فات الأوان عليك يا أسد!
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
بعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة الشعبيّة في سوريا كتبت في إحدى مقالاتي بأنّ للرئيس السوري بشار الأسد أحد الخيارين:" إمّا الاستمرار في حمل صورة الديكتاتور أو إظهار قيادة شجاعة ورؤية بعيدة للاستفادة من فرصة الاضطرابات في البلاد للقيام بإصلاحات سياسية …….". وفي خطابه يوم 19 مايو وضع الرئيس باراك أوباما في ملاحظاته حول الشرق الأوسط خياراً مماثلاً للنظام السوري بقوله:" للرئيس الأسد الآن الخيار: بإمكانه إمّا قيادة فترة انتقالية للديمقراطية أو التنحي عن السلطة". وفي خطاب موجه لشعبه فوّت الرئيس بشار الأسد على نفسه مرّة أخرى فرصة مواجهة الحقيقة ومعالجة مظالم شعبه الفعليّة. وبالرّغم من أنّه اعترف بأن هناك لبعض المحتجين المسالمين شكاوي مشروعة، غير أنه عاد ليضع اللوم فيما يجري من اضطرابات وعنف على " مخرّبين وخارجين عن القانون وأكاديميين متطرفين وملحدين".
لقد استنكر معظم المراقبين خطاب الأسد على أنه خطاب عام جداً بدون أية بنود محددة أو تفاصيل حول الإصلاحات، وهو بذلك لم يقدّم للمحتجين أي أمل لتغيير ملموس نحو الأفضل في المستقبل القريب. ومنذ خطابه هذا يستمر الأسد – بدلاً من إظهار استجابة والشروع بحوار وطني صادق وجادّ – في استعمال القوة المفرطة لإخضاع المحتجين وبذلك يخسر ما تبقى له من مصداقيّة. لقد أصبح واضحاً بأنّ الأسد قد انتقى اختياره. فبأكثر من (1400) قتيل سوري وأكثر من (10.000 ) فرّوا خارج البلاد ونفس العدد هذا تقريباً يقبعون في السجون، فات الأوان على الرئيس الأسد للتكفير عن ذنوبه. وبالرّغم من كلّ ذلك، يبقى المجتمع الدولي
-2-
ضعيفاً لا يفعل شيئاً. فبدون إجراء صارم من المحتمل أن ينقاد الأسد إلى خطوات خطيرة ويائسة للاحتفاظ بسلطته وقد تصبح سوريا متورطة في نزاعٍ طائفي داخلي طويل الأمد يعمل على تكوين حالة نموذجية من عدم الاستقرار تؤثرعلى المنطقة بأكملها.
قد تكون بداية نهاية الأسد في مدينة جسر الشغور الواقعة شمالا ً. هناك يدّعي نظام الأسد بأنّ (120) جندياً سورياً قد قُتلوا على يد متظاهرين مسلّحين. غير أنّ التقارير المنتشرة في أنحاء البلاد من آلاف السوريين الذين فرّوا من المدينة إلى المناطق التركية الحدودية القريبة تسرد قصة أخرى وهي أنّ الضباط قد قُتلوا بعد فرارهم من الجيش وقتال زملائهم في السلاح. وما كان ردّ نظام الأسد سوى عزمه على تسوية نصف المدينة بالأرض في استعراض وحشي للقوة مذكّراً بأهوال المذبحة الشنيعة التي اقترفها والده عام 1982 في حماة. وفي حين كان والد بشار وهو الرئيس السابق حافظ الأسد ناجحاً في استخدام السلطة المفرطة لإخماد الثورة آنذاك، غير أنّ دلائل التمرد العسكري اليوم تشير إلى أن أي نجاح للأسد في إخماد الثورة ستكون لفترة زمنية قصيرة. وستكون فقط مسألة وقت لحين نهوض الشباب السوري مرّة ثانية. غير أنّ هذه المرّة لن تكون هناك أية قوّة، مهما كانت عنيفة أو وحشية، قادرة على إخضاعهم.
لقد بيّنت الأحداث في تونس ومصر كيف أنّ الجيش، إذا انقلب على الحكومة، فإن سقوطها سيصبح وشيكاً . وفي حين أنّ قادة الجيش السوري هم من طائفة العلويين، وهي الأقلية الحاكمة التي ينتمي إليها الأسد، فإن معظم المجنّدين من السنيّين. هؤلاء الجنود يعلمون بأنهم مراقبون جيداً وأنّ أية علامات تمرد من الخدمة العسكريّة تحمل معها عواقب قاتلة. ولكن مع نموّ العنف بدون تمييز ضد المدنيين وانتشار الجيش على مناطق واسعة، هناك دلائل قوية بأن الجنود سيبدأون بالتمرّد بالجملة ونظام الأسد سيصل في النهاية لحافة الانهيار.
