أهذا كل ما قامت لأجله الثورة ؟
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
يبدو أن الوعود النبيلة التي أطلقتها الثورة المصريّة تتبدّد متحوّلة ً إلى حالة من الفوضى والإخلال بالنظام ومحطّمة ً بذلك أمل قيام مصر الديمقراطيّة التقدّميّة التي كان مقرّراً لها أن تكون نموذجا ً لباقي العالم العربي. يفشل المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة حاليّا ً فشلا ً ذريعا ً في موازنة مطالب الشعب مع الحكم المسئول والقيادة الإقليميّة. واليوم تبدو مصر دولة تتخبّط بحكومة انتقاليّة تفقد بسرعة الشرعيّة في أعين شعبها وتفقد المصداقيّة في أعين المجتمع الدولي.
لقد كان الأمن من أكثر مخاوف إسرائيل منذ سقوط حسني مبارك الذي كان من أقدم حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل ومن الموثوق بهم. أثارت الهجمات الإرهابيّة – التي وقعت في جنوب إسرائيل وقتل إسرائيل أفرادا ً من الشرطة المصريّة – الجماهير الإسرائيليّة والمصريّة على حدّ سواء واضعة ً معاهدة السّلام المصريّة – الإسرائيليّة في دائرة الريبة والشكّ أكثر من أيّ وقت ٍ مضى. فبعد أكثر من أسبوع من قيام حشد ٍ من الغوغائيين المصريين بنزع العلم الإسرائيلي عن السفارة الإسرائيليّة في القاهرة هُدمت جدران مجمّع السفارة واقتحم حشد ٌ غوغائي السفارة مهدّدا ً أرواح موظفي السفارة الإسرائيلية في الداخل. وسماح قوّات الأمن المصريّة بحدوث ذلك هو أمر ٌ لا يمكن تبريره تحت أية ظروف. لقد كان من الواضح جدّا ً بأن الزّخم كان يُحشد لمثل هذا الهجوم في الوقت الذي كانت فيه قوّات الأمن الداخلي المصريّة تنظر إليه دون أن تفعل شيئا ً يذكر لمنع مثل هذا الإخلال الفظيع بالأعراف الدبلماسيّة والتزام مصر الدولي بحماية السفارات الأجنبيّة.
سيتجاوز بلا شكّ أصداء إخفاق القيادة المصريّة نطاق علاقاتها الثنائيّة مع إسرائيل وسيترك انطباعا ً رهيبا ً لدى الكثير من البلدان، وبالأخصّ الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي اللذين تعتمد عليهما مصر بدرجة كبيرة. فطبيعة أحداث السفارة تصوّر بلدا ً في فوضى تامّة وحكومة تسعى من ناحية باسم الديمقراطيّة لتهدئة حشود الغوغائيين الغاضبة في حين تحاول على ما يبدو القيام بمسئولياتها الدوليّة. ومن هنا نرى بأنّه يجب على الحكومة المصريّة المؤقتة أن تختار سياسة واضحة ومتماسكة وألاّ تتفاعل فقط حسب مطالب الحشود الغوغائيّة من عامّة الناس. وحتّى تفعل ذلك، لن يكون للمجتمع الدولي ثقة ً بأن تكون مصر شريكا ً إقليميّا ً موثوقا ً به.
من غير المحتمل أن تسمح السلطات المصريّة بانهيار معاهدة السّلام مع إسرائيل، ولكن بإهمالها قد تتدهور العلاقات لنقطة قد تشكّل منعطفا ً خطرا ً على المعاهدة وقد يؤدي حادث فردي بعد ذلك للإنهيار الكلّي. ماذا قد يحدث إذا استفزت حماس – تحت ضغط ٍ معيّن – إسرائيل لشنّ حرب ٍ جديدة على غزّة ؟ كيف سيكون ردّ الحكومة المصريّة على الغضب الشعبي بعد ذلك ؟ قد تؤدي نتيجة التصويت القادم على إعلان الدولة الفلسطينيّة في الأمم المتحدة وموجات الإحتجاج المتوقعة بعد ذلك إلى أوّل اختبار ٍ لمصر بهذا الشأن. وسيؤدي حتما ً المزيد من تقارير التوتّر في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة لدعوة الكونغرس الأمريكي إلى قطع المساعدة عن مصر، هذا في وقت ٍ تحتاج فيه مصر إلى دعم ومساعدة المجتمع الدولي لإعادة إعمار البلد.
وعلى الرّغم أنّه ليس من المتوقّع من الحكومة الإنتقاليّة الحاليّة أن تقوم بمبادرات كبيرة في السياسة الخارجيّة بل تخدم كحكومة تصريف أعمال مؤقتة ريثما يتمّ انتخاب حكومة جديدة، غير أنّ هذه الحكومة قد تحوّلت بشكل ٍ ملفت للنظر لقضايا رئيسية في السياسة الخارجيّة وذلك بالسعي للإنضمام إلى المنافستين التقليديتين لها وهما تركيا وإيران. فقد شنّ رئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة لمصر هجوما ً لفظيّا ً على إسرائيل مثيرا ً بذلك المزيد من المشاعر المعادية للإسرائيليين على الأرض المصريّة ببركة
من حكومتها، هذا إضافة ً إلى أن هذه الحكومة قد وقّعت أيضا ً على اتفاقيّات تجاريّة لزيادة الروابط التجاريّة بين تركيا ومصر إلى ثلاثة أضعاف.
أضف إلى ذلك، تستمرّ السلطات المصريّة في التقليل من شأن المنافسة التاريخيّة بين مصر وإيران، فقد سمحت السلطة المصريّة في شهر شباط (فبراير) الماضي بمرور سفينتين حربيتين إيرانيتين عبر قناة السويس إلى المتوسّط باتجاه سوريا. لم تعتمد هذه الإيماءات في أية حالة على أساس ٍ قوي لمصالح استراتيجيّة بين البلدين ولذا من غير المحتمل أن تدوم. ولكن إذا أرادت مصر أن تستعيد قيادتها الإقليميّة في المنطقة، فلا بدّ لها من استئناف دورها كمنافسة لكلا الدولتين، تركيا وإيران. فآخر ما يريده العالم العربي ومصر بشكل ٍ خاص هو عودة الهيمنة العثمانيّة على المنطقة أو الإستسلام لطموحات إيران في أن تصبح قوّة اقليميّة مهيمنة تتمتّع بقدرات ٍ نوويّة.
في نفس الوقت أصبحت دول الخليج العربي في قلق ٍ متزايد من وضع مصر. ففي حين تبحث دول الخليج عن طرق للتوصّل إلى تفاهم أفضل مع إسرائيل حول مخاوفها المتنامية بخصوص إيران، تقوّض مصر معسكر الدول العربيّة السنيّة المذهب. فبدلا ً من السعي وراء سياسة خارجيّة متماسكة، تستعمل الحكومة المصريّة إسرائيل ككرة قدم سياسيّة لصرف أنظار الجماهير واسترضائها على المدى القصير على حساب مصالحها طويلة الأمد.
لا توجد إشارة بعد ثمانية أشهر من الثورة حول الإتجاه الذي تسير فيه مصر فيما يتعلّق بالتنمية الإجتماعيّة والإقتصاديّة. لقد أطيح بمبارك، ولكن زملاؤه ما زالوا في السلطة بأسماء وألقاب مختلفة. ولذا لا غرابة أن يبقى العديد من نفس المشاكل كما هي بدون أيّ تغيير. الناس بحاجة إلى فرص عمل، تعليم، رعاية صحيّة ورؤية حقيقيّة لمستقبل ٍ أفضل. فماذا فعلت هذه الحكومة لوضع نظام ٍ اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد ؟ إننا نرى في الوقت الحاضر إضرابات للأطباء وموظفي المطارات والمهندسين وآلاف المعلمين والطلبة يتظاهرون في الشوارع.
اتخذت الحكومة إجراءات صارمة بخصوص حريّة الإعلام وتكشف التقارير عن التهميش المتزايد لدور المرأة المصريّة في الحياة السياسيّة. فبدلا ً من تطوير خطة على الأقلّ لمدّة عامين لوضع أساس لبدائل اجتماعيّة واقتصاديّة جديدة لخلق فرص عمل وتلبية بعض احتياجات الشعب الأساسيّة، تتخبّط مصر عشوائيّا ً وتتجه نحو انتخابات غير مستعدّة لها بعد الأحزاب السياسيّة التي ظهرت حديثا ً على الساحة. فالحوار الشعبي مع هذه الأحزاب ما زال محدودا ً وقد يفوز حزب الإخوان المسلمين بأكثر من ثلث المقاعد في البرلمان المصري الجديد. وما أدراك أن يكون هذا بالضبط ما يريده المجلس العسكري الحاكم، أي بالتحديد اتفاقية مريحة من تحت الباطن مع الإخوان المسلمين ما دامت الزمرة العسكرية قادرة ً على الإبقاء على سلطتها العليا بخصوص الأمن القومي وقضايا السياسة الخارجيّة ومشاريعها الإقتصاديّة الضخمة. فهل هذا حقّا ً ما يريده المصريون ؟ وهل هذا كلّ ما قامت لأجلــــــــه الثورة ؟
يؤلمني أنا شخصيّا ً – كمؤيّد لمصر ومعجب بشعبها – أن أرى حكّام مصر الإنتقاليين يقامرون بمستقبل بلدهم. أن تتمكّن مصر من الخروج من وضعها الإنتقالي من ديكتاتوريّة إلى ديمقراطيّة آمنة ومستقرّة ومزدهرة هو أملٌ يتعتّم تدريجيّا ً لمضرّة الشعب المصري والمنطقة بأكملها.