هزيمة “داعش” وانهاء الحرب السنيّة – الشيعيّة في العراق
الآن وقد أخذت القوات العراقيّة تستعدّ بمساندة قوات التحالف الدولي لاعادة احتلال الموصل – اخر معقل رئيسي لتنظيم الدولة الاسلاميّة في العراق – يطرح السؤال الآتي نفسه وبشدّة على الملآ:”ماذا سيكون مصير الطائفة السنيّة العراقية بعد هزيمة “داعش” المحتومة ؟”. أنا أعتقد بهذا الصدد أنه ما لم يبدأ النقاش السياسي الآن ما بين الحكومة العراقية ذات الاغلبية الشيعية والطائفة السنيّة – تحت رعاية الولايات المتحدة – لتقرير مصير السنّة العراقيين, فان هزيمة “داعش” لوحدها لن تنهي الحرب الاهلية السنيّة – الشيعيّة الدائرة الآن في العراق والتي أودت منذ عام 2003 بحياة عشرات الآلاف من الضحايا على كلا الجانبين.
فما دام السنيّون العراقيّون لا يعرفون حتى الآن ما يخبىء لهم المستقبل, ليس لديهم سببا ً أو دافعا ً للمخاطرة بأرواحهم في القتال ضدّ تنظيم الدولة الاسلاميّة “داعش” وتقديم تضحيات فقط لمنفعة الحكومة الشيعيّة في بغداد والتي يرفضونها ويحتقرونها حتّى أكثر من “داعش”.
ينبغي على ادارة أوباما – بالتوازي مع القتال ضدّ “داعش” – أن تبدأ فورا ً بالتفاوض على الوضع المستقبلي للعراقيين السنّة مع الحكومة العراقيّة والقبول باقامة منطقة حكم ذاتي في المحافظات العراقية الثلاث ذات الاغلبية السنيّة وهي: نينوى, صلاح الدين وديالا وادارة شؤونهم الذاتية على نمط الحكم الذاتي الكردي في الشمال, هذا مع ارتباط مرن بالحكومة المركزية في بغداد.
ولكي ينجح هذا الامر, من الضروري تزويد السنّة بعد هزيمة “داعش” مباشرة ً بالمساعدة المالية اللازمة لبناء المؤسسات التي يحتاجونها خلال فترة ٍ انتقالية تتراوح ما بين خمسة وعشرة أعوام, شاملة مرافق الرعاية الصحيّة, المدارس والخدمات الاجتماعيّة لدعم أساس أقامة مثل هذا الحكم الذاتي.
والافتراض بأن العراق سيلتحم نوعا ً ما بعد هزيمة “داعش” هو وهم كبير, حيث أن تقسيم العراق فعليّا ً الآن الى ثلاث دول قد ترتّب بعد غزو العراق مباشرة ً في عام 2003.
وتحرير الموصل من “داعش” سيكون أمرا ً في غاية الصعوبة تحت أية ظروف. بالفعل, فالقتال من أجل الموصل بالنسبة لتنظيم الدولة الاسلامية “داعش” هو مسألة حياة أو موت وينبغي أن نتوقّع من “داعش” اللجوء ألى أية وسائل متاحة لديهم مهما كانت فظيعة وغير انسانية لمنع التحالف الدولي والقوات العراقية من تحقيق أهدافها. فمن المتوقع أن يكون القتال من شارع لشارع ومن بيت لبيت, مع احتمال سقوط الاف الضحايا من المدنيين وتدمير جزء كبير من البنية التحتية لمدينة الموصل.
والطريقة الوحيدة لتقليص نسبة الدمار وانهاء الحرب الآهلية السنيّة – الشيعيّة تدريجيّا ً هي اغواء الجاليات السنيّة داخل وخارج الموصل للانضمام للقتال ضد “داعش”. وهذا لا يتمّ – على أية حال – الاّ بالثمن الذي يجب على الحكومة العراقية المركزيّة أن تكون مستعدة لدفعه, وهو التفاوض على انشاء حكم ذاتي للسنّة العراقيين في محافظاتهم الثلاث المذكورة انفا ً.
ان احتلال الموصل من قبل “داعش” قد تسبّب في هجرة مئات الآلاف من الاقليّات العرقيّة, شاملة التركمان واليزيديين والمسيحيين والشيعة وغيرهم. ونتيجة لذلك, فالجالية السنيّة ما زالت تشكّل الاغلبيّة المطلقة للسكان. ونظرا ً لمخاوفهم من استمرارية عدم الاستقرار والتمييز وسفك الدّماء, فان كثيرين من الذين هربوا لن يكونوا قادرين أو مستعدّين للعودة بعد هزيمة “داعش”.
وأذكر بهذا الصدد ما قاله لي مسؤول عراقي كبير سابق بأن هناك حاجة “لحوار شامل وعاجل ما بين أصحاب المصلحة لوضع خارطة طريق سياسيّة الى جانب خارطة الطريق العسكرية لتحرير الموصل”.
