الفوز بالسّلام منه خلال الأفئدة والعقول
لقد قيل الكثير حول رحلة الرئيس باراك أوباما للشرق الأوسط, غير أنّه قيل القليل حول ما يمكن أن يكون لهذه الزيارة من جوهر ومضامين. وأعتقد بأنه إذا كان هدف الرئيس مرحليّا ً هو الفوز بأفئدة وعقول الإسرائيليين, فقد أحرز بالتأكيد خطوات ٍ هامة باتجاه هذا الهدف.
لقد أساء وللأسف معظم المعلّقين الفلسطينيين فهم مضامين الزيارة لإسرائيل وللفلسطينيين بشكل ٍ خاصّ. إنهم فشلوا في إدراك أنّ حتّى رئيس الولايات المتحدة لا يستطيع انتزاع التنازلات الضروريّة من الإسرائيليين بالقوّة للدّفع بعمليّة السّلام إلى الأمام ما لم يكسب ثقتهم ويجعلهم يشعرون بثقة واطمئنان بأنّ الولايات المتحدة ستكون دائمة ً ملتزمة ً بأمنهم القومي.
والعديد ممّن انتقدوا الرئيس أوباما من الفلسطينيين لإغداقه الإسرائيليين بالمديح المفرط والتزامه الغير مشروط بأمن إسرائيل, غفلوا – كما يبدو- عن النقطة الرئيسيّة التي أراد توصيلها لهم والتي يأمل أن يكون قد حقّقها.
والقول بأنّ الرئيس قد “قضى ثلاثة أيام في إسرائيل وحوالي ثلاث ساعات في الضفّة الغربيّة” لشرح – حسب الإعتقاد – موقفه وبيان أولويّاته كما أوردت ذلك مجلة “الإيكونومست” (الإقتصادي) تحت عنوان:”زيارة سريعة” هو قول ٌ مفرط في التبسيط ولا يمسّ لبّ الموضوع. وهناك تقييم آخر ساخر للزيارة أوردته قناة الجزيرة الفضائيّة على لسان المعلّقة غادة كرمي يقول:” كانت زيارة أوباما إهانة للشعب الفلسطيني بكلّ المعايير” ولاحظ أسامة الشّريف في تعليقاته في برنامج “أخبار العرب” بأنّه لم يكن للزيارة عائد أو أنها “تسبّبت بضرر ٍ جسيم لقدرة أمريكا في لعب دور الوسيط النزيه ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين في حالة استئناف المفاوضات” كما صرّح بذلك إم. جي. روزنبرغ في عموده في صحيفة “هوفنغتون بوست”.
الحقيقة هو أنّه حتّى بدون ملاحظة اسماعيل محمود رباح بأنه كان لزيارة أوباما “نتائج هامّة للنهاية القريبة للإحتلال الإسرائيلي”, فقد كان انتقاد الزيارة في غير محلّه تماما ً في معظم الأحيان, وذلك للأسباب التالية:
بصرف النّظر عن قيام إدارة أوباما بتزويد إسرائيل بالمعونات الماليّة والعسكريّة وبالدعم السياسي وتوسيع التعاون الغير مسبوق في مجالات لا تحصى أكثر من أية إدارة أمريكيّة سابقة, غير أنّ الإسرائيليين بشكل ٍ عام لم يثقوا بالرئيس أوباما.
لقد أعاد الإسرائيليّون إلى أذهانهم خطابه في القاهرة في شهر يونيو (حزيران) 2009 الذي فسّروه بأنه كان منحازا ً لصالح الفلسطينيين, وتذكّروا بفزع بأنه سافر ثلاث مرات للخارج خلال فترة رئاسته الأولى حيث زار بلدين عربيين وبلدين آخرين إسلاميين متجاوزا ً إسرائيل. أضف إلى ذلك, فقد اغتاظ الإسرائيليّون لقيام الرئيس أوباما بممارسة ضغط ٍ غير ضروري على إسرائيل لتجميد بناء المستوطنات دون مطالبة الفلسطينيين بإجراءات معيّنة مقابل ذلك.
