All Writings
فبراير 12, 2011

أيّــام أمجــاد مصــــــــــــــر

يمكن الحفاظ على أيّام أمجاد مصر فقط إذا قام الشباب الثوار وشخصيات المعارضة والمؤسسات بالعمل معاً يداً بيد مدركين بأنهم يصنعون مصير مصر.

أودّ أن أبدأ مقالتي هذه بالتصفيق أولاً للشعب المصري. أصفّق لهم وأحييهم ليس فقط لبسالتهم، بل أيضاً لتمّسكهم وإصرارهم ولحسّهم العميق بالالتزام تجاه أبناء بلدهم وبالمسئولية التي برهنوا عليها ولتشبثهم بالوصول بثورة شعبهم للنصر النهائي. وقد لا يُدهش أحداً شيء من هذا القبيل، فمصر وبعد كلّ شيء بلدٌ يتمتع بأكثر من أربعة آلاف عام من التاريخ المتواصل بالثروات الحضارية السامية وهي مهد الحضارات التي نوّرت أجيالا ً، جيلاً تلو الآخر. وقد وقف الشباب الثائر بثبات، مستمدين من تاريخ بلدهم المجيد تاريخاً أمدّهم بالقوة الداخلية والعزيمة للنهوض ثانية والارتقاء لمصير مستقبل مصر.

وبصرف النظر عمّا ستمرّ به هذه الثورة من مراحل ومقوّمات عديدة، غير أنّها لن تقدر على الفشل، ولن تفشل. لقد حرّكت موجةً عارمةً من الصحو، فلا مصر ولا أية دولة عربية أخرى ستبقى كما كانت. وبصرف النظر أيضاً عن كيفية انتهاء الثورة المصرية، ستحدّد نتائجها وتبعياتها النبرة والطابع في العالم العربي بأكمله. لن يكون أي حاكم عربي محصناً من التحوّل الثوري الذي سيجتاح المنطقة، وليس هناك بالنسبة لمصر حقبة زمنية أفضل مما هي الآن لإعادة استلام زمام القيادة متمثّلة بالأسلوب الحضاري الذي امتدّت به الثورة. فالتأملات الهادئة لعدد قليل من الرجال من بينهم السفير المصري السابق للولايات المتحدة في واشنطن، نبيل فهمي، والرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الدكتور البرادعي، والمدير التنفيذي لمؤسسة غوغل وصوت الثوار، وائل غنيم، وزعيم جماعة الإخوان المسلمين محمد بديع ورئيس حزب الغد أيمن نور وعضو البرلمان السابق ونائب الرئيس عمر سليمان وغيرهم كانت مفعمة بالتروي في الواقع الأليم. لم تكن هذه المجموعة ممزّقة ما بين الولاء للرئيس مبارك وخير شعبها، بل كان استنتاجها واضحاً تماماً بأنّ على مبارك الرحيل. السؤال كان بالنسبة لهؤلاء الرجال كيف ينسقون رحيله بكرامة مدركين تماماً بأنّ العالم بأكمله يراقب أحداث مصر وأنّه سيكون للطريقة التي سيتصرفون بها أصداء جادّة ودائمة في جميع أرجاء الشرق الأوسط وما وراءه.

