فرصة زخمة لاحتضان مبادرة السّلام العربيّة
تقدّم مبادرة السّلام العربيّة فرصة ً غير مسبوقة وحيويّة لتغيير مسار الأحداث في الشرق الأوسط بالتوصّل لاتفاقيّة سلام إسرائيليّة – فلسطينيّة في سياق سلام ٍ شامل بين العرب وإسرائيل. لم يقترب تطوّر الأحداث منذ طرح مبادرة السّلام العربيّة في عام 2002 من قبل المملكة العربيّة السعوديّة من خلق بيئة جديدة كما هو الآن، جاعلا ً من المبادرة ذات صلة بالموضوع أكثر من أي وقت ٍ مضى، ولذا على إسرائيل تبنيها على وجه السرعة كأساس لمفاوضات السّلام.
تقترب إسرائيل من مفترق طرق تاريخي بانتخابات عامّة قد تؤدي لقيادة جديدة وتنهي الستّة أعوام من الجمود في مفاوضات السّلام في ظلّ حكم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي عمّق الصّراع مع الفلسطينيين وأبعد إسرائيل في نفس الوقت عن أقرب صديق ٍ وحليف ٍ لها، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكيّة. وما لم تنهض قيادة جديدة في إسرائيل وتشترك الدّول العربيّة بشكل ٍ مباشر في عمليّة السّلام، لن يكون هناك أمل لنجاح مباحثات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة في حالة استئنافها.
هناك العديد من الإسرائيليين ممّن يجادلون بأنه بالنظر إلى الأوضاع المتقلّبة في الشرق الأوسط، على إسرائيل أن ترّكز على التهديدات التي تواجهها من إيران وحزب الله وحماس وتنظيم “داعش” وغيرها من المجموعات الجهاديّة الأخرى وألاّ تنشغل مرّة أخرى بمفاوضات سلام ٍ غير مجدية.
ولكن ليس هناك أبعد عن الحقيقة من ذلك. فكلّ شيء حدث في السنوات القليلة الماضية والإضطرابات والثورات التي تجتاح المنطقة في الوقت الحاضر تشير كلّها إلى عكس ذلك تماما ً. الشيء المؤسف هو أنّ رؤساء وزراء إسرائيل – الواحد تلو الآخر- كانوا عميانا ً تجاه مزايا مبادرة السّلام العربيّة وغسلوا أدمغة الشعب بما وصفوه “الخطر الكامن” في هذه المبادرة بدلا ً من التأكيد على أهميتها وآثارها بعيدة المدى. والآن وبعد أن تغيّرت الديناميّات الإقليميّة بطرق أساسيّة، يجب على إسرائيل انتهاز الفرصة.
أجل، لأول مرّة منذ عقود ينظر العالم العربي السنّي، وبالأخصّ دول الخليج ومصر والأردنّ، لإسرائيل على أنها شريك في التعامل مع التهديد النووي الإيراني. وتشترك إسرائيل مع هذه الدّول في الإستخبارات وتنسّق معها على أصعدة مختلفة في حالة وصول إيران للعتبة النوويّة.
قد تُضعف مفاوضات السّلام الناجحة التي تعتمد على أساس المبادرة العربيّة للسّلام محور إيران – حزب الله بشكل ٍ جذري، وهو المحور الذي يهدّد إسرائيل من الشّمال ومن شأن قبول المبادرة أن يمارس ضغطا ً هائلا ً على حماس لاحتضانها أيضا ً لأنّ تحدّيها الإرادة العربيّة الجماعيّة سيتناقض مع مصالحها. وما دام الإحتلال باقيا ً ستبقى حماس أكثر تقبّلا ً للتسليح من طرف حزب الله وإيران. وقبول المبادرة من طرف إسرائيل أيضا ً سيحسّن من سمعة إسرائيل الدوليّة ويخفف من عزلتها ويضع الكرة في ملعب الفلسطينيين للتفاوض بجديّة على السّلام.
علاوة ً على ذلك، فإن إنعاش مبادرة السّلام العربيّة سيسمح للفلسطينيين القيام بتنازلات هامّة تحت المظلة السياسيّة للدول العربيّة ويقدّم لإسرائيل سلاما ً شاملا ً مع الأغلبيّة العظمى من الدول العربيّة والإسلاميّة.
وحيث أنّ إسرائيل الآن في خضمّ الإنتخابات العامّة، قد لا يكون هناك وقت أفضل لجامعة الدّول العربيّة للإعلان مرّة أخرى علنا ً بأنّ مبادرة السّلام العربيّة ما زالت مطروحة على الطاولة وحثّ الإسرائيليين على دعمها. وعلى زعيم حزب العمل، إسحق هرتسوغ، الذي لديه فرصة ً جيدة لتشكيل الحكومة الإسرائيليّة القادمة، أن يرقى للتحدّي ويقوم باحتضان المبادرة.
