلك، فان القيام بزيارة ٍ في هذا الوقت بالذات قد يُثلّم تأثير نقّاد إدارة الرئيس أوباما الذين بدأوا باستخدام مشاحنات الماضي ما بين البيت الأبيض وإسرائيل كأداة سياسيّة خلال هذا الموسم الإنتخابي. وبوضع مثل هذه السخرية جانبا ً، ليس هناك أقوى من حضور رئيس الولايات المتحدة في بلد ٍ يسعى بشدّة لاستعادة الرابطة التاريخيّة بين البلدين. زد على ذلك، إذا كان الإسرائيليون مطمئنين وواثقين فقط من وضع العلاقات الأمريكيّة – الإسرائيليّة، سيميلون على الأرجح للقيام بالتنازلات القيّمة المطلوبة لعقد اتفاقيّة سلام. وتحت هذه الظروف فقط سيطالب الجمهور الإسرائيلي حكومته القيام بالتنازلات اللازمة لتحقيق سلام ٍ مع أمن.
وأخيراً، على الرئيس الأمريكي أن يستخدم زيارته لإسرائيل للتأكيد مرّة ثانية للإسرائيليين بأنّ الولايات المتحدة ملتزمة ً بمنع ايران من حيازة الأسلحة النوويّة. فالإسرائيليّون مرتعبون من احتمال أن تقوم ايران في نهاية المطاف، إن لم يتمّ ايقافها، بامتلاك أسلحة نوويّة وستواجه اسرائيل بذلك تهديدا ً بوجودها. والتصريح العلني للرئيس الأمريكي بالتزام الولايات المتحدة بالتّصدي لمثل هذا السيناريو – بلغّة ٍ واضحة تماما ً لا لبس فيها – سيبعث برسالة مهمّة ليس فقط للشعب الإسرائيلي بل لإيران أيضا ً. وإطلاق هذا التصريح من اسرائيل سيعطي إشارة ً واضحة للموقف الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكيّة فيما يتعلّق ببرنامج ايران النووي، وفي نفس الوقت يقول للإسرائيليين بأنّ أمريكا تقف جنبا ً إلى جنب مع بلدهم. لا حاجة للرئيس الأمريكي أن يهدّد النظام الإيراني بالقوّة العسكريّة لإظهار التضامن مع إسرائيل، ولكن سيكون لمثل هذه الرسالة، على أيّة حال، أهميّة من نوع ٍ خاص لأنّه في حالة استعمال القوّة العسكرية كملاذ ٍ أخير ضد منشآت ايران النووية من قبل أيّ من الطرفين، سيقف كلا البلدين، الولايات المتحدة وإسرائيل، في خندق ٍ واحد.
لقد استثمر الرئيس أوباما حتى الآن رأسمال سياسي مهمّ في محاولة استئناف مفاوضات مثمرة بين اسرائيل والفلسطينيين. وعليه الآن استثمار المزيد لإنهاء هذا الصّراع الدامي الذي استمرّ حتى الآن عقودا ً طويلة. وسيعطي استئناف المفاوضات المباشرة الرئيس
فرصته الأولى منذ توليه منصبه في السعي بنجاح ٍ لسلام ٍ إسرائيلي – فلسطيني عن طريق حلّ الدولتين. وستكون هذه على الأرجح فرصته الأخيرة، فلن يؤخّر ببساطة فشل التوصّل لاختراق في المفاوضات هذه المرّة عقد اتفاقيّة سلام أو حتّى استعادة الوضع الراهن فحسب، بل سيقوّض أيضا ً بصورة جسيمة مصداقيّة الرئيس الأمريكي وقد يؤدي إلى مرحلة ٍ متجدّدة من العنف الدموي وعدم الإستقرار، إن لم يكن لحرب ٍ شاملة. وبذلك يتأخّر أمل التوصّل إلى حلّ للنزاع العربي – الإسرائيلي مدّة جيل كامل من الزمن على الأقلّ مع ما سيترتّب على ذلك من عواقب وخيمة. لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا الدول العربيّة تستطيع أن تسمح بمثل هذا الإنهيار في هذه المرحلة الحاسمة بالذات، وبالأخصّ في وقت ٍ يستمرّ فيه احتدام الحرب في افغانستان والعنف ما زال يُبلي العراق والتوتّر ما بين إسرائيل ولبنان يحتدّ تدريجيّا ً، وايران تتسابق نحو امتلاك أسلحة نوويّة.
توحي بشدّة الخبرات المستفادة من مفاوضات ٍ سابقة بأنّ الإجراءات الواردة في هذا المقال يجب أن تؤخذ بعناية بعين الإعتبار لتجنّب مآزق وشراك الماضي. وبالأخصّ، يجب على الولايات المتحدة أن تتقلّد دور "المؤتمن إليه" والحكم النهائي لجميع الإتفاقيات المرحليّة التي يتمّ التوصّل اليها – مثل قضيّة الحدود – وأن تلزم كلا الطرفين باحترام هذه الإتفاقيّات في المستقبل في حالة انهيارالمفاوضات عند أيّة مرحلة لأيّ سببٍ كان، بما في ذلك تغيير الحكومات. وللتأكيد، يجب أن تصرّ الولايات المتحدة على استئناف المفاوضات المستقبليّة من النقطة التي توقّفت عندها المفاوضات الجارية، وإلاّ ق&#