أين أنت من هذا كلّه يا إسرائيل ؟
في الوقت الذي يلتئم العالم العربي فيه ملبياً النداء من أجل الديمقراطية، نجد أنّ ديمقراطية إسرائيل بدأت تنحلّ، وفي حين يطالب العالم العربي بمحاسبة زعمائه، يواجه زعماء إسرائيل تحقيقات واتهامات. وفي الوقت الذي يطالب فيه أيضاً العالم العربي بمزيد من العدالة الاجتماعية والفرص الإقتصادية، تستمرّ الفجوة في إسرائيل بين الغني والفقير في الإتساع. لقد اكتشف العالم العربي قوّة المظاهرات السلمية في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بالاعتماد على القوة العسكرية بدلاً من صنع السلام لحماية مصالحها القومية. ويبدو أنّ العالم العربي مصمّم على قيادة بلدانه بصورة أكثر فعالية نحو مستقبل أفضل، في حين تتخبّط إسرائيل في خطاها وتبدو بدون قيادة وبدون نظرة للمستقبل، والأخطر من ذلك كله لا مبالية. ففي حين كان ميدان التحرير في القاهرة يعج بالمحتجين، وفي الآونة الأخيرة أيضاً ميدان اللؤلؤة في المنامة / البحرين وفي غيرها من المدن العربية الأخرى عبر المنطقة، بقي ميدان رابين في تل أبيب هادىء بصورة مخزية. ليس المقصود من ذلك هنا بأن العالم العربي على حافة حركة تحديثٍ اجتماعية – اقتصادية وسياسية تجعل إسرائيل واهنةً خلفها، بل السؤال هو: أين الإسرائيليون اللذين يطالبون بتغييرٍ يؤدي للسلام ولازدهار كلّ الإسرائيليين؟
أين القادة اللذين لديهم السلطة؟ – هم منشغلون تماماً في البقاء في السلطة وفي صدّ الإتهامات وفي المراوغة والتحايل من أجل الحصول على أصوات. والطريقة المنهجية المخزية التي يقوم بها وزير الدفاع إيهود باراك بتفكيك حزب العمل الذي كان يقوده يوماً هي مؤشر لقيادة إسرائيل الحالية وسياساتها في الوقت الحاضر. لقد وضع جانباً القيم والمناصب التي انتخب لخدمتها، وذلك للبقاء في مركز السلطة وتعزيز شخصيته الذاتية التي يبدو أنها
-2-
تزداد غروراً مع كلّ يومٍ يمرّ. لربّما تعلّم ذلك من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أصبحت ولاية رئاسته الثانية ممارسةً في العبثية، فليس لديه سياسة أخرى سوى البقاء في السلطة. فأية سياسة قد يتبعها نتنياهو مرهونة بفيتو وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، هذا الشخص الملعون والمُزدرى من جزءٍ كبير من العالم لأفكاره العنصرية والذي سيواجه هذا الشهر اتهاماً وشيكاً بقضايا فساد ورشوة وخيانة الأمانة وغيرها. ليس باستطاعة نتنياهو وليبرمان حتّى أن يتفقا على من يكون سفير إسرائيل في بريطانيا، فما بالك شكل السياسة الخارجية التي يتنازع كلاهما على رسمها.
المعارضة في إسرائيل للأسف الشديد بدون قيادة ومستخف بها. فرئيسة حزب كاديما، تسيبي ليفني، غير قادرة على تثبيت نظامٍ في الحزب أو خلق ثقة كافية في قيادتها، وأعضاء حزب كاديما في الكنيست يعارضون بانتظام بعضهم بعضاً في قضايا تعرض على البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، بما في ذلك استقصاء المنظمات الغير حكومية اليسارية التي تُعرّض الديمقراطية وحرية التعبير للسخرية. فندرة عرض أية أفكار واضحة ومعقولة من حزب كاديما يُثبّط فعلاً العزيمة. ملاحظات عضو الكنيست من حزب كاديما، شاوول موفاز، الأسبوع الماضي بأن على الولايات المتحدة وقف المساعدة العسكرية عن مصر – في وقتٍ تخدم فيه هذه المساعدة كحافز مهمّ للمحافظة على التعاون ما بين الجيش المصري والولايات المتحدة وإسرائيل – كانت مربكة ومحيّرة بشكلٍ خاص. هذا وتمّ القبض قبل أسبوعين على موشيه شوري، المدير العام لحزب كاديما، بتهم الفساد. وبالفعل، فحزب كاديما لا يبدو إلاّ مختلفاً بشكلٍ ضئيل عن نظرائه الفاسدين في حكومة نتنياهو، وتبقى إسرائيل بأملٍ ضعيف في بزوغ قادة برؤى مستقبلية.
