ماذا يكمن خلف تهديدات نتنياهو وباراك بمهاجمة إيران ؟
لقد منعت حكومات إسرائيلية متعاقبة في الماضي وبثبات أي نقاش علني حول برنامج إيران النووي وما قد تفعله إسرائيل لمنع إيران من حيازة أسلحة نووية. ولكن في الأسابيع الأخيرة نرى على أية حال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إيهود باراك يتحدثان علناً عن الموضوع ويصرّحان عن استعدادهما لاتخاذ أي إجراء ضروري للقضاء على التهديد الإيراني. والسؤال هو: لماذا اختار نتنياهو وباراك “الإعلان” عن مخاوفهما العميقة الآن ولماذا هذه العجلة لاتخاذ أي إجراء في هذا الظرف بالذات، حيث أن كلاهما أوعز لمراسلي الصحف للتحزّر أو التأمل بالنوايا الحقيقية الكامنة حول هذا العرض العلني وما قد يتوقعه المرء من إسرائيل. وأثناء ذلك قام مسئولون سابقون وحاليون، بما فيهم الرئيس بيرس، بالتعبير عن اعتراضات محدّدة وواضحة ضد توجيه أية ضربة عسكرية أحادية الجانب ضد إيران ومؤكدين أنه إذا دعت الضرورة الملحة للقيام بمثل هذا العمل، يجب أن يكون بالتأكيد بقيادة الولايات المتحدة لحماية إسرائيل من الإنفراد به وإلقاء اللوم عليها للعواقب الإقليمية الكارثية المحتملة.
وبعد الإستنتاج أن العقوبات والدبلوماسية فشلت لأن إيران إمّا أن تكون من الناحية الفنية قد قاربت نقطة اللارجوع أو أنها حققت منطقة من المناعة تجعل منشآتها النووية المتقدمة جداً في فوردو (الواقعة بالقرب من مدينة قُم) محصنة ضد الهجمات الجوية، قرّرت حكومة نتنياهو استراتيجية جديدة صُمّمت لتحقيق أغراض متعددة. ففي الوقت الذي لم يتغيّر عزم إسرائيل لمنع إيران من حيازة أسلحة نووية، فإن الاستراتيجية الجديدة تعطي الإنطباع القوي بأن إسرائيل لا تخادع. وأساس استراتيجية إسرائيل الجديدة مبنيّ على ما يلي:
- تنبّه إسرائيل أقرب حليفة لها،وهي الولايات المتحدة الأمريكية،
- تخطر أصدقاءها الأوروبيين،
- تهدّد إيران بصورة جدية قابلة للتصديق وتجمّع المزيد من المعلومات،
- تحذّر أعداءها الآخرين مثل حزب الله وحماس
- تختبر مشاعر العداء الخاصة وردود الفعل الشعبية للدول العربية سنية المذهب
- وتحضّر أخيراً الشعب الإسرائيلي في الوقت الذي تكمن فيه بانتظار اللحظة المناسبة لكي تضرب إن فشل كل شيء آخر.
لقد عبّرت حكومة نتنياهو عن استيائها للإستراتيجية التي تبنتها إدارة أوباما لمنع إيران من حيازة الأسلحة النووية. ففي حين يعتقد الكثير من الإسرائيليين بأن مصداقية الرئيس أوباما على المحك وبأنه سيقوم بعملٍ عسكري إذا دعت الضرورة لذلك، آخرون، بما فيهم نتنياهو وباراك، غير متأكدين من ذلك. إنهم قلقون من أنّ أوباما قد يضطر أخيراً للإختيار ما بين منع إيران أو احتواءها وأنه قد يجد حلاً على أساس احتواءها بتزويد إسرائيل والحلفاء العرب الآخرين في المنطقة بنفس نوع المظلة الأمنية.
إن ما يدعو نتنياهو وباراك للإنزعاج هو أن أوباما قد اعتمد وبشكلٍ مكثف على الحل الدبلوماسي على الرغم من علمه جيداً بأن الإيرانيين معلمو اللعب بالوقت. أضف إلى ذلك، فقد اختار أوباما فرض عقوبات تدريجية تمكنت الحكومة الإيرانية من التكيّف معها واحتوائها، هذا بدلاً من فرض عقوبات حقيقة كاسحة، وبالأخصّ بعد فشل الدورات الأولى من المفاوضات التي كان من المطلوب منها إجبار طهران على تغيير مسارها. هذا الأسلوب، من وجهة النظر الإسرائيلية، عاد على إيران بالفائدة في حين أنها كانت تحاور ممثلي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي ( الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا والصين) وألمانيا في مفاوضات لا جدوى منها ولم يكن لها أبداً فرصة للنجاح.
وبطلب نتنياهو من ممثلي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي + ألمانيا الإعلان عن فشل المباحثات مع إيران، ينبّه الولايات المتحدة بأن الوقت عنصر مهم جداً ويحث أوباما على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وحزماً ضد إيران. وتفكير نتنياهو هو ما دام أوباما يسعى إلى منع ضربة إسرائيلية في عام الإنتخابات، فإنه سيكون تحت ضغط شديد من منافسه في الإنتخابات الرئاسيّة، ميت رومني، ليس فقط لتبني مجموعة نهائية من العقوبات الكاسحة فعلاً بل أن يوضح أيضاً استعداده لاستخدام القوة ضد إيران قبل أن تصل إلى نقطة اللارجوع أو تدخل منطقة المناعة.
رسالة نتنياهو المنذرة بالخطر موجهة ضد الاتحاد الأوروبي وتركيا والصين التي ستتأثّر بالدرجة الأولى من الإنقطاع المحتمل لتوريدات النفط في حالة تعرض مضيق هرمز للخطر. نتنياهو وباراك مقتنعان بأن الإتحاد الأوروبي بشكل خاص منغمس في التفكير الرّغبي باعتقاده بأن الجهود الدبلوماسية المتواصلة مقترنة بعقوبات قاسية إلى حدّ ما ستجبر الزمرة الدينية الحاكمة في إيران للعودة لرشدهم. وينظر الإتحاد الأوروبي بوضوح لنتنياهو على أنه مفرط الحماس عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل القومي ودول الاتحاد قلقة للغاية حول ضربة إسرائيلية ومقتنعة بأنّ ردود الفعل والمضاعفات ستكون كارثية. ولذا، بالنسبة لهم يجب عدم التفكير بأي هجوم ما دامت إيران مستعدة للإستمرار في الحوار.
وبتذكيره المتكرر بالتهديد الإيراني لوجود إسرائيل وملاحظته عدم كفاءة، لا بل عجز الدول الغربية في الماضي في التعامل مع الإبادات الجماعية والمذابح في البوسنة والسودان والآن الذبح بالجملة في سوريا، نتنياهو لا يؤمن كثيراً بما يستطيع أو يريد الإتحاد الأوروبي فعله لتوقيف إيران. كان بإمكان الإتحاد الأوروبي، من وجهة نظر نتنياهو، فعل الشيء الكثير لكسح إيران اقتصادياً، ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن. وفي نفس الوقت يرفض الإتحاد الأوروبي الإعلان بأن حزب الله – وكيل إيران الأول في المنطقة وألدّ أعداء إسرائيل – منظمة إرهابية بينما يستمرّ في السماح لحزب الله بأن يجمع بحرية عشرات الملايين من الدولارات في أوروبا، في حين يستخدم الجزء الأكبر منها في شراء أسلحة لاستهداف إسرائيل.
يعتمد التهديد المباشر ضد إيران على تقدير نتنياهو وباراك بأنه وبالرغم من أن النقاش العام حول الضربة المحتملة ضد إيران ستعطي طهران مزيداً من الوقت لتحضير نفسها للأسوأ، إلاّ أنه يقدّم لإسرائيل بعض الفوائد. فالخوف من هجوم إسرائيلي وشيك سيجبر السلطات الإيرانية على اتخاذ تدابير أمنية إضافية لحماية منشآتها النووية، الأمر الذي سيكشف استعدادات إيران وقدراتها ونقاط ضعفها ومدى صحة تبجحاتها بالهجوم المعاكس المدمر ضد إسرائيل. وما هو مهم أيضاً ستكون إسرائيل في موقفٍ يقيّم بصورة أفضل ردود فعل الرأي العام الإيراني وعمّا إذا كانت الشائعات بحلول هجوم وشيك ستحدث فزع وفوضى بين الناس، الأمر الذي قد يكشف عن كيفية رد فعل السلطات الإيرانية وتعاملها لتهدئة الشعب. وأكثر من أي شيء آخر، إسرائيل تريد أن تأخذ إيران تهديداتها على محمل الجدّ،
الأمر الذي يفسر تصريحات نتنياهو وباراك العلنية بأن إسرائيل، إذا تعلّق الأمر بأمنها الوطني، يجب أن تعتمد في التحليل النهائي، فقط على نفسها.
والمقصود أيضاً من عروض وتصريحات نتنياهو وباراك هذه هو إنذار كل من قد يفكّر بنجدة إيران عن طريق توريط إسرائيل على جبهات أخرى (والمقصود هنا بشكلٍ خاص تنظيمات مثل حزب الله وحماس)، فهؤلاء عليهم أن يفكروا مرتين قبل أن يتجرأوا على استفزاز إسرائيل. وبمناقشة نواياهما علناً، يريد نتنياهو وباراك أن تعي هذه المجموعات أو الدول بأن إسرائيل لم تكن تناقش مثل هذه القضية الأمنية الوطنية الحساسة ما لم تكن قد أخذت بعين الاعتبار التام نتائجها المحتملة. والرسالة الموجهة لحزب الله واضحة: لن يكون هناك تكرار لحرب عام 2006، بل إسرائيل ستكسر هذه المرة ظهره وأن لا أحد هذه المرة سيأتي لنجدته باعتبار أن سوريا مجزر وخرائب وإيران تحت ضغط اقتصادي شديد وستكون مشغولة جداً في التعامل مع النتائج الكارثية المحتملة لهجوم إسرائيلي.
أما الهدف الثاني من الحديث المفتوح حول مهاجمة إسرائيل لإيران فالمقصود منه اختبار السنة العرب، وبالأخصّ دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية. هناك مناقشات جارية بصمت ما بين إسرائيل ودول الخليج حول ضربة إسرائيلية محتملة لإيران وما قد تؤثره هذه الضربة على ردود الفعل الشعبية في هذه الدول وعلى مخاوفها ومصالحها الخاصة. لا شك بأن جميع الدول العربية سنية المذهب تفضّل منع إيران بالطرق السلمية من امتلاك أسلحة نووية. ولكن بعد فشل ذلك بالوسائل الدبلوماسية، فإنهم سيؤيدون هجوماً عسكرياً على منشآت إيران النووية، أقامت بهذا الهجوم إسرائيل أم الولايات المتحدة أم بعملٍ مشترك بينهما. وتنظر المملكة العربية السعودية بشكلٍ خاص إلى الصراع ما بين الشيعة والسنة من وجهة نظر الهيمنة الإقليمية مع التركيز على الخليج وترى إيران بأسلحة نووية كسيناريو مفزع ومروّع يجب منعه مهما كان الثمن.
وأخيراً، فإن المقصود من رسالة نتنياهو وباراك للرأي العام الإسرائيلي ليس فقط لتحضير الشعب لهجوم إيراني معاكس محتمل بل للبدء بتحضيرات سيكولوجية ولوجستية (شاملة توزيع الأقنعة الواقية من الغازات السامة، تخزين السلع الغذائية والماء في الملاجىء التحت أرضية وغير ذلك) وذلك لمنع حدوث ذعر شعبي ولمّ شعث الأمة حول إجراءات الحكومة المتوقعة. وبالرّغم من أن حكومة نتنياهو ليست بغير آبهة بأصوات الإسرائيليين اللذين يعتبرون بأن هجوماً أحادي الجانب من طرف إسرائيل على إيران عمل طائش ومحفوف بالمخاطر إلى أبعد الحدود، غير أن نتنياهو وباراك يريدان أن يظهرا عزيمة لا تهتز في وجه تهديد لوجود إسرائيل وبأن الشعب يستطيع أخيراً أن يثق بحكمهما. أضف إلى ذلك، فإن مثل هذا التمرين مفيد لإسرائيل ومفيد أيضاً للمنطقة بأكملها ما دامت إيران لن تمتلك أسلحة نووية حتّى لو تمّ تجنب مثل هذه الضربة إمّا بسبب استعداد الولايات المتحدة أو بسبب استعداد نتنياهو وباراك لاتخاذ إجراء ٍ آخر.
لدى إسرائيل الوقت وقد سبق وأن كرّرت في الماضي بأنّها لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نوويّة أو التقنية العالية لتجميع مثل هذه الأسلحة بسرعة. ويصرّ الإسرائيليون بأنّه مهما كانت العواقب أو ردود الفعل الناشئة عن مهاجمة منشآت إيران النوويّة، هذه ستكون أقلّ ضررا ً بكثير من السماح لإيران بحيازة قدرات نوويّة، الأمر الذي سيكون له عواقب أمنيّة وجيوسياسيّة وخيمة إلى حدّ أبعد بكثير من ذلك، وسيكون لها تأثير عكسي على كلّ دولة ٍ في المنطقة.
وفي التحليل النهائي، فإن ضربة جويّة إسرائيليّة على منشآت إيران النوويّة فد لا تأتي بالسرعة التي يتنبّأ بها كثيرون. الضربة ستأتي عاجلا ً أم آجلاً ، ولكن من غير المحتمل جدّا ً أن تحدث دون الحدّ الأدنى من قبول الولايات المتحدة بها، إن لم يكن دعمها مباشرة ً أو حتّى الإشتراك بها مباشرة ً. وبصرف النظر عن مدى ثقة نتنياهو وباراك بأنفسهم وبقدرات إسرائيل العسكريّة، فإنهما لا يستطيعان تحمّل أيّة أخطاء أو تقديرات خاطئة لأن مستقبل إسرائيل سيكون حينها في خطر ٍ محدق.
أجل، لهذا السبب بالذات يجب ألاّ يفكّر أحد ولو للحظة بأن إسرائيل تخادع (“تبلف”). لقد استنتج نتنياهو وباراك بأن الدوبلماسيّة قد أخذت مجراها دون أيّة فائدة وأنّ فقط عقوبات غير عاديّة وكاسحة وفوريّة هي التي ما زال لها فرصة ضئيلة للنجاح. ولذا ففي اللحظة التي تقرّر فيها إسرائيل بأن إيران إمّا قد وصلت إلى نقطة اللارجوع أو على وشك وصول “حيّز أو منطقة المناعة” بالنسبة لحماية منشآتها النوويّة من أي هجوم ٍ جويّ، وأنّ الولايات المتحدة غير مستعدّة لاتخاذ إجراء عسكري، حينها ستهاجم إسرائيل إيران بمفردها دون مساعدة. ومهما كانت عواقب هذا الهجوم من وجهة النظر الإسرئيليّة فإنها ستبهت أمام التهديد بوجودها.