ترامب:” إغلق اليد المفتوحة بدافع الحب
إنّ تعيين الرئيس الأمريكي المنتخب لدافيد فريدمان (المعروف بدعمه للمستوطنات) ليكون سفيرا ً للولايات المتحدة في إسرائيل وتعيينه وليد فارس (وهو مسيحي ماروني معروف بتأييده للمسار الإسرائيلي وكراهيته للفلسطينيين) كمستشاره لشؤون الشرق الأوسط، وتكليفه لصهره جاريد كوشنر (المعروف بأنه مؤيّد وداعم قوي ومخلص لإسرائيل وتمّ تعيينه مؤخرا ً كمستشار أوّل للرئيس المنتخب) ليتولوا الثلاثة كطاقم البحث عن حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، هذا كلّه يشير إلى إمكانية حدوث تغيير رئيسي في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصّراع.
وهذه التعيينات، مقرونة ً بوعد حملة ترامب لنقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، قد تُترجم حقّا ً كدعم مستمرّ للمستوطنات وضمّ المزيد من الأراضي الفلسطينيّة. وإذا حدث ذلك، فإنه سيعرّض إمكانية حلّ الدولتين للخطر وكذلك مستقبل إسرائيل كدولة يهوديّة قابلة للحياة، ناهيك عن أعمال العنف اللامتناهية والمترتبة عن ذلك.
نحن الآن نسمع أجراس الخطر من عدّة عواصم عربيّة مختلفة. فانتصار الفلسطينيين بتمرير قرار مجلس الأمن الدّولي رقم (2334) الذي يدين المستوطنات الإسرائيليّة قد تظلّل الآن بشعور عميق من الخوف والفزع ويثير في نفس الوقت مخاوف كبيرة بين الإسرائيليين المعتدلين والأوروبيين الذين لا يعلمون الآن ما يتوقّعون وكم مقلقة ٌ هي الحال التي أصبح عليها الوضع .
يشعر العديد من أعضاء الحكومة الإسرائيليّة بأنهم مجرّأون بفعل هذه التطورات. فقد دعا وزير التربية والتعليم، نفتالي بينيت، لضمّ ثالث أكبر مستوطنات إسرائيل، وهي معالي أدوميم، الواقعة على بعد بضعة أميال شرقي القدس، الأمر الذي سيقطع فعليّا ً الضفة الغربيّة إلى نصفين ويمنع قيام دولة فلسطينيّة متواصلة الأرجاء وقابلة للحياة. وقد قام، علاوة ً على ذلك، بمناشدة نتنياهو لاستبعاد قيام دولة فلسطينيّة أثناء اجتماعه الأول مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مصرّحا ً بأن:”الأسابيع القليلة القادمة تمثّل نافذة فرصة ٍ فريدة من نوعها لإسرائيل”.
وبالنسبة لنتنياهو، يُعتبر ترامب كرئيس مُرسل ٌ بكلّ بساطة من السّماء. فهو يعتقد بأنه بالرّغم من أنه لن ينجح في إقناع ترامب للتراجع عن صفقة إيران بسبب التداعيات الدوليّة التي لا يستطيع ترامب تحاشيها، فإنّ إدارة ترامب ستترك له مطلق الحريّة لتوسيع المستوطنات وجعل احتمال قيام دولة فلسطينيّة تدريجيّا ً أمرا ً غير عمليّ بخلق حقائق غير قابلة للإلغاء على أرض الواقع.
ومن السخرية هنا أن نذكر بأن العديد ممّن يدّعون بأنهم حريصون على أمن إسرائيل المستقبلي وعلى خيرها وسلامتها لا يريدون أن يعترفوا بأن الفلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة ليسوا مجرّد ظاهرة عابرة. أجل، بإمكان إسرائيل أن تبني (100) مستوطنة أخرى وتضمّ الجزء الأكبر من الضفّة الغربيّة، ولكن ماذا بعد ذلك ؟ هل سيجلس الفلسطينيّون والعالم العربي والمجتمع الدولي مكتوفي الأيدي بكلّ بساطة ولا يحرّكوا ساكنا ً ؟
ينبغي على هؤلاء المؤيّدين والدّاعمين لإسرائيل بدون إجفال أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ويجاوبوا على الأسئلة التالية:” أين ستكون إسرائيل في غضون 10 أو 15 عاما ً ؟”. هل ستكون دولة يهوديّة ؟ أم دولة ديمقراطيّة ؟ أم دولة أبارتايد (دولة فصل عنصري) ؟ أم دولة ثنائية القوميّة ؟ أيّ نظام قانوني سيحكم الضفّة الغربيّة ؟ هل سيكون نظاما ً مدنيّا ً أم عسكريّا ً ؟ هل سيكون هناك نظامان مختلفان من القوانين، واحد ٌ للفلسطينيين وآخر للمستوطنين ؟ وما هي رؤية أولئك الذين يعارضون قيام دولة فلسطينيّة حول العلاقة ما بين إسرائيل والفلسطينيين ؟ وماذا يعني نتنياهو عندما يستذكر مرارا ً وتكرارا ً مطالبة اليهود بكامل “أرض إسرائيل ؟”. هل لدى نفتالي بينيت أدنى فكرة عمّا سيحدث بعد ضمّ مستوطنة معالي أدوميم، أو ضمّ منطقة (ج) التي تمثّل (61 %) من أراضي الضفة الغربيّة ؟
ثمّ ماذا سيكون ردّ فعل الدّول العربيّة ؟ هل بإمكان نتنياهو أن يعوّل على تعاون هذه الدول أثناء الإنتفاضة الفلسطينيّة القادمة والتي ستشتعل لا محالة عندما يتلاشى أمل الفلسطينيين كليّا ً في إقامة دولة ٍ مستقلّة لهم