وأين الجنود؟ – من اتخذ منهم موقفاً ضد احتلال إسرائيل يدافع عن نفسه الآن ضد تهم الخيانة. أولئك اللذين انضموا إلى مجموعات مثل "كسر الصمت" – وهذه الأخيرة منظمة تجمع شهادات الجنود الإسرائيليين اللذين يخدمون في قوّة الاحتلال – قد وُصموا بالخيانة
-3-
لانتقادهم واستنكارهم عمليات قام بها الجيش الإسرائيلي. وفي نفس الوقت يصبح الضباط الإسرائيليون ووحدات قتالية أكثر عقائدياً وتديناً يوماً بعد يوم، هذا في حين يعتمد فيه فعلاً أمن إسرائيل القومي على جنود غير عقائديين وملتزمين فقط بالأمن القومي للدولة. ففي عام 1990 لم يكن سوى 2.5 بالمائة من جنود المشاة متدينين، وفي عام 2007 قفزت هذه النسبة إلى 31.4 بالمائة. وتخرّج إبّان ذلك برامج التحضير الديني وحدات مشاة أكثر بكثير من غيرها. (80%) من الخريجين المتديّنين ينضمون إلى الوحدات القتالية مقارنةً بِ (40%) على مستوى جميع أفراد الجيش. لقد نفّذ الجنود الإسرائيليون دوماً مهامهم بكرامةٍ وانضباط وعليهم ألاّ ينجرّوا أبداً للمستنقع السياسي الإسرائيلي.
وأين الآباء والأمهات؟ – هم يشاهدون كيف يلقن أولادهم وبناتهم الحماس المفرط وحتّى التعصب الأعمى. لقد بيّن استطلاع أجرته قبل أكثر من سنة ماغار موخوت، وهي مؤسسة أبحاث إسرائيلية، بأنّ حوالي (50%) من طلاب المرحلة الثانوية الإسرائيلية لا يعتقدون بأنه يجب أن يكون للعرب نفس الحقوق كاليهود في دولة إسرائيل. ويساند وجهة النظر هذه ثمانون بالمائة من طلاب المدارس الثانوية الدينية. وإبّان ذلك قال 48 بالمائة من إجمالي طلاب المدارس الثانوية في إسرائيل بأنّهم بعد التحاقهم بالخدمة العسكرية لن يطيعوا أوامر لإخلاء المستوطنات في الضفة الغربية. وفي لقاءٍ صحفي لأحد كبار المسئولين في وزارة التربية والتعليم طلب عدم ذكر اسمه معلّقاً على نتائج الاستطلاع قال: "يبيّن هذا الاستطلاع ننتائج تضع إشارة تحذير ضخمة في ضوء النزاعات القوية للآراء المتطرفة بين الشباب." ولكن الآن، وبدلاً من معالجة المشكلة، تقوم وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بتصعيدها. لقد أعلن وزير التربية والتعليم الإسرائيلي جيديون سار في الآونة الأخيرة عن خطط لجلب طلاب مدارس إسرائيليين إلى قبر إبراهيم (الحرم الإبراهيمي الشريف) في الخليل، الأمر الذي سيثير المزيد من الاستفزاز الغير ضروري وفي غير وقته والهادف لتعزيز الرؤية الوطنية واليمينيّة المتطرفة لدى الشباب. ولذا أعتقد بأن المستقبل، على ضوء هذه التطورات، لا يبدو زاهراً للسلام والتعايش السلمي حتى بالنسبة للجيل القادم.
-4-
إذن، أين نشطاء السلام؟ – لم يبق منهم في إسرائيل سوى قلّة وهم يزحفون بجهد لإسماع صوتهم. فقد بدت المظاهرات ضد التحقيق في شئون المنظمات الغير حكومية اليسارية التي وصلت ميدان رابين أشبه بحواضر البيت من الاحتجاجات. فمع تقلّص حزب العمل وتهميش دور ميرتس ووجود حزب كاديما في فوضى وخللٍ ودائم، لم يعد هناك مكان في الوقت الحاضر لما يسمّى "مخيّم السلام" في إسرائيل. اسرائيل مستمرّة، بدلاً من ذلك، في الإعتماد على جيشها لتوفير الأمن على المدى القريب، وكان أحرى بها أن تجنّد مبادراتها السلمية التي قد تحافظ على أمن إسرائيل لأجيال. يقول أغلبية الإسرائيليين بأنهم يريدون السلام، ولكن عندما عرضت عليهم فرصة تاريخية لصنع السلام مع جيران إسرائيل عن طريق مبادرة السلام العربية، عارضها 56% من الشعب الإسرائيلي. ففي استطلاع حديث للرأي أجري مؤخراً لقناة إسرائيل الأولى، حصلت الأحزاب اليسارية على (54) مقعداً في الكنيست مقارنة بِ (66) مقعداً للأحزاب اليمينيّة. ومن ضمن الخيارات المتنوعة التي عُرضت على المستطلعين لبيان سبب انتماءاتهم الحزبية، لم يكن هناك خيار واحد للعملية السلمية على قائمة الخيارات. ولا يبدو هذا للإسرائيليين حتى على الرادار في الوقت الحاضر.
وأين القادة الروحيون؟ – إنّهم يزرعون بذور التفرقة والتمييز بدلاً من التعايش السلمي. فقد اجتمع الأسبوع الماضي 70 حاخاماً للتضامن مع الحاخام دوف ليور الذي يواجه الآن أمر اعتقال لرفضه الرد على أسئلة تتعلّق بموافقته على كتاب يدعو لقتل غير اليهود الأبرياء أثناء فترة الحرب. وفي شهر كانون أول (ديسمبر) من العام المنصرم أُثير الكثير من الضجة لخمسين حاخاماً اشتركوا في رسالةٍ تعارض قيام اليهود بتأجير مساكن للعرب. ورسالة أخرى موقعة من حوالي 30 زوجة لحاخامات يعارضن قيام بنات يهود بمواعدة عرب أو حتى العمل في نفس المكان الذي يعمل فيه غير اليهود. وعلى أجندة قادة روحيين أيضاً في إسرائيل تجريد أفراد الجيش الإسرائيلي من حق التحوّل لليهودية معتبرين بأنّ عملية التحوّل لا تتماشى بصورة كافية مع الشرائع الدينية اليهودية. وإن نسينا فلن ننسى الحاخام عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحركة شاس الشرقية التي تشكل جزءاً من الإئتلاف الحكومي، الذي احتل عدة مرات العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام خلال العام المنصرم لتصريحاته العنصرية المتطرفة. لقد دعى لقتل الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقال أن غير اليهود خلقوا فقط لخدمة اليهود وبأنّه يجب منع النساء من تعليم الأطفال فوق سنّ التاسعة من العمر.
-5-
وفي أثناء ذلك يخيّم السكوت على المزيد من رجال الدين التقدميين، مركّزين عوضاً عن ذلك على جهودهم في كسب مكانة أكبر في المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك التصديق على المراسم الدينية لغير الأرثوذكس مثل مراسم الزواج. فبدلاً من أن يكونوا جزءاً من الحلّ أصبح القادة الروحيون جميعاً في كثيرٍ من الحالات جزءاً من مشكلة الرّضا الذاتي الإسرائيلي المستوطن.