ينبغي على هرتسوغ أن يشرح للإسرائيليين أهميّة مبادرة السّلام العربيّة ولماذا أنّ الوقت الآن هو الصحيح لاستخدام المبادرة “كوسيلة ركوب” من شأنها أن تؤدي لسلام ٍ وأمن شاملين. وينبغي أيضا ً على هرتسوغ أن يحرّر الشعب الإسرائيلي من الوهم الذي عزّزه لديهم نتنياهو وهو أنّ المستوطنات توفّر لهم حدودا ً آمنة، هذا في حين أنّ مشروع المستوطنات فعلا ً عبء أمنيّ لا دعامة أمنيّة. وبصرف النظر عن هذا كلّه، فقد وافقت جامعة الدّول العربيّة على تعديل مبادرتها بحيث تلبّي متطلبات إسرائيل الأمنيّة من خلال مبادلة الأراضي الذي سيسمح لإسرائيل بالإحتفاظ بتجمعاتها الإستيطانيّة الثلاثة الكبرى.
وفيما يتعلّق بحقّ عودة اللآجئين الفلسطينيين الذي يُعتبر مصدر قلق ٍ آخر للإسرائيليين، فإن مبادرة السّلام العربيّة تدعو “لحل ٍ عادل” للمشكلة. لقد أدرك جميع القادة العرب في كلّ جولة من المفاوضات ما بين إسرائيل والفلسطينيين بأن إسرائيل لن تسمح إلاّ بعودة عدد ٍ رمزيّ من اللآجئين.
علاوة َ على ذلك، يُعتبر موضوع التنازلات الإقليميّة من قبل الطرفين قضيّة مركزيّة للوصول إلى اتفاقيّة سلام. وأولئك الإسرائيليّون الذين يرفضون التخلّي عن أراض ٍ من أجل السّلام إنّما يعرّضون إسرائيل للخطر كدولة ديمقراطيّة ويهوديّة. وكما قالها ديفيد بن غوريون، مؤسّس إسرائيل:”أفضّل دولة يهوديّة على جزء ٍ من الأرض على الأرض كلّها بدون دولة”.
وينبغي على هرتسوغ أيضا ً أن يواجه إدّعاء نتنياهو الغير مبرّر القائل بأن ” الدولة الفلسطينيّة ستكون في نهاية المطاف مثل غزّة”. لا، فالإنسحاب من الضفّة الغربيّة تحت أية ظروف سيتمّ بموجب ترتيبات وإجراءات أمنيّة شديدة التدقيق وعبر فترة زمنيّة تتراوح ما بين 5 – 10 أعوام وبالتنسيق التامّ مع السلطة الفلسطينيّة التي لن تترك شيئا ً للصدفة.
ينبغي على هرتسوغ أن يبدّد بشكل ٍ قاطع فكرة أنّ مبادرة السّلام العربيّة قد اقتُرحت على أساس “إمّا أن تأخذها كلها أو تتركها”، بل يقوم بالتفاوض مع الفلسطينيين على معاهدة سلام مستندا ً على مبادىء وأسس المبادرة.
لقد عاش الطرفان حتى الآن بأوهام حول هذه القضايا وكان نهج محصلتها صفراً كما لو كان أي مكسب لطرف ٍ يجب بالضرورة أن يكون على حساب الطرف الآخر. وللأسف الشديد، لم تفعل القيادة على كلا الجانبين شيئا ً مفيدا ً سوى نشر هذه المعتقدات.
وبالنسبة لقولي أوهام، أعني ما يشير له سيغموند فرويد عن المعتقدات التي تقام في غياب أي أسباب وجيهة تدعمها، لأنها تلبي رغبات عميقة الجذور، بغض النظر عن الأدلة (أو عدمها). وبما أنّ الأوهام تلبّي الإحتياجات الداخليّة، فالتخلّي عنها قد يكون مؤلما ً جدّا ً. ونتيجة ً لذلك، فإن إحدى العوائق الرئيسيّة أمام تبنّي مبادرة السّلام العربيّة هي أنّ العديد من الإسرائيليين ما زالوا غير مهيّئين نفسيّا ً للتخلّي عن بعض أوهامهم أو أحلامهم العزيزة.
لقد تشبّثت قيادة إسرائيل السياسيّة بهذه الأوهام ولم تفهم أبدا ً في يوم ٍ من الأيام عقليّة الفلسطينيين، والعكس هو الصحيح. وللتأكيد، فقد بُذلت حتى الآن جهود ضئيلة لجسر الهوّة الثقافيّة عن طريق إشراك بعضهم البعض بالتفاعل التصالحي المتبادل. ولكن بدلا ً من تعميق ذلك، فقد استخدم الطرفان المنصّة الشعبيّة للإساءة للطرف الآخر، معمّقين بذلك الكراهية وعدم الثقة بدلا ً من بناء جسور جديدة.
ولذا، على قادة حزب العمل خلال حملة الإنتخابات تصويب أنظارهم عاليا ً واحتضان مبادرة السّلام العربيّة لمنح الإسرائيليين الفرصة للعيش بسلام، وبالأخصّ الآن في هذه الفترة التي تُحاط بها المنطقة باضطرابات وثورات عارمة.