ومن بين ما يزيد عن 700.000 سنّي يعيشون حاليّا ً في الموصل, هناك ما يقارب من ال 100.000 من هم في سنّ القتال وبمقدورهم الانضمام لمحاربةّ “داعش” من داخل المدينة اذا راوا طريقا ً واضحة قد تقودهم الى اقامة كيان بحكم ذاتي لهم. هذا لن يعجّل فقط من نهاية “داعش” وتقليص حجم الضحايا والدمار في المدينة, بل وأيضا ً التوصّل في نهاية المطاف الى نهاية تدريجيّة للحرب الاهلية السنية – الشيعية. وقد ذكر نفس المصدر بأن “المسؤولين العراقيين بحاجة لتبني ثقافة جديدة من الحوار وحلّ المشاكل بالتسوية لعرض قدرتهم لجمهور ناخبيهم على تبنّي احتياجات الرخاء لشعبهم”.
وبعد خسارة سيطرتهم على العراق للشيعة في عام 2003 بعد 81 عاما ً من الحكم السنّي المتواصل, ما زال يرفض السنيّون قبول ما يعتبرونه مهزلة تاريخيّة. وقد زاد الآمر تفاقما ً الثمانية أعوام من الحكم الشيعي بقيادة نوري المالكي الذي أساء استخدام سلطته وهمّش الجالية السنيّة وأساء معاملتها وخدعها.
ومن المؤسف له أيضا ً أن نرى استمرار سوء معاملة السنيين في ظلّ حكومة حيدر العبادي الحاليّة بالرّغم من أنّ الولايات المتحدة ضغطت على رئيس الوزراء العبادي لاقامة حكومة وحدة وطنيّة متوحدة في أهدافها بالنظر لضرورة هزيمة “داعش” كشرط أساسي لاستقرار البلد.
و”حكومة الوحدة” المزعومة في العراق التي سعت لاقامتها الولايات المتحدة هي مهزلة. لن يقبل السنيّون فيها أبدا ً وضعا ً تبعيّا ً للشيعة مدركين بأنهم – على الاقلّ في المستقبل المنظور – سيستمرون في المعاناة تحت قبضة حكومة شيعيّة قويّة.
رئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي شخصية ضعيفة وحكومته الى حدّ كبير فاسدة ولم يفعل الاّ القليل لتهدئة الجالية السنيّة في بلده. هذا من ناحية, ومن الناحية الاخرى تستمرّ ايران في ممارسة ضغط سياسي هائل على بغداد بحكم التقارب الديني ونظرا ً لان ايران قد وفّرت ملجأ لآلاف المنفيين العراقيين خلال حكم صدام حسين.
والآن ومع مشاركة ايران الفعالة في القتال ضدّ تنظيم الدولة الاسلاميّة “داعش” من خلال ميليشياتها التي قبلت بها الولايات المتحدة بصمت, لا ينظر السنيّون لتورّط ايران ونفوذها الملحوظ في العراق على أنه شيء عابر. ونتيجة لذلك, يرى السنيّون أنفسهم عن غير قصد وغالبا ً طواعيّة يدعمون “داعش” لانهم من الناحية الدينيّة أقرب لداعش من الشيعة العراقيين.
ومدركة ً بأن الشيعيين سيبقون القوة المسيطرة في العراق, تشعر أغلبية الدول العربية السنيّة – بقيادة المملكة العربية السعودية – وبشدّة بأن اقامة حكم ذاتي سنّي سيحدّ من تأثير يران الهائل على الحكومة العراقيّة الشيعيّة.
ليس هناك شكّ بأن مستقبل الموصل بعد هزيمة “داعش” سيكون بشكل ٍ جدّي موضوع نزاع وستقاوم الحكومة العراقية أية ترتيبات لا تعيد مدينة الموصل كجزء لا يتجزأ من العراق. وأنا أعتقد – على أية حال – بأنه لن يكون هناك نهاية للصراع السنّي – الشيعي الدموي ما لم تصبح مدينة الموصل – التي تقع في مركز محافظة نينوى السنيّة – العاصمة الاقليمية للكيان السنّي الذي سيقام حديثا ً.
أما القضية المركزية التي يجب ادخالها في أيّة اتفاقية على استقلال السنّة هي الاستثمارات الاجنبيّة الكبيرة وبالاخصّ التوزيع العادل لعائدات النفط, الامر الذي يستلزم وضع اّلية صارمة وملزمة وتحت رقابة أو حراسة دولية من قبل مجلس الامن الدولي لضمان تنفيذها بشكل ٍ دائم وتامّ.
من شأن اتفاقية عادلة لتوزيع عائدات النفط أن تمهّد الطريق أيضا ً لعلاقات أفضل وأوثق ما بين الاكراد والسنيين والشيعة, الامر الذي سيؤدي حتما ً لتعاون أوسع في العديد من المجالات الاخرى, بما في ذلك برامج التنمية الاقتصادية المشتركة والتعاون الامني والتجارة وغيرها.
تفتقر ادارة أوباما الى رؤية واضحة في العراق, وهذا ما اعترف به الرئيس باراك أوباما في مطلع عام 2015. والآن وقد تغيّرت الاوضاع على أرض الواقع وداعش في تقهقر, بأمكان أوباما تقديم المساعدة بدعم ٍ كامل من شركائه في التحالف لتشكيل مستقبل العراق وذلك بالتفاوض على ترتيب سياسي جديد مع الحكومة المركزية العراقية يمنح الجالية العراقية السنيّة حكما ً ذاتيّا ً. وقد تكون هذه “الوصفة” العملية الوحيدة التي ستؤدي لهزيمة “داعش” ولنهاية الحرب الاهلية السنيّة – الشيعيّة الفظيعة في العراق وفي الدول العربية الاخرى.