وأين رجال الأعمال؟ – هم راضون عن وضعهم ولا مبالين بما حولهم. الحياة لرجال الأعمال الناجحين جيدة في إسرائيل – ولكنها ليست جيدة لأية شريحة أخرى في المجتمع. لقد نما اقتصاد إسرائيل في عام 2010 بنسبة مثيرة للإعجاب وهي 5.4 بالمائة، شاملة نسبة 7.8 بالمائة في الربع الأخير من العام المنصرم. ولكن يشير على أية حال التقرير الأخير لمعهد التأمين الوطني بأن 23 بالمائة من السكان الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر و 29 بالمائة أيضاً على وشك الإلتحاق بهم. يبلغ متوسط راتب المدير التنفيذي في أكبر 25 شركة تابعة لسوق الأوراق المالية في تل أبيب (94) ضعفاً من المتوسط الوطني. أضف إلى ذلك' الطبقة المتوسطة في تقلّص سريع. ففي عام 1988 كانت نسبة الطبقة المتوسطة 33 بالمائة من المجتمع الإسرائيلي، وهبطت هذه النسبة في عام 2009 إلى 26.6 %. واستناداً إلى معامل جيني للتفاوت الاجتماعي الذي وصل إلى (39.2%) في عام 2010، تعتبر إسرائيل الآن أحد أكبر المجتمعات المتباينة في العالم. ولكن ما زالت الطبقة المحرومة حتى هذه الساعة هادئة وراضية بشكلٍ ينذر بالخطر.
وأخيراً، أين الطلاب والمجتمع الأكاديمي النابض بالنشاط والحياة؟ – لقد تظاهر ما يزيد عن ألف طالب جامعي في القدس في شهر نوفمبر من العام المنصرم احتجاجاً على منح حكومية لطلاب المدارس والمعاهد الدينية. ولكن أين هؤلاء المعارضين لسياسة إسرائيل الخارجية المشئومة والتي تنذر بكوارث؟ لماذا لا يتواجدون في الشوارع للاحتجاج ضد
-6-
سياسة حكومية ميتة قد تقود لصراعٍ مأساوي عنيف بإصرارها على الإبقاء على الوضع الراهن؟ وأين أكاديميو إسرائيل؟ فالعلماء والأدباء الإسرائيليون مشهود لهم بإبداعهم
وخيالهم الواسع. لقد فاز تسعة إسرائيليين بجائزة نوبل، بما في ذلك جائزة إسحق رابين للسلام. ولكن علماء وأدباء إسرائيل المشهورين لا يُسمع منهم في الوقت الحاضر إلاّ ما هو نادر جداً في استعمال ثقافتهم ومنابرهم الجامعية بحزمٍ وإصرار لتجنيد الدّعم اللازم للسياسات التي تقود إسرائيل لمستقبلٍ أفضل. فلماذا لا يرفعون أصواتهم الآن بصورة جماعية وبانسجام، يوم بعد يوم، للاحتجاج على جنون حكومة فقدت بوصلتها المعنوية؟
إنّ خلوّ ميدان رابين من الحركة مخيف للغاية. بدون تغيير ستترسّخ الاتجاهات المقلقة في المجتمع الإسرائيلي وستتجه المنطقة نحو جولة أخرى من سفك الدماء التي يمكن اشعالها في أية لحظة. إسرائيل هي الأمة التي يحمل نشيدها الوطني أملاً أزلياً والتي استولى جدّها المؤسس تيودور هيرتسل كما هو معروف على روح الصهيونية بإعلانه:"إذا أردته، فهو ليس بحلم." واليوم أصبح الأمل في إسرائيل مؤونة شحيحة وقليلون هم اللذين يكشفون عن أية إرادة لخلق مستقبل أفضل.
يبدو أن فكرة أن تصبح إسرائيل "منارةً يهتدي بها بين الأمم" تعيش في سلمٍ وأمان مع جيرانها حلمٌ بعيد في الوقت الحاضر. وإذا لم يغيّر البلد مساره ويبدأ في تحويل ما يبدوالآن حلماً إلى حقيقة، فقد يواجه كابوساً بأبعاد مروّعة.