ها نحن ثانيــــــــــــة ً
أسرع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الساعة الحادية عشرة بتجميع وزراء حكومته الإئتلافيّة قبل يومين فقط من بدء زيارة الرئيس باراك أوباما لإسرائيل. ولا شكّ أنّ آخر جهد بذله نتنياهو بهذا الخصوص كان مدفوعا ً برغبته التي لا جدال فيها بأن يكون في اجتماعه مع الرئيس أوباما بصفة رئيس الوزراء الحاكم لا أن يكون رئيس وزراء تصريف أعمال.
لقد أدخل نتنياهو في حساباته بأنّه يحتاج أوّلا ً أن يذكّر الرئيس أوباما بأنّ على هذا الأخير أن يتعامل معه للسنوات الأربعة القادمة قائلا ً له:” إنّني أتطلّع أن نعمل سويّا ً على مدى الأعوام الأربعة القادمة على جعل الحلف بين بلدينا حتّى أقوى مما هو عليه الآن”. هذا إذا بقي ائتلافه متوحّدا ً ومتماسكا ً !
وما أدخله نتنياهو أيضا ً في حساباته هو أنّه ما دام أوباما يريد تجنّب فشل ٍ آخر في مساعيه من أجل السّلام, سيتجنّب التصادم معه مرّة أخرى وسيعمل بدلا ً من ذلك لتسوية لا لمجاملات دوبلماسيّة. وهنا أخطأ نتنياهو في حساباته. لقد تجاوزه الرئيس أوباما وناشد مباشرة ً الشعب الإسرائيلي عندما خاطب طلاب جامعة استقبلوا كلماته بتصفيق ٍ أكثر من مرّة, حتّى عندما طالب مشدّدا ً بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلّة وطلب من إسرائيل معاملة الفلسطينيين بعدل.
وقيام الرئيس أوباما بربط أمن إسرائيل القومي النهائي بقيام دولة فلسطينيّة لن يحرّك على أيّة حال نتنياهو لتغيير مساره. إنّه متشبّث باغتصاب المزيد من الأرض الفلسطينيّة, الأمر الذي لا يخدم سوى تقويض أمن إسرائيل القومي بدلا ً من تعزيزه.
إنّ برنامج الليكود السياسي واضح ٌ بهذا الخصوص حيث يقول:”الإستيطان في الأرض تعبير واضح عن حقّ الشعب اليهودي على أرض إسرائيل ويشكّل ركنا ً هامّا ً في الدّفاع عن المصالح الحيويّة لدولة إسرائيل”.
لقد أغرى نتنياهو إبّان ذلك ثلاثة أحزاب أخرى غير متوافقة إيديولوجيّا ً وهي: حزب “هناك مستقبل” بزعامة يئير لبيد, وحزب “الحركة” بزعامة تسيبي ليفني وحزب “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينت للإنضمام لحكومته الإئتلافيّة, ووعدهم بالكثير من الأشياء الجيدة ولكن بنيّة أن يقدّم لهم فقط ما يناسب برنامجه السياسي.
إنّه لشيء محزن أن يرى المرء في إسرائيل بأن تعيين كبار المسئولين في الدولة يتمّ على أساس ٍ حزبي, لربّما باستثناء وزير الدفاع, وليس على أساس مهاراتهم المهنيّة. ما يهمّ فعلا ً لتحديد الحقائب الوزاريّة والمناصب العالية في الدولة هو الحزب وكم عضو ينتمي لهذا الحزب في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست).
وها نحن ثانية ً! عندنا عدا نتنياهو قادة الأحزاب الثلاثة اللذين انضموّا إلى هذا الإئتلاف الغير متجانس لأنّه يخدم من ناحية برنامجهم السياسي الحزبي, ولكن بالدرجة الأولى مصالحهم الشخصيّة, على الأقلّ في الوقت الحاضر.
لنبدأ أوّلا ً بنتنياهو نفسه الذي يدّعي بأنّه يؤيّد حلّ الدولتين ولكنه في الواقع يعمل كلّ ما بوسعه لمنع الوصول إلى هذا الحلّ. وما مدى جديّة نتنياهو في الواقع إذا كان برنامج حزب الليكود الذي يتزعمه يقول بدون أي غموض:” الجاليات اليهوديّة في يهودا والسامرة وغزّة هي تحقيق قيم صهيونيّة ؟”.
و “لتعزيز” حلّ الدولتين الذي يدّعي مساندته فقد سلّم تسيبي ليفني, وهي أوّل القافزين في عربته, حقيبة العدل وكلّفها بمفاوضات السّلام مع الفلسطينيين, وهي خطوة ذات تواطؤ مميّز إذ أنّ نتنياهو يدرك حدود ليفني, فقد فشلت في مفاوضاتها مع الفلسطينيين في عهد رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي كان في الواقع جادّا ً في التوصّل لاتفاقيّة سلام ٍ مع الفلسطينيين. فما مدى نجاحها بالحري هذه المرّة وتحت قيادة نتنياهو الذي يشمئزّ حتّى من فكرة التفاوض مع الفلسطينيين ؟
من المحتمل بأن ليفني تعلم جيّدا ً بأنه لن يكون هناك أمل في اتفاقيّة سلام ٍ يتمّ التفاوض عليها مع الفلسطينيين ما دام نتنياهو في الحكم لكونه يلعب ببساطة فقط من أجل كسب الوقت لبناء المزيد من المستوطنات وتوسيع القائم منها. والحقيقة هي أنّ ليفني قد أصبحت برغبتها قناة توصيل لخطة نتنياهو في ادعائه بأنه مستعدّ للتفاوض في حين أنّه يورّطها في عمليّة تفاوض ذات طريق ٍ مسدودة – هذا إذا استؤنفت وعندما تستأنف – بدون التنازل عن بوصة ٍ واحدة من الأرض وسيضع في النهاية اللوم على الفلسطينيين لأنهم لا يفاوضوا بنيّة ٍ حسنة.
وإذا لم يكن هذا وحده فيه كفاية من السّخرية, فما بالك أنّ نتنياهو قد أعطى وزارة الإقتصاد والتجارة لشخص ٍ ليس أكثر كفاءة, لنفتالي بينت, وأعطى وزارة الإنشاء والإسكان لشريك نفتالي, أوري آريل. يا لها من نكتة فعلا ً! لقد وضع نتنياهو, بقوّته السحريّة, أسدا ً جائعا ً مسئولا ً عن قطيع ٍ من الحملان !
وهنا شخص (نفتالي بينت) ينادي علنا ً بضمّ حوالي 60 % من أراضي الضفّة الغربيّة التي تمثّل المنطقة (ج) ولا يعتقد بأن السّلام أصلا ً ممكن. فعندما سُئل ماذا يتوقّع أن تكون إسرائيل في غضون ال 10 إلى 15 عاما ً القادمة أجاب هذا الرّجل بكلّ بساطة :”لا أدري”.
وبرنامج بينت السياسي يتكلّم عن نفسه قائلا ً:”القيادة الفلسطينيّة لا تريد الضفّة الغربيّة فقط, بل بالأحرى أرض إسرائيل بأكملها بحيث لن يكون هناك حلّ كامل لجيلنا”. أوه, نعم ! فإن ضمّ المنطقة (ج) سيقدّم حلاًّ أمثلا ً ينتظره لأن الفلسطينيين حتّى ذلك الحين يكونون ببساطة قد اختفوا. يا لها من سخرية !
أجل, كم من المحزن أن يوضع مستقبل إسرائيل في أيدي ما يدّعون بأنهم “قادة أو زعماء” لا رؤية لهم ولا استراتيجيّة حول ما ستؤول إليه إسرائيل بعد 10 أو 15 سنة. شهيتهم لمزيد من الأراضي الفلسطينيّة لا نهاية لها وبكلّ بساطة لا تُشبع ولا بأس أن يضعوا في سبيل ذلك مستقبل إسرائيل في خطر ٍ محدق.
غير أنّ أكبر نكتة هو هذا المدعو لبيد, زعيم حزب “يش عتيد” (يوجد مستقبل). إني أستغرب عن أيّ مستقبل ٍ يتكلّم لبيد. لقد خاض الحملة الإنتخابيّة بشعارات قضايا اقتصاديّة مقدّما ً فقط إشارة واهنة في برنامجه السياسي حول الحاجة إلى سلام ٍ مع الفلسطينيين. هو الآن على رأس وزارة الماليّة بالرّغم من اعترافه بأنه لا يفقه إلاّ القليل بالأمور الماليّة قائلا ً:”لربّما لا يحتاج مقعد وزير الماليّة إلى خبير خارجي ( أي خارج الحزب) للجلوس عليه بل إلى سياسيّ مدعوما ً بقوّة سياسيّة هامّة”. أجل, فهذا يفسّر كلّ شيء !!
وفيما يتعلّق بالسّلام مع الفلسطينيين, يقول برنامجه السياسي لنا:”سنعمل جاهدين من أجل السّلام على أساس مقولة “دولتان لشعبين” في حين أننا سنحتفظ بالتجمعات الإستيطانيّة الكبرى ونضمن أمن إسرائيل”.
كم من النفوذ سيكون للبيد بالفعل للدفع بمفاوضات السّلام فورا ً إلى الأمام عندما يكون شريكاه الرئيسيّان الآخران لا حراك لهما تجاه إقامة دولة فلسطينيّة؟. ولكن الأكثر سخفا ً وتناقضا ً للعقل على أية حال هو دعم لبيد للقانون الأساسي المقترح الذي عرض من قبل على البرلمان (الكنيست) السابق والذي سيلغي اللغة العربيّة كلغّة رسميّة ويعمل من القانون اليهودي أساس التشريع ويستثني أي تفسير ٍ آخر.
تهانينا ! نتنياهو وزمرته يظهرون أخيرا ً بعض الإحترام والتقدير بانضمامهم إلى “نادي” آية الله خمئيني الإيراني والرئيس محمّد مرسي (مصر) اللذين جعلا من الإسلام أساسا ً للتشريع. إذا كتب لهذا القانون أن يجتاز البرلمان (الكنيست) الحالي فإنّه سيلغي إسرائيل كديمقراطيّة ويخضعها للدين, وسيقسّم في نفس الوقت مواطني إسرائيل إلى إسرائيليين وفلسطينيين, فيا لها من رؤية مستقبليّة رائعة !!
وإذا بان ذلك كلّه لاعقلانيّاً, لا بل أحمقا ً بعض الشيء, فإليك برؤية أخرى ساخرة: سيحتفظ نتنياهو بحقيبة وزارة الخارجيّة لحين قيام رفيقه, وزير الخارجيّة السابق أفيغدور ليبرمان, “بتنظيف” نفسه من تهم الفساد حيث يتمكّن بعد ذلك من استئناف مهامّه كوزير للخارجيّة. لا يهمّ وضع إسرائيل مرّة أخرى موضع الخزي والعار في أعين المجتمع الدولي مع ليبرمان على رأس أهمّ وزارة, ألا وهي وزارة الخارجيّة, ما دام ليبرمان ورئيسه متفقان على رسم حدود إسرائيل من جانب ٍ واحد.
وهكذا تتواصل التمثيليّة السياسيّة الهزليّة في إسرائيل: نتنياهو وزمرته ماضين قدما ً في عزلهم إسرائيل أكثر فأكثر ومعرّضين الهويّة القوميّة اليهوديّة لخطر ٍ محدق, هذا في الوقت الذي يدمّرون فيه مؤسسات البلد الديمقراطيّة.
وفي الوقت الذي نحتفل فيه بعد الفصح, يجب على الإسرائيليين, وبالأخصّ الشباب, أن يتذكّروا بأنه بعد مرور آلاف السنين من العبوديّة والظلم والإضطهاد والموت, عاد آباؤهم إلى أرض الميعاد ليكونوا أحراراً وليعيشوا بكرامة. وعليهم أن يتذكّروا أيضا ً بأن حريتهم لن تدوم إلاّ إذا أصبح كلّ فلسطيني حرّا ً أيضا ً من قيود الإحتلال.