-3-
سيحاول الأسد بالطبع فعل كل شيء لتجنب مثل هذا السيناريو. فالزّحف الاستفزازي للسوريين باتجاه الحدود مع إسرائيل قبل بضعة أسابيع لا يتعدّى كونه دليلاً لحاجة الأسد إلى صرف الأنظار عن المجازر التي تحدث في بلده. وإذا وقع الأسد في اليأس قد يلجأ لمزيد من المواجهة المباشرة مع إسرائيل معتقداً بأن نزاع جديد سوري – إسرائيلي قد يوحّد الشعب السوري بدعمٍ من حكومته. ولكن هذا الأمر خادع. ليس بمقدور الأسد بعد الآن خداع الشعب السوري الذي سيبتهج عند سقوط نظامه. وقد يزيد الأسد من دعمه أيضاً للعمليات الإرهابية التي قد تصرف الانتباه عن الوضع في سوريا، هذا في الوقت الذي سيسعى فيه لإحراز مساعدة أكبر من إيران ووكيلها المجاور حزب الله، غير أنّ هذا الأمر سيكون أيضاً بمثابة دعوة إسرائيل لإنهاء نظام حكمه. سيدرك الأسد عن قريب أنّ ليس لديه خيار آخر وقد يأسف لعدم استيفاء وعوده الفارغة بإجراء إصلاحات. وقد يدرك أيضاً بأنّ الطريقة الوحيدة التي سيسمح له فيها بالموت كحاكم سوريا مثل والده هي أن يموت على أيدي الشعب السوري الغاضب.
لم يعد السؤال الآن إذا كان الأسد سيسقط أم لا، فالمسألة مسألة وقت. ولكن السؤال الآن هو كيف ستصبح سوريا بعد رحيل بشار الأسد؟ قد تصبح الطوائف السورية المتذمرة والمتصارعة مع بعضها البعض من علويين وسنيين وأكراد وشيعة وغيرهم والخالية من قيادات قوية صيغة مثالية لكارثة موقوتة. سيكون من الصعب مكافأة و إرضاء هؤلاء، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً بأن الأقلية العلوية الحاكمة لا تتجاوز كثيراً نسبة ال 10% من الشعب السوري. لقد وقعت حتى الآن بعض أعمال عنف طائفية في البلاد. ولن يُحدث التدهور الاقتصادي الذي يلازم الأحداث الحالية سوى المزيد من التوتر. وفي غياب أية سلطة ستكون إيران والمجموعات الإرهابية التي تدعمها في وضعٍ فريدٍ من نوعه لترسيخ نفوذها في البلاد. وبقيام بشار الأسد بالإعتماد حتى الآن بشكلٍ كبيرٍ جداً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن هذه تتمتّع بنافذة فريدة من نوعها داخل الديناميكيات الحالية في سوريا، وهذه فائدة محروم منها العالم الغربي. أضف إلى ذلك، ممّا يمكن تصوره هو أن تقوم إيران باستخدام حزب الله أو حتّى وحدات من الجيش الإيراني في محاولة منها لإنقاذ نظام الأسد أو
-4-
تنصيب نظام مؤيد لمصالح طهران. ومع مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي على طول حدود إسرائيل، سيزداد احتمال نشوب حرب جديدة بين إسرائيل وحزب الله. وإبّان ذلك، ومع ازدياد تدفق اللاجئين داخل الأراضي التركية، قد تجد أنقرة نفسها مضطرة لدخول المناطق السورية لمنع انتشار الاضطرابات من عبور الحدود التركية – السورية. وستكون على الأرجح حالة عدم الاستقرار والتشكك التي ستتبع سقوط الأسد مشابهة للحرب الطائفية العراقية أو اللبنانية، مع زيادة في التعقيد من طرف الدول المجاورة مثل إسرائيل وإيران اللتان ستتخذان إجراءات لضمان الاحتياجات الأمنية أو حتى ملء فراغ القوة الناتج عن ذلك كلّه.
إنّ التحديات التي ستواجه تشكيل أية حكومة ظلّ هي تحديات كبيرة. ولكن إذا قُدّر للمعارضة أن تنجح فإنها ستكون بحاجة إلى دعم المجتمع الدولي. ولكننا نرى اليوم المجتمع الدولي عاجزاً بشكلٍ مزري عن فعل أي شيء لوقف ذبح الشعب السوري. وجامعة الدول العربية منذ وقت طويل بدون نفوذ في سوريا مع اختيار الأسد أن يكون في صف طهران ضد رغبات الدول العربية الأخرى. ومن الناحية الأخرى، فإن غياب أي صوتٍ عربي يقف مع الشعب السوري لهو أمر مخجل أيضا ً. ففي حين أن جامعة الدول العربية قد لعبت دوراً مهماً في الدعوة للإطاحة بمعمر القذافي، فإن الجملة الوحيدة المقتضبة التي صدرت عن الأمين العام لجامعة الدول العربية والمرشح الآن للرئاسة المصرية السيّد عمرو موسى كانت:" هناك قلق في العالم العربي وفي المنطقة بخصوص الأحداث في سوريا."
يجعل الافتقار إلى قيادة عربية قوية احتمال أن تقوم إيران بالتقاط الأجزاء الناتجة عن سقوط الأسد احتمالاً كبيراً. لم تفعل الولايات المتحدة إبّان ذلك أي شيء أفضل. فبعد ثلاثة أشهر من الانتفاضة حتى الآن قامت الولايات المتحدة بالدّعوة مباشرة لتنحي الأسد عن الحكم وقامت فقط بسحب السفير الأمريكي من دمشق. وعجز الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات صارمة قد زاد من تقليص المصداقية الأمريكية والنفوذ الأمريكي في المنطقة وجعل الولايات
-5-
المتحدة تظهرمنافقة وضعيفة بشكل متزايد. لقد كانت الولايات المتحدة مع فرنسا وبريطانيا عاجزةً عن تمرير قرار يدين سوريا في الأمم المتحدة. أمّا روسيا والصين، في هبوط جديد للدبلوماسية الدولية، فقد رفضتا بصفة مخزية حتى مناقشة القضية السورية، هذا في الوقت الذي كان يموت فيه عشرات السوريين كلّ يوم.
إذن ماذا يمكن فعله؟ على الولايات المتحدة ومن في المجتمع الدولي،بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، اللذين يدّعون بأنّهم يقفون إلى جانب حقوق الشعب السوري خلق سياسات تضمّ إجراءات قصرية ودبلوماسية هادئة لإخراج الأسد من سدّة الحكم ووضع الأساس لمستقبل أقلّ اضطراباً للشعب السوري. ويجب أن تشمل هذه الإجراءات عقوبات كاسحة جدية تستهدف شريحةً أكبر من المسئولين السوريين ودعم قوي لحركة المعارضة السورية الحديثة الولادة. كما ويجب أن تشمل هذه الإجراءات أيضاً دبلوماسية تعرض على بشار الأسد وأعوانه طريقة للتخلي عن الحكم مقابل لجوء سياسي قبل أن يزج البلد في دوامة طويلة الأمد من الفوضى والدمار. وبإمكان تركيا أن تلعب دوراً حيوياً ذو طابع خاصّ في هذه الجهود.
لقد تعزّزت في السنوات الأخيرة العلاقات التركية – السورية مع وجود حدود مفتوحة وتجارة متنامية. ولكن بعد أن كان رئيس الوزراء التركي المنتخب حديثاً وهو السيد طيب أوردوغان يدعو الرئيس السوري بشار الأسد "أخاً" له، قام أوردوغان في الآونة الأخيرة وبصورة علنية بلوم الحكومة السورية قائلاً بأنّ الوحدات العسكرية في الكتيبة الرابعة من الجيش السوري بقيادة شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد، "لا تتصرّف مثل البشر". أضف إلى ذلك، فبعد مكالمة هاتفية في الآونة الأخيرة مع القيادة السورية شكا أردوغان بأنّ النظام كان يستخف بالوضع. فالنفوذ التركي في سوريا ورهان تركيا على أن تكون سوريا دولة مستقرة يحتلان أهمية كبيرة. ومع رغبة تركيا أن تلعب دوراً قيادياً في المنطقة حان الوقت للولايات المتحدة والأوروبيين أن يشجعوا تركيا أكثر للقيام بهذا الدور وذلك بأن تقوم بدور الوسيط لإبعاد بشار الأسد وسوريا من التوغل أكثر في الكارثة.
-6-
لقد أخذ بشار الأسد على نفسه وعداً كقائد عربي شاب في تقاطع منطقة الشرق الأوسط أن يجري إصلاحات واعدة وأن يمسك بالعديد من مفاتيح الاستقرار والأمان والسلام والرّخاء في المنطقة، ولكنه بدّد جميع فرصه. فبدلاً من القيادة أظهر مستوىً جديداً من العجرفة والوحشيّة . إنّ اعتقاد عائلة الأسد ونظرائها في ليبيا واليمن بأن بإمكانهم حكم بلادهم إلى الأبد بدون شيء من الرضا من طرف شعوبهم لا يواجه بأقلّ من الثورة. قد لا يسمح الأسد للصحفيين بدخول سوريا، ولكن العالم يراقب رغم ذلك ما يفعله، ولا يستطيع بعد الآن إخفاء وحشيته. إنّه لأمرٌ محزن جدّاً، ويبقى أن ننتظر إذا كان بمقدور قادة العالم أن تفعل شيئاً حيال ذلك أم لا.