وبالرغم من أن الثوار ميّالون، ولربّما لأسباب وجيهة، لإطاحة فوراً بالرئيس مبارك، عليهم التريث قليلاً والأخذ بعين الاعتبار بأنّ إسقاط مبارك بصورة مهينة لن يجلب لهم بصورة آليّة الإصلاحات التي ينشدونها. أضف إلى ذلك، فإزالة مبارك فوراً من السلطة لن يذل ّ فقط مبارك نفسه بل سينعكس أيضاً على مصر بلداً وشعباً فقد اتجاهه في وقت كان فيه منغمساً في حماس ثوري. الكل يدرك – بما فيهم الرئيس مبارك – بأن حكمه قد انتهى. وما تحتاجه مصر الآن هو انتقال منظّم للسلطة، أي فترة انتقالية تسمح له بإنهاء فترته الرئاسية بكرامة، ولو بسلطات ٍ مقلّصة إلى حدّ بعيد. على الشعب الذي احتمل حكم مبارك لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن أن يثبت الآن، من أجل مصر، أنّه وبصرف النظر عن تقصيرات رئيسهم عليهم أن يتصرّفوا من وجهة نظر تاريخيّة تليق بمكانة مصر ودورها القيادي المستقبلي في العالم العربي. يفضّل مبارك الانتحار على أن يترك منصبه بالخزي.ويجب أن يُمنح أولئك الذين يتفاوضون على رحيله بكرامة كلّ فرصة لإنهاء مهمتهم ما داموا باقين مسئولين تجاه الشعب المصري وملتزمين بالتجديد والنمو الاقتصادي والحريّة السياسية. وأخيراً فإن مصير مبارك النهائي سيرسل إشارة قوية جداً لباقي الدول العربية. لا يريد حاكم عربي بالطبع أن يترك منصبه بالخزي والعار، ولذا فإنهم سيقاومون ويلجأون لكلّ الوسائل القصريّة المتاحة لهم للبقاء في السلطة. وبإمكان مصر أن تقدّم مثالاً للانتقال المنظّم للسلطة الذي يسمح للرئيس بالرّحيل بطريقة تناسب مكانة مصر. والذي باستطاعة الثوار القيام به الآن – لا بل ويجب عليهم ذلك – هو الإصرار على الإبطال الفوري لقوانين الطوارىء التي أعطت سلطة غير محدودة تقريباً للشرطة وأجهزة الأمن الداخلي المعروف عنها بأنها أساءت استعمال سلطاتها وصلاحياتها بطريقة فظيعة. وإلغاء قوانين الطوارىء سيعطي الحكومة بعض المصداقية للعمل على تنفيذ إصلاحات أخرى موعودة.

والمذهل أيضاً في الانتفاضة المصرية هو الاعتناء والرعاية الملفتة للنظر التي أظهرها معظم المصريين لبعضهم البعض. ومهما كان الوضع في حالة من الفوضى كان المصريون العاديّون يعتنون ببعضهم البعض بتوفير الطعام والرعاية الطبية عند الضرورة. لم يكونوا موجهين لذلك من طرف أي زعيم بل تحملوا مسئولياتهم من تلقاء أنفسهم – كانوا يغنّون سوياً ويقاومون سوياً ويهتفون سوياً ويرفعون علم الثورة سوياً. كان هذا ليس بأقل من أي عمل بطولي فذّ واستعراض للانضباط والنظام ملفت للنظر ومقدرة فائقة على التعامل بأي وضعٍ مضادّ عندما انتشرت الثورة. وعندما قامت مجموعات بلطجية أُرسلت على ما يبدو من قبل وزارة الداخلية لتخويفهم ومهاجمتهم، فقد دافعوا عن أنفسهم يداً واحدة مظهرين تضامنهم سوياً وإرادة فولاذية للسيطرة عليهم – وسيطروا. وقد أدركت وزارة الداخلية بأنّ هذه ليست معركة يريدون الانتصار بها لأن عواقب مثل هذا “النصر” ستكون أكثر فجعاً.