نقّاد الرئيس مخطئون تماما ً في تقديراتهم لنوايا الرئيس والمحاولة التي قام بها تجاه الإسرائيليين خلال زيارته لإسرائيل وفلسطين والأردن. كان هدف الرئيس الفوز بقلوب وعقول الإسرائيليين لأنّه يعلم بأن أيّة تنازلات يمكن أن يضمنها لمصلحة الفلسطينيين تعتمد على مدى ثقة الإسرائيليين به ومدى شعورهم بالطمأنينة والثقة بأن الولايات المتحدة ستقف وراء إسرائيل في لحظة الضيق الحقيقي.
ويدرك الرئيس أوباما تماما ً أيضا ً بأن عليه إقحام الشعب الإسرائيلي في عملية السعي وراء السلام وجعلهم يفهمون مخاطر الإستمرار في الإحتلال وبأن الوقت لا يعمل أبدا ً لصالحهم وينفذ منهم بشكل ٍ خطير وأنه ليس بإمكانهم البقاء بعد الآن راضين عن الوضع الراهن. ولهذا السبب تجاوز أوباما رأس رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وخاطب مباشرة ً الشعب الإسرائيلي, وبالأخصّ الشباب, لاستلام زمام المبادرة, مؤكدا ً على أنّ “الحكومات تستجيب للإرادة الشعبيّة” وأنه يجب عليهم الآن إسماع صوتهم.
لقد ناشد الرئيس الشباب الإسرائيلي أن يضعوا أنفسهم مكان الفلسطينيين اللذين تجرّدوا من كرامتهم و “ينظرون للعالم من خلال أعينهم”. قال لهم مشدّدا : “ليس من العدل منع الفلسطينيين من فلاحة أراضيهم, أو ترحيل عائلات فلسطينيّة من بيوتها. لا الإحتلال ولا الطّرد هو الردّ”.
وأولئك اللذين انتقدوا الرئيس لافتقاره للنزاهة وعدم التحيّز في مخاطبة الإسرائيليين والفلسطينيين لم يدركوا – كما يبدو – بأنّ الرئيس ليس بحاجة ٍ لإقناع الفلسطينيين بأن استمرار الإحتلال أمر غير مقبول. وهو ليس بحاجة ٍ أيضا ً أن يذكّر الفلسطينيين بمحنتهم ومعاناتهم. هذه الكلمات قد وُجّهت للإسرائيليين اللذين بمقدورهم أن يفعلوا شيئا ً حيال ذلك.
لقد ذكر الرئيس بشكل ٍ متعاطف وانفعالي بأن:”على إسرائيل الإرتقاء لالتزاماتها لضمان تمكّن الفلسطينيين من العيش والعمل وتنمية مجتمعهم. وفضلا ً عن أنها تدمّر العائلات الفلسطينيّة, فإن الأزمة الإنسانيّة المستمرّة في غزّة لا تخدم أمن إسرائيل ولا الإفتقار المستمرّ كذلك للفرص في الضفّة الغربيّة”. هذا ما بحاجة إسرائيل أن تسمعه, ولكن بشرط أن يقال ذلك في سياق تعهّد الولايات المتحدة الغير قابل للنقاش أو الجدل بحماية إسرائيل من التهديدات الخارجيّة, وبالأخصّ تلك القادمة من إيران, وثقتهم به. ويجب على الفلسطينيين أن يتذكّروا بأن الرئيس قد لا يكون بمقدوره انتزاع أي تنازل هادف أو مهمّ من الإسرائيليين خلال فترة رئاسته الأولى لأنهم كانوا ينظرون إليه نظرة عداء وأنه غير متعاطف مع قضاياهم ومخاوفهم.
وكما حاول أوباما تغيير مفهوم الإسرائيليين ونظرتهم إليه ولمس بنجاح أفئدة وعقول أغلبيّة الإسرائيليين, على إدارته الآن التركيز على مساعيها الجديدة للسّلام الذي التزم به. وعدا عن إصراره على استئناف مفاوضات السلام ما بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين, على الرئيس ممارسة ضغط ٍ متساو ٍ, ولو بهدوء, على كلا الجانبين للبدء في تغيير رواياتهما الشعبيّة حول القضايا المتنازع عليها والتي تفرّقهم.
يجب أن تكون على رأس أولويّات أجندة المفاوضات بين الطرفين قضيّتان رئيسيتان من القضايا المتنازع عليها بشدّة وهما “حقّ العودة” للآجئين الفلسطينيين والإستمرار في توسّع المستوطنات القائمة وبناء مستوطنات جديدة, وذلك بهدف التوصّل لحلول ٍ مقبولة من الطرفين. هذه تتطلّب تغييرا ً جذريّا ً في المفاهيم الشعبيّة لدى الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ ٍ سواء.
قد لا يتمكّن رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس من التكلّم حول إمكانيّة حقيقيّة لحلّ الدولتين في الوقت الذي يستمرّ فيه بالتبشير “بحقّ العودة” الغير مقبول إطلاقا ً بالنسبة للإسرائيليين لأنه سيمحو الهويّة اليهوديّة الوطنيّة لدولة إسرائيل بين عشيّة ٍ وضحاها.
لا يمكن حلّ هذه القضايا فقط على طاولة المفاوضات بدون تحضير الرأي العامّ الفلسطيني أوّلا ً على قبول حقيقة أنّ تطبيق حقّ العودة ممكن فقط من خلال إعادة توطين اللآجئين في وطنهم الفلسطيني, أي بالتحديد في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة, أو تعويض أولئك اللذين يختاروا البقاء في مواطن إقامتهم الحاليّة في الخارج.
ولا يمكن لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن يكون أيضا ً جادّا ً في قبوله حلّ الدولتين ما دام هو مستمرّ في إصراره على توسيع المستوطنات القائمة وبناء مستوطنات جديدة باسم الأمن القومي الإسرائيلي الذي “ينتهك الإتفاقيّات المبرمة سابقا ً ويقوّض جهود تحقيق السّلام”.
إذا كان الرئيس أوباما يعتقد – كما أفعل أنا شخصيّا ً – بأن الحكومات تصغي لإرادة شعوبها, يصبح لزاما ً حينئذ ٍ تغيير المفاهيم الشعبيّة الإسرائيليّة والفلسطينيّة أوّلا ً بخصوص هاتين القضيتين الأساسيتين من الصراع بين الطرفين وحول بعضهما البعض.
هذه فرصة لا يجوز لأيّ من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أن يبدّدها لأنّ مرور الوقت سيقوّض بشكل ٍ خطير مصالحهما الوطنيّة النهائيّة وسيضاعف من صعوبة حلّ الصراع ويجعله محفوفا ً أكثر بالمخاطر.
لا أحد ينتظر – على أية حال – أن يقوم المسئولون الحاليّون من كلا الطرفين بتغيير رواياتهما الشعبيّة طوعا ً بهدف استحداث تغيير في المفاهيم الشعبيّة العامّة لكلّ منهما. بل على العكس من ذلك, لقد استخدمت الحكومات الإسرائيليّة والفلسطينيّة على حدّ سواء إمكانيّة التوصّل لحلّ الدولتين لغرض الإستهلاك المحلّي الشعبي فقط, في حين تستمرّ هذه الحكومات في السعي وراء سياسات تنسف أية إمكانيّة أو فرصة للتوصّل إلى مثل هذه النتيجة.
وهنا النقطة التي يصبح عندها دور الولايات المتحدة دورا ً مهمّا ً جدّا ً. فبالقدر الذي يحتاجه الرئيس أوباما للضغط على المسئولين الإسرائيليين والفلسطينيين لاستئناف مفاوضات السّلام رسميّا ً, عليه في نفس الوقت ممارسة ضغط هائل لتغيير رواياتهما الشعبيّة والتوقّف عن تضليل شعبيهما حول مستلزمات السّلام الذي يعتمد على حلّ الدولتين الذي يدافع عنه الرئيس أوباما بكلّ غيرة وحماس.
وإذا لم يقم الرئيس أوباما خلال زيارته وبشكل ٍ شخصيّ بنصح نتنياهو وعبّاس على فعل ذلك بالذات, عليه أن ينصحهما بذلك الآن. فبدون الدّعم الشعبي لن يكون هناك مفاوضات سلام ٍ مجدية, وسيبقى السّلام الإسرائيلي – الفلسطيني مجرّد وهم يقضي على نفسه بنفسه بشكل ٍ مثير للشفقة.