أنهوا محنة اللآجئين الفلسطينيين المزمنة !
خلال مؤتمر المانحين المنعقد قبل بضعة أيّام في القاهرة، تعهّدت الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وبلدان أخرى بالتبرّع بمبلغ 2.7 مليار دولار لإعادة الإعمار في غزّة. ولا شكّ أنّه من الضروري القيام بهذا المجهود الإنساني لإعادة تأهيل حياة مئلا الآلاف من الفلسطينيين الذين قاسوا الأمرّين نتيجة المواجهة العنيفة الأخيرة بين إسرائيل وحماس. وبصرف النظر عن مدى الإعجاب بهذا التعهد المالي للمساعدة، فإن عدم ربطه بأية طريقة بعمليّة السّلام، وبالأخصّ بحلّ معظم المشاكل الصعبة والمتأصلة للآجئين الفلسطينيين في قطاع غزّة هو بمثابة تفويت فرصة كبيرة أخرى.
تبقى مشكلة اللآجئين الفلسطينيين، وبالأخصّ مشكلة أولئك الذين يعيشون في أوطانهم، أعني الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، واحدة من أخطر المشاكل الشائكة التي تحول دون إقامة دولة فلسطينيّة. فما يستحقّه اللآجئون الفلسطينيّون فعلا ً هو حلّ بكرامة لاسترجاع احترامهم لذاتهم وليس صدقة مستمرّة لإدامة وصمة عار مدى الحياة.
إنّها لمهزلة أن يُسمح لجيل ٍ آخر من الفلسطينيين بأن ينمو في وضع ٍ من الإهمال والنسيان والتشرّد فقط ليتمكّن قادتهم الفاسدون من الركوب على ظهورهم والعويل كالذئاب على محنتهم في حين يتمتعون هم بحياة رغيدة تفتقر بشكل ٍ مخز ٍ للحياء.
الإحصائيّات في هذا السياق مروّعة، فهناك حسب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللآجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الشرق الأوسط 1.240.082 لاجىء فلسطيني مسجّل في قطاع غزّة من إجمالي 1.5 مليون مواطن يعيشون في القطاع و 754.411 لاجىء مسجّلين في الضفة الغربيّة من أصل 2.4 مليون مواطن فلسطيني يغيشون في الضفّة الغربيّة. هذا يعني بأن أيّ فلسطيني عمره 50 عاماً فما دون ذلك مولود في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، وهذا يمثّل أكثر من 80 % من سكان الإقليمين. ففي مخيمات اللآجئيـــــن، أكثـر من 50 % من سكانها هم دون سن 25 عاما ً وفقط 30.000 هم من اللآجئين الأصليين (الذين نزحوا خلال النكبة).
لم يكن هناك أي مجهود فعلي لحلّ مشكلة اللآجئين المأساويّة منذ عام 1048، لا بالأحرى تمّ استغلال هذه القضيّة على حساب الرجال والنساء والأطفال الأبرياء الذين تمّ تضليلهم وعوملوا معاملة سيئة وهُمّشوا واستخدموا كأضاحي ليغذّوا فقط نهم قادتهم وزعمائهم المضللين والأنانيين للسلطة.
ما كان في البداية حدث مأساوي تحوّل في عام 1948 إلى هجرة جماعيّة شبيهة بمأساة إغريقيّة تأزّمت مع مرور الزّمن وابتلعت أرواحا ً بريئة. ومنذ ذلك الحين تضاعف عدد اللآجئين سبع مرات تقريبا ً يعيش كثير منهم تحت ظروف غير إنسانيّة تعمل كحاضنات للتطرّف والعنف اللذين تسعى حماس أن تنميهما على وجه الخصوص.
لقد لعبت الكثير من الدول دورا ً في الإسهام بتمديد محنة اللآجئين الفلسطينيين. فوكالة غوث وتشغيل اللآجئين الفلسطينيين (الأونروا) مدانة في استدامة أزمة اللاجئين الفلسطينيين. لقد تأسست هذه الوكالة بقرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة في شهر كانون أول (ديسمبر) عام 1949 وتفويضها لرعاية اللاجئين قد تجدّد كل ثلاثة أعوام، ويستمر التمديد الحالي لغاية يوم 30 يونيو (حزيران) 2017. توظّف الوكالة ما يزيد عن 25.000 عامل وموظف وطوّرت مصلحة في الإبقاء على الوضع الحالي للاجئين لكي تبقى ذات صلة بالقضية. أضف إلى ذلك، وحيث أن الأغلبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا تريد أن تبدو غير داعمة للاجئين، فقد استمرّ تجديد تفويض الأونروا لأكثر من ستة عقود.
من بين أهم العشرين جهة المانحة للأونروا (15) دولة أو منظمة غربية، فالدول الغربية الأوروبية مستمرة في تقديم المساعدة المالية لأسباب إنسانية، غير أن هذا يطيل فقط أمد محنة اللاجئين الإنسانية بدلاً من تعزيز إعادة توطينهم بشكل دائم. وتستمر الولايات المتحدة بقبول الوضع الراهن للاجئين الفلسطينيين وأصبحت بشكل أو بآخر مؤيدة له، الأمر الذي منع دون قصد إيجاد حلّ إنساني للاجئين عقوداً من الزمن.
وتستمر الدول العربية في استغلال واحتكار قضية اللاجئين للإستهلاك المحلي لصرف نظر شعوبهم عن الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية المزرية وانتهاكات حقوق الانسان في بلدانهم. واحتفظ الزعماء الفلسطينيون بحوالي مليوني لاجىء في الضفة الغربية وقطاع غزة كرهائن. فقد أصرّوا لفترة تقارب سبعة عقود بأن “حق عودة” اللاجئين هو شرط ضروري وأساسي لحلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. هذا يتناقض كلّياً مع نتائج استطلاع أجراه عام 2003 د. خليل الشقاقي، رئيس المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، الذي بيّن فيه بأنّ (10%) فقط من اللاجئين المقيمين في سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة قد يختارون العودة لإسرائيل (مكان إقامتهم الأصلي). ومن المرجح أن تكون هذه النسبة قد انخفضت أكثر نظراً لتضاؤل أمل العودة.
لقد رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحمّل أية مسئولية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين ولم تقم بأي جهد يساند الدعم الدولي لحلّ محنة اللاجئين. فالحكومات الإسرائيلية ذات الاتجاه اليميني التي تعارض حلّ الدولتين وجدت في مشكلة اللاجئين المتأزمة عقبة مريحة لتمرير مخططاتها.
ومما يدعو للسخرية أنه وفي كلّ جولة من المفاوضات، أكانت في عام 2000 في منتجع ديفيد أم في الفترة 2008/2009 أم في 2013/2014، اتفق الطرفان بأنه لا يمكن تطبيق حق العودة حرفياً، بل السماح فقط ببضعة آلاف بلمّ الشمل مع عائلاتهم الممتدة داخل إسرائيل على مدى بضعة سنوات.
والجدير بالذكر أنه وبصرف النظر عن تعريف الأونروا أو أية جهة أخرى لمفهوم “اللاجىء” فإن “اللاجئين” الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة هم ليسوا لاجئين لأن أكثر من 80% منهم قد ولدوا في أوطانهم – أي في الضفة الغربية وقطاع غزة – والباقي قد رُحّل داخلياً في أحسن الظروف.
وأولئك الفلسطينيون الذين يصرّون على أنهم لن يتنازلوا أبداً عن حق العودة، عليهم الانتظار للأبد، وكلّ زعيم عربي وفلسطيني يدرك تماماً هذه الحقيقة. فبدلاً من محاولة التّوصل لحلّ شامل للصراع الإسرائلي – الفلسطيني الذي أثبت بأنه أمر خادع أو وهمي، فإن تسوية مشكلة اللاجئين – التي لها حلّ واحد فقط وهو إما إعادة التوطين أو التعويض – قد تمهّد الطريق لحلّ القضايا العالقة الأخرى في مراحل.
ومهما أصبح حق العودة نظرياً، فإنه مسلّط على رؤوس القادة الإسرائيليين وحتى الإشارة إليه في أية اتفاقيات مستقبلية لن يكون مقبولاً حيث أن الإسرائيليين ينظرون إليه كتهديد لهويتهم الوطنية، إن لم يكن لوجود دولة إسرائيل.
سيقدّم حل قضية اللاجئين انفتاحاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لممارسة ضغط متصاعد على إسرائيل للقيام بالمقابل بتنازلات هامة، وذلك بالشروع بمفاوضات حول الحدود، الأمر الذي يصرّ عليه الفلسطينيون بحق، وذلك لتحديد معالم الدولة الفلسطينية في المستقبل.
أجل، كان على الدول المانحة أن تصرّ (وما زال بإمكانها أن تفعل ذلك) بأن تركّز مساهماتها لإعادة إعمار الجزء الأكبر من غزة وتعويض اللاجئين، وبالأخصّ لأن (80%) من سكان قطاع غزة مسجلون كلاجئين، هذا ويجب أن يُبذل أيضاً جهد مماثل لإعادة توطين اللاجئين في الضفة الغربية.
لن تقدّم إطالة محنة اللاجئين “حلاً عادلاً” كما يقول الفلسطينيون والدول العربية. إن حل عادل لهذه القضية استحق منذ أمدٍ طويل ولا يستطيع أي زعيم عربي أو فلسطيني أن يبرّر الإحباط والقنوط الذي يعاني منه اللاجئون منذ عقود طويلة من الزمن تحت شعار “حق العودة”.
إنّ الشعب الفلسطيني شعب مبدع، نابض بالحياة والنشاط وبارع، وشعب فخوربنفسه. ولذا يجب ألا يستمر هذا الشعب في العيش في حالة من البؤس والشقاء ويُغذّى بشعارات فارغة ويُعطى أمل كاذب فيما يتعلّق “بحق عودته”، فقط ليصطدم ويُسحق بعد ذلك بالحقيقة.