خطر النزع المتبادل للشرعيّة
لمحة موجزة: أكثر النواحي المحيّرة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو بقاءه – بعد 65 عاما ً من العنف المتبادل والعداء والمعاناة – بدون حلّ حتى بعد الإتضاح بأن التعايش بين الشعبين أمرٌُ محتوم وحلّ الدولتين يبقى الخيار الوحيد القابل للحياة. وبالرغم من أنّ هناك العديد من القضايا المثيرة للنزاع التي يجب أن تُعالج بشكل ٍ خاصّ, غير أن البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع هو الذي يؤثّر مباشرة ً على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها ويزيد من صعوبة حلّ الصّراع. ولتخفيف حدّة الصّراع, يجب علينا أوّلا ً إلقاء نظرة داخل العناصر التي تغذي البعد السيكولوجي ومعرفة كيفيّة تلطيفها كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ. وهذه هي المقالة الرابعة من ست مقالات حول الموضوع.
بالرّغم من أنّ أغلبيّة الإسرائيليين والفلسطينيين تدرك بأن التعايش السلمي الذي يعتمد على أساس حلّ الدولتين قد يكون أمرا ً محتوما ً, غير أنّ أصواتا ً شموسة وعنيدة في كلا المعسكرين ترفض بكلّ بساطة هذه الحقيقة.
ففي إسرائيل ترفض مجموعة قويّة من أحزاب يمين الوسط فكرة أنّ الفلسطينيين يشكّلون شعبا ً ولهم الحقّ في إقامة دولتهم المستقلّة. وبين الفلسطينيين أيضا ً مجموعات قويّة مثل حماس ترفض أيضا ً بالمثل حقيقة أنّ اليهود يشكّلون أمّة لها الحقّ في أن يكون لديها دولة مستقلّة. وحتّى أولئك الفلسطينيين الذين يسلّمون بهذا الأمر يستهجنون أن تقام هذه الدولة اليهوديّة على أراض ٍ فلسطينيّة. ولمواصلة النشر والتبشير بمواقفهما ينكر الرافضون الإسرائيليّون والفلسطينيّون شرعيّة الطرف الآخر بشكل ٍ منهجي, بما في ذلك إنكار الحقوق الإنسانيّة الأساسيّة. وبالرّغم من أنّ اتفاقيّات أوسلو (1993 – 1994) قد غيّرت إلى حدّ ما طبيعة العلاقة بين الطرفين من خلال الإعتراف المتبادل, غير أنهما لم ينزعا أو يخفّفا بشكل ٍ رئيسي من شكوك كلّ منهما تجاه الآخر أو يغيّرا مفاهيمهما المشكّلة سلفا ً عن الطرف الآخر. وعليه فإن الإحساس الرافض للطرف الآخر المتأصّل في نفسيهما يخلق مقاومة ً ضد التغيير من الصّعب جدّا ً التغلّب عليها, وبالأخصّ إذا ما ذكرت عمليات مقصودة تزيد من تعزيز رفض الطرف الآخر.
وعند سبر المعوّقات السيكولوجيّة ضدّ التغيير, علينا أن نأخذ جيّدا ً بعين الإعتبار الطريقة التي تعيق بها حالة العجز أو الضعف الشديد التحوّل الإيجابي للوضع الراهن. وتنشأ حالة العجز هذه عندما تكون علاقة الشخص مع نفسه أو مع العالم محطّمة بشكل ٍ منهجي بفعل الطرف الآخر, أي “محطّمة بشكل ٍ كلّي بحيث يفقد الضحيّة أيّ شعور بالقدرة على تقرير مصيره أو البيئة المحيطة به مباشرة ً أو علاقاته بالعالم بشكل عام. بعبارة أخرى: أنت تجد نفسك وكأنك في حالة ٍ من العجز الوجودي” (بيرنشتاين 2012). وفي حين أنّ شعور التجرّد من كلّ شيء والضعف التأسيسي هو بلا شكّ أكثر شدّة بين الفلسطينيين, علينا ألاّ نتسرّع باعتقادنا بأن مواطني إسرائيل لا يحسّون بذلك كون إسرائيل دولة قويّة جدّا ً, بل هم لديهم أيضا ً هموم متواصلة وقلق مستمرّ حول أمنهم الشخصي وخوف مزمن من التغيير تزيد مجتمعة ً من ضعف الشخصيّة أو النفس عند الإسرائيليين.
لقد سعت القيادة في كلا المعسكرين باستمرار لتغذية الإستياء الشعبي بالقدح في أوالإفتراء على الروايات الشعبيّة وإنكار أو تجاهل حقوق وإنسانيّة الطرف الآخر. فالفلسطينيّون مثلا ً يحمّلون إسرائيل اللوم للمعاناة التي سبّبتها مشكلة اللآجئين في حين تلوم إسرائيل الفلسطينيين للإرهاب وأعمال العنف التي لم تتوقّف أبدا ً, وبالأخصّ الإنتفاضة الثانية التي أذهلت الإسرائيليين وقضت على ما تبقّى من بقايا الثقة.
وضحض روايات الطرف الآخر ليس مقتصرا ً على أية حال على بيانات أو تصريحات يقوم بها مسئولون من كلا الطرفين. مثلا ً ينظر الإسرائيليّون لإصرار الفلسطينيين على حقّ عودة اللآجئين بمثابة سعيهم لمحو الهويّة اليهوديّة لدولة إسرائيل. وبالمثل, يعتبر الفلسطينيّون بناء المستوطنات الإسرائيليّة في أرجاء متعدّدة من الضفّة الغربيّة كزحف هائل على أراضيهم بهدف سلبهم فرصة إقامة دولتهم. وبإصرار كلّ منهما علنأ ً على حقوقه فقط, ينظر كلّ طرف لأعمال وإجراءات الطرف الآخر على أنها مساعي فقط لنزع الشرعيّة عنه وتقويضه.
لم تقتصر فقط حملة الإنكار أو النزع المتبادل للشرعية على المجالين السياسي والشعبي بل تغلغلت أيضا ً في ثقافة جميع الطبقات الإجتماعيّة, وبالأخصّ التعليم ووسائل الإعلام. وهذا الجانب من نزع أو إنكار الشرعيّة مقلق ٌ أكثر من أيّ جانب آخر كونه لا ينكر فقط حقوق الطرف الآخر في أعين الرأي العام المعاصر ولكنه يسمّم أيضا ً الجيل القادم من الشباب وكبار السنّ اللذين تعلّموا منذ طفولتهم على رفض الطرف الآخر. فالكتب المدرسيّة الفلسطينيّة تشوّه الرواية التاريخيّة الحقيقيّة لما حدث فعلا ً ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين وكيف تمّ التوصّل للوضع الحالي. كتب الجغرافيا الفلسطينيّة ترفض وضع إسم إسرائيل على الخرائط والمعلّمون اللذين يعبّرون عن عدائهم لإسرائيل يزرعون في عقول الطلبة الشباب الكراهيّة العميقة والمتأصّلة تجاه اليهود مبقين بذلك على إنكار الشرعيّة عن إسرائيل إلى ما شاء الله وجاعلين تخفيف الضّرر عندما يكبر الأطفال الفلسطينيّون أمرا ً صعبا ً للغاية.
وفي إسرائيل, طُبعت كتب تاريخ مدرسيّة جديدة وأصبحت من ضمن منهاج المدارس الإبتدائيّة والثانويّة في عام 1999 بعد بضع سنوات ٍ من التوقيع على اتفاقيّات أوسلو. وفي حين حاولت الكتب المدرسيّة الجديدة تقديم رواية أكثر توازنا ً للصراع الإسرائيلي – العربي من النشرات السابقة, غير أنها عرضت رواية نموذجيّة من وجهة النظر القوميّة وهذه لم تدع سوى مجالا ً ضيّقا ً للإعتراف بشرعيّة الفلسطينيين. وعليه, بدلا ً من استخدام غرفة الصفّ لدعم حقوق الطرف الآخر والشعور بهمومه ومآزقه, أصبحت المدارس على كلا الجانبين من الحدود مختبرات تصنّع مفاهيم مفيدة لإنكار أو نزع شرعية الطرف الآخر. وبالطبع, تٌعزّز هذه المفاهيم لاحقا ً بأعمال العنف مبقية ً على ثقافات الكراهية في البيت, في المعبد وفي الجامع.