الجدير أيضاً بالملاحظة هو طريقة تركيز الثوار على أزمتهم، فهم لم يبحثوا عن كبش فداء للومه على أوضاعهم المأساوية. لم يوجهوا اللوم لا لإسرائيل ولا للولايات المتحدة على إخفاقات بلدهم، بل أشاروا بالأحرى بأصابعهم على زعمائهم. وهنا مرّة أخرى، وبخلاف العديد من العرب الذين يلومون بصورة خاصّة إسرائيل على جميع الشرور التي تحلّ بمجتمعاتهم، يبدو أنّ المصريين يقدرون بأنّ السلام مع إسرائيل شيء إيجابي. ففي حين أنّ مبارك قد خذل الشعب المصري بكبت أو إعاقة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد تمكّن من غرس اتفاقية السلام مع إسرائيل في الحسّ الوطني للشعب المصري. حتى جماعة الإخوان المسلمون أقسمت الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل. وبالفعل، لا تستطيع ثورة القيام بإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية في وقت تكون فيه معادية لجيرانها وبالأخصّ إسرائيل بصفتها قوّة نووية بمقدرة عسكرية تقليدية هائلة والتي لا خلاف بينها وبين مصر. وبالفعل، بإمكان مصر أن تستفيد من العلاقات الثنائية كما كان الحال في الماضي. أضف إلى ذلك، فالمصريون يدركون بأنّ كل بلد حريصة على أفضل مصالح وطنية لها، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة، وحان الأوان للسلطات المصرية أن تحرص على مصالح الشعب المصري. وستقدّم مصر بهذا المعنى أيضاً مثالاً يحتذى به من قبل الدول العربية الأخرى.

ظاهرة أخرى فريدة من نوعها هي الطريقة التي تصرّف بها الجيش المصري طيلة العملية الثورية. لقد تحمّل الجيش كونه جزءاً من الشعب المصري المسئولية عن حفظ النظام وسط وضعٍ فوضوي. لقد سهروا بشكلٍ عام على مصالح الأمّة ككلّ ولم ينصاعوا لحاسية الحكومة لقمع الانتفاضة بالقوة. وبالفعل، العكس كان الصحيح، فقد اعترف الجيش المصري بحق الشعب في الاشتراك باحتجاجات سلميّة ورفض الانحياز لأحد الطرفين في الوقت الذي بدا فيه اتخاذ إجراءات أمنية الأفضل بالنسبة للبلد. وللتأكيد، فقد لعب الجيش دوراً بنّاءً إلى أبعد الحدود وعليه الآن الاستمرار في لعب هذا الدور بضمان فترة انتقالية سلميّة بينما يقوم باحترام الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي ستتفق عليها مختلف أحزاب المعارضة المدنية. على الجيش الاستمرار في القيام بدوره كضامن لأمن الدولة من الناحيتين الداخلية والخارجية. وسيرسل الجيش المصري بإجراءاته وتصرفاته رسالة واضحة لغيره من الجيوش العربية وهي: لقد شُكّل الجيش لحماية الأمة بشكل أساسي من أي عدوّ خارجي وليس لقمع المواطنين.

وأخيراً، وبصفة مصر أكبر الدول العربية وأكثرها تقدماً من الناحية الحضارية وهي بدورها هذا تشير إلى الاتجاه لأمور كثيرة في العالم العربي، عليها الارتقاء الآن لأخذ دورها الريادي في منطقة يمزقها عدم الاستقرار والصراع على الهيمنة الإقليمية، وبالأخصّ ما بين إيران وتركيا. قد يقود ضعف مصر إلى إحداث فراغٍ قيادي في العالم العربي تتوق كل من إيران الغير عربية وهي دولة بأغلبية شيعيّة وتركيا كبلدٍ بأغلبية سنيّة إلى ملئه. وبإمكان مصر فقط أن تصعد ثانية، ليس فقط لتقود العالم العربي، بل لتكون حاميةً له من الهيمنة عليه من قبل دولة غير عربيّة.

لقد حدثت الثورة في مصر في فترة حرجة جداً من تاريخ الشرق الأوسط. فالسلام ما بين إسرائيل وباقي الدول العربية ما زال بأحسن الأحوال في موقع خطر، وإيران تتسابق لامتلاك أسلحة نووية والمجموعات الإسلامية المتطرفة تحوم للاستفادة من الأنظمة العربية الفاشلة. وترسل الثورة المصرية إشارة واضحة بأنّ النظام القديم قد انتهى، وأنّ الشعب المصري سيشكّل الآن النظام الجديد، ليس فقط لأنفسهم بل للعالم العربي بأكمله. ويجب على الثوار المصريين الشباب الشجعان أن يتذكروا بأنّهم وحدهم من سيقرّر مصير مصر.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE