عدم الثقة وواقع التعايش السلمي
إحدى العوائق الرئيسية أمام حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو الإنعدام التام للثقة بين الطرفين. ومما يجعل الصراع أشدّ تعقيداً وعسراً هو عدم اعتقاد أي من الطرفين بأنّ شعورهما بعدم الثقة تجاه الآخر ممكن تخفيفه بالنظر إلى معطيات تاريخ الصراع وأهداف الطرفين المتغايرة والخبرات اليومية لكل منهما التي تغذيها باستمرار حملات التشويه الحاقدة والمؤذية والمتواصلة بين الطرفين من خلال وسائل الإعلام وما يحاك من قصص شعبية تجاه كلّ منهما. هذا كله يؤدي إلى اضمحلال الأمل في المصالحة وهذه بدورها تحول دون القيام بتنازلات وتدفع الطرفين إلى الإلتجاء دوما ً إلى وضع نقطة الصفر في المفاوضات. أضف إلى ذلك، نتيجة مشاعر العداء والكراهية لبعضهما البعض والتشاؤم والمقاومة ضد أي تغيير، لا يريد أي من الطرفين أن يظهر ضعيفاً أمام الآخر. ونتيجة لذلك، يرفض كل منهما أن يظهر نوعاً من المرونة ويزيد بذلك من زرع المزيد من التشكك وعدم الثقة فكرياً وعاطفياً، خالقين بذلك حلقة مفرغة تتحدّى المنطق والواقع.
من الواضح أنه إذا تشبث الإسرائيليون والفلسطينيون بمواقفهم، سيصبح من المستحيل تقريباً تخفيف عدم الثقة، مما سيؤدي إلى ورطة دائمة لأنه لا يمكن التفاوض حول عدم الثقة بالموافقة بكلّ بساطة على إقامة علاقة ثقة جديدة. حتى لو توصّل الطرفان إلى اتفاقية عن طريق التفاوض كما حدث بين عامي 1993/1994 في اتفاقيات أوسلو، لا يوجد هناك طريقة تضمن بقاء هذه الاتفاقيات بسبب عدم الثقة المتأصّل في كلا الطرفين وإضمارها تجاه الطرف الآخر، الأمر الذي يبيّن عدم قيامهما بالتزاماتهما على النحو المنصوص عليه في الاتفاقيات. ولكن بما أن التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين بشكلٍ أو بآخر هو الخيار الوحيد، يجب أن تعتمد أية اتفاقية يتم التوصل إليها على أساس شروط معيّنة وآليات وأسس منطقية وجدول زمني مصمم لضمان تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه يعتمد على أساس التبادلية التي في النهاية ستغذي الثقة، وهي الشرط الأساسي الذي لا مفرّ منه لاتفاقيات دائمة.
إن الإدعاءات والإدعاءات المضادة التي يصرّح بها المسئولون الإسرائيليون والفلسطينيون بأن عدم الثقة يمنعهم من التّوصل لاتفاقية سلام هو أمر عار ٍ من الصحة ولا أساس له، ليس لأنهما فقط يتعايشان مع بعضهما البعض ولا يستطيع أي منهما أن يغيّر الواقع، بل لأنه لا يمكن تخفيف عدم الثقة من فراغ. يجب إقامة علاقتهما على أساس أن تعايشهما مع بعضهما البعض غير قابل للتغيير أو الإلغاء. ويمكن بعد ذلك تغذية الثقة ليس فقط أثناء تفاوضهما والتّوصل إلى اتفاقية تلبي متطلباتهما الأساسية، بل من خلال اتفاقية تعتمد على أساس استيفاء التزامات كلّ منهما تجاه الآخر ضمن إطار زمني معيّن. مثلاً في عام 2000 و 2008 – 2009 كان الإسرائيليون والفلسطينيون قريبين جداً من التّوصل إلى اتفاقية حتى حول القضايا الأكثر إثارة ً للنزاع بينهما، مثل مستقبل القدس واللاجئين الفلسطينيين. وبالرّغم من كل ذلك، فقد أخفق الطرفان في التوصل إلى اتفاقية كاملة ونهائية. ونجد بشيء من التّفحص عن قرب بأن المفاهيم المتحيّزة والمدعومة بالخبرات التاريخية وتغذية عدم الثقة بين الطرفين هي التي حالت دون نجاح الطرفين وسيطرت على قدرة كلّ منهما.
يقدّم الانسحاب الإرائيلي من قطاع غزة حالة كلاسيكية تؤكد مرّة أخرى أن فكرة مجرّد الإنسحاب – التي كانت تنظر له إسرائيل على أنه خطوة مهمة في إظهار نواياها لإنهاء الاحتلال – فشلت في “تحقيق هدف إسرائيل” . فبدلاً من تحويل قطاع غزة المتحرّر إلى منطقة مزدهرة اقتصادياً وبناء البنية التحتية لكيان مستقل على طريق إقامة الدولة، استخدمت حماس – بعد انتزاع القطاع بالقوة من السلطة الفلسطينية- القطاع كأرض متقدمة لإطلاق آلاف الصواريخ ضد إسرائيل. وبالنسبة لمعظم الإسرائيليين كان هذا إشارة واضحة بأن الفلسطينيين وبكل بساطة لا يريدون السلام ولا يمكن الوثوق بهم. ونتيجة لذلك ثبطت عزيمة إسرائيل لمواصلة انسحابها من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية (كما ذكر بوضوح في برنامج حزب كاديما)، وما زال معظم الإسرائيليين يعتقدون بأنه حتى لو انسحبت إسرائيل من الضفة الغربية فإن الفلسطينيين سيستمرون في سعيهم لتدمير دولتهم كما أعلنت ذلك حماس مراراً وتكراراً.
ومن وجهة النظر الفلسطينية، على أية حال، لم يكن الإنسحاب الإسرائيلي من غزة سوى خطوة تكتيكية. إنهم يصرّون على أن إسرائيل كانت تريد التخلّص من احتلال منطقة مكتظة بالسكان الفلسطينيين والتي ليس لها قيمة استراتيجية ومكلفة جداً. إضف إلى ذلك، فإن الفلسطينيين مقتنعون تماماً بأن الإسرائيليين لا يعتبرون قطاع غزة جزءاً مهماً من مطالبتهم التاريخية بكل ما يسمّى “أرض إسرائيل” وأنه لا نيّة لإسرائيل لإخلاء مناطق فلسطينية أخرى محتلة، وبالأخصّ في الضفة الغربية. ويقول الفلسطينيون علاوةً على ذلك، بأنه بالرّغم من وجود حالة من التعايش السلمي بشكلٍ عام ما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في السنوات العديدة الماضية، غير أن إسرائيل ما زالت مستمرة في توسيع مستوطناتها الحالية وبناء مستوطنات جديدة، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها. ولهذا السبب ليس هناك ما يدعو الفلسطينيين للوثوق بالإسرائيليين اللذين يدّعون بأنهم يؤيّدون حل الدولتين في حين يستمرون في القيام بإجراءات منافية للمتطلبات المنطقية والعملية لتحقيق هذا الحل.
والسؤال الذي أمامنا الآن هو: لو أجري الإنسحاب الإسرائيلي من غزة بطريقة مختلفة، هل ستكون النتيجة مختلفة بقدرٍ ما أو بقدرٍ بسيط جداً مبرّرةً أو رافضةً روايات وقصص الطرف الآخر؟ جوابي هو نعم بالتأكيد. لقد كان الإنسحاب الإسرائيلي من غزة متهوّراً وأحادي الجانب بدون تنسيق مع السلطة الفلسطينية وبدون تقدير قوّة حماس ولم يتضمن انسحاب مرحلي وبدون ترتيبات أمنية جديدة بدلاً منه وبدون عقد اتفاقيات تجارية وروابط اقتصادية لتعزيز روابط الفرد للفرد التي تخلق الثقة. إذن ممكن القول أنه لو قام رئيس الوزراء آنذاك آرييل شارون بعقد اتفاقية مع السلطة الفلسطينية حول كلّ جانب من جوانب الإنسحاب، شاملة عدد المراحل والوقت اللازم بين كل مرحلة وأخرى وتحركات تبادلية معيّنة من طرف الفلسطينيين وترتيبات أمنية مدروسة, لكان هذا التحرك قد عزّز الثقة بين الجانبين. وبالتأكيد، كل من الجانبين كان يدرك تماماً آنذاك أن أي خرق لأي من الترتيبات المتفق عليها قد توقف العملية فوراً، وهي خطوة لن يستفيد منها أي طرفٍ مهما كانت نواياه الحقيقية.
وهنا يجدر التذكير بأن إسرائيل احتاجت ثلاثة أعوام لاستكمال انسحابها من سيناء. صحيح أن الفرق بين الإنسحاب من غزة وسيناء شاسع من حيث حجم القوات واتساع رقعة الأرض، ولكن ليس هناك فرق ما بين المبادىء والأسس التي قادت الانسحاب من سيناء وتلك التي قادته من غزة. ولواتبعت إسرائيل آنذاك نفس الأسلوب في الإنسحاب كما جرى من سيناء لوفرت على السلطة هزيمتها في غزة من طرف حماس أو فوز هذه الأخيرة في انتخابات عام 2006. وبالفعل, كان من المفروض على التواجد الإسرائيلي في غزة بعد الإعلان عن نيّته في الإنسحاب أن يتريّث فترة كافية من الزمن للسماح للسلطة الفلسطينية أن تجهز جهاز أمنها وأن تقحم نفسها في التنمية الإقتصادية خلال الفترة الإنتقالية وتنمي مصلحة حقيقية في الترتيبات السلمية الجديدة في الوقت الذي تعزّز فيه الثقة بين الجانبين. ويمكن أن يقال نفس الكلام عن الإنسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب والمتسرّع من جنوب لبنان من طرف رئيس الوزراء السابق باراك تحت غطاء الليل بدون أية اتفاقية مع الحكومة اللبنانية، الأمر الذي أعطى حزب الله الفرصة لترسيخ قوته. والسؤال الذي قد يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل كان بمقدور اتفاقية مسبقة مع الحكومة اللبنانية مع آلية بديلة للحفاظ على الأمن أن تمنع الحرب بين إسرائيل وحزب الله في عام 2006؟ الجواب قد يكون ذات طابع تحزّري، ولكنه يبقى في محلّه.
من الواضح أنه لا يمكن تعزيز الثقة في جوّ مشحون بالعداء والإتهامات المضادة المتبادلة. وفي نفس الوقت ليس عدم الثقة محفور في الصخر، بل يمكن تسكينه، وبالأخص تحت الظروف التي تتحكم بحياة الإسرائيليين والفلسطينيين. يجب على إسرائيل الآن أن تتعلّم من خبرتها مع مصر مقارنةً بغزة ولبنان وتطبّق هذه الدروس على الضفة الغربية. وحجج إسرائيل ضد الإنسحاب منوّهة ً بانعدام الثقة بالجانب الفلسطيني ومخاوف الأمن القومي سيصبح لا أساس لها. فإذا كانت هذه هي الأسباب الحقيقية وليس اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية بالإمكان تخفيف هذه المخاوف وتبديد عدم الثقة بوضع خطة لانسحاب شامل ومدروس من المنطقة “ب” يتبعه انسحاب من المنطقة “ج” ويمتدّ ذلك على فترة بضعة سنوات ويعتمد على أساس التبادلية من جانب السلطة الفلسطينية وفي نفس الوقت الإستمرار في التعاون الأمني وتعزيزه بقدر المستطاع لضمان انتقال منظّم للسلطة. لقد أثبتت السلطة الفلسطينية قدرتها وعزمها على القيام بالتزاماتها, الأمر الذي يشهد به العديد من المسئولين الإسرائيليين.
لقد أضاف آخر نزاع مسلّح (عامود الدخان) بين إسرائيل وحماس ورفع مكانة الفلسطينيين لدولة عضو مراقب في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة وجها ً جديدا ً للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. فبصرف النّظر عن براعة إسرائيل العسكريّة الفائقة, فقد استطاعت حماس وبحقّ أن تحرز نصراً سياسياً، وقد بيّن أيضاً انتصار السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة مدى عزلة إسرائيل في العالم. ومع كلّ ذلك، تبقى إسرائيل القوة المتفوقة في كامل المنطقة، وعلى الفلسطينيين وجميع الدول العربية أن تتقبّل وتتعايش مع هذه الحقيقة.
وفي التحليل النهائي, وبالنظر إلى ضرورة التعايش السلمي بين الطرفين الذي لا بد منه يجب القيام بمساعي حقيقية وحثيثة لتخفيف التشكك وانعدام الثقة عن طريق عملية سلام تعتمد على شروط تبادلية يجب أن يلتزم بها كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للتّوصل إلى اتفاقية سلام دائم.