وفي إسرائيل, حيث الصحافة الحرّة إلى حدّ بعيد من البديهيات ووسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونيّة تغطي كلّ الأطياف السياسيّة من اليمين المتطرّف إلى اليسار المتطرّف, تجد العديد من النشرات الإخباريّة والإعلاميّة تنتقد علنا ً الحكومة لمعاملتها وسياستها تجاه الفلسطينيين, في حين لا يمكن قول نفس هذا الكلام إطلاقا ً عن وسائل الإعلام الفلسطينيّة. وهذا الأمر يشكّل مشكلة ً من نوع ٍ خاصّ لأنّ انتقاد إسرائيل وإدانتها – بصرف النظر عن مدى تبرير ذلك – يصبح أمرا ً بديهيّا ً وروتينيّا ً ويؤدي في النهاية إلى خلق عقليّة شعبيّة تزيد من صعوبة المصالحة مع إسرائيل بشكل ٍ متزايد. وللتأكيد, لا تسبّب الجهود الرامية إلى نزع الشرعيّة عن الطرف الآخر معاناة وضرر لكلا الطرفين على حدّ سواء فحسب, لا بل وتسمح أيضا ً بالخروقات المعنويّة ولأخلاقيّة المستمرّة ضد الفصيل الآخر, إن لم تبرّرها. يبقي نزع الشرعيّة على الصّراع القائم ويقلّل إلى الحدّ الأدنى من قيام الطرفين بالتنازلات, ويؤدي بشكل ٍ لربما غير متعمّد إلى زيادة المقاومة ضد التغيير ويجدّد أعمال العنف.
وفي تقدير العوائق السيكولوجيّة ضدّ التغيير لا يمكن إنكار أو تجاهل أهميّة عمليّة التنشئة الإجتماعيّة , بالأخصّ إذا أردنا أن نفهم كيفيّة تمكّن كلا الطرفين من تبرير الخروقات المعنويّة – الأخلاقيّة ضدّ الطرف الآخر. هذا يعني أنّه علينا أن نستكشف ليس فقط القوى التي تدفع الناس للقيام بأعمال عنف أو قمع, ولكن أيضا ً القوى السيكولوجيّة التي تساهم في إضعاف الروابط المعنويّة- الأخلاقيّة التي تكبح بشكل ٍ روتيني – تلقائي الأفراد من القيام بأعمال ٍ قد يجدونها في الأحوال الإعتياديّة مستحقّة التوبيخ أو الشّجب.
الوثائق الأخيرة بعنوان:”حرّاس البوابات” (2012) الصادرة عن “الشين بيت” (الجهاز الإسرائيلي العام للأمن الداخلي) جديرة بالثناء لتناولها بدقّة هذه القضيّة ضمن مواضيع أخرى. هناك ثلاث عمليّات منخرطة في التنشئة الإجتماعيّة جديرة بالذّكر. العمليّة الأولى هي التفويض. فبدلا ً من أن يدرك الفرد نفسه كعامل معنوي مستقلّ, يشعر الأفراد بأنهم مشتركون في “مهمّة فائقة”, أي مهمّة تبعدهم عن مسئوليّة اتخاذ خياراتهم المعنويّة-الأخلاقيّة بأنفسهم. والعمليّة الثانية هي الروتينيّة, وهي العمليّة التي يتمّ من خلالها تنظيم إجراء أو عمل وتقسيمه بين عدد من الأفراد بحيث “لن يكون هناك فرصة لرفع أسئلة أخلاقيّة – معنويّة واتخاذ قرارات معنويّة …. ويقوم كلّ فرد بتنفيذ مهامّ روتينيّة دون أن يضطرّ للتفكير في الحاصل الإجمالي الذي قد تخلقه هذه المهام” (كيلمان, 1993). وما يجب التأكيد عليه هنا هو أنّ حركة الإحترافيّة تسمح للمطّلع برؤية وفهم العمليّة ليس كمعاملة قاسية ضدّ أناس آخرين “بل كاستعمال روتيني لمعرفة ومهارات متخصّصة”. وثالثا ً وأخيراً التجريد من الإنسانيّة التي يكون فيها الطرف الآخر مستبعدا ً بشكل ٍ منهجيّ من المجتمع المعنوي الذي يتبعه, ويصبح من غير الضروري للوكلاء اعتبار علاقتهم بالطرف الآخر كأمر مهمّ معنويّا ً – أخلاقيّا ً. وباختصار, تٌحرم ضحية التجريد من الإنسانيّة من أية اعتبارات معنوية – أخلاقيّة.
تجاهل الشكاوي والمعاناة: بالرغم من أنّ غالبيّة الإسرائيليين تسعى لإيجاد حلّ للصراع على أساس حلّ الدولتين مدعوما ً بالعديد من المؤسسات البحثيّة وقدر ٍ كبير من وسائل الإعلام, غير أنّ هناك موقف مهين تجاه الفلسطينيين يدّعي أنهم لا يستحقّون أو لا يمكن معاملتهم متساوين مع غيرهم, وهذا الموقف متغلغل في الثقافة الإسرائيليّة. وعليه أصبح الإسرائيليون مقتنعين بالإحتلال وراضين عن تجاهل ضرورة قيام دولة فلسطينيّة, وأصبحت لامبالاة الإسرائيليين تجاه ضيق ومحنة الفلسطينيين أمرا ً ثانويّا ً وأصبحت تخلق بين الإسرائيليين عقليّة تلوم الفلسطينيين أنفسهم على معاناتهم.
أعتقد بأن مصطلح “موت الرّوح” (وهي طريقة تفكير اقترحت أصلا ً حول تأثير العبوديّة من الناحية الإجتماعيّة – السيكولوجيّة) له علاقة مباشرة بفهم معاناة الفلسطينيين. وتتمثّل هذه الفكرة بتصوّر التأثير الفعلي المروّع لوضع ٍ تكون فيه قوّة أخرى مسيطرة ًً عليك سيطرة ً كليّةً, أي أن يكون لديك وطن مسلوب في قرية ٍ مقسّمة بشكل اعتباطي عن طريق بناء أسوار أو سياجات, وأن يكون لديك في هذه القرية بيت يُقتحم بوحشيّة في منتصف الليل بطريقة ترعب النساء والأطفال, وأن تفقد كلّ المشاعر في السيطرة على حياتك. وعلى خلاف الأمريكيين السّود من أصل إفريقي تحت حكم جيم كرو أو سكّان جنوب إفريقيا تحت حكم الأبارتهايد, يرى الفلسطينيّون إنسانيتهم تحرم منهم بشكل ٍ منهجي من قبل قوات الإحتلال. وتستمرّ إسرائيل حتى اليوم في تجاهل شكاوي ومظالم ومعاناة أولئك اللذين صادرت منهم أراضيهم. ونتيجة نزع الشرعيّة هذا الذي تقرّه الدولة نفسها هو بالنسبة للفلسطينيين ليس بأقلّ من موت الروح.
لا يقضي العنف الفظيع الذي يفوق أيّ وقت مضى فقط أمل حلّ للوضع يوما ً ما, بل يزيد أيضا ً من الشعور بالخجل والقنوط والعزم على الأخذ بالثأر لجعل الطرف الآخر يتألّم بالمثل. هذا الشعور بالعجز الوجودي سيستمرّ في النموّ بين الفلسطينيين والإسرائيليين إذا تٌرك الصّراع للإستمرار بدون حدود.
أكنّا هنا نتكلّم عن المستوطن اللذي لن يقف عند أيّ حدّ للإبقاء على سيطرته على الأرض, أو عن الفلسطيني اللذي لا يؤمن إلاّ بالعنف كحلّ وقد أقسم على تدمير إسرائيل, كلاهما يرى نفسه كمنفّذ وصيّة أو رسالة الهيّة تنفيذها يحلّه من أية ملوميّة أخلاقيّة. وتنطبق هنا بالتمام والكمال أشكال الحماس المفرط والتعصّب لكلا المعسكرين الإسرائيلي والفلسطيني, وفي نفس الوقت الرفض الأعمى للواقع من قبل أصوات ٍ مؤثرة على كلا الجانبين يخمد أصوات أؤلئك اللذين يسعون للتوصّل إلى حلّ عادل, الأمر الذي سيؤدي فقط إلى مزيد ٍ من التباعد والتجريد من الشرعيّة والإنسانيّة, وهذا بالتأكيد وصفة لدمار ٍ مؤكّد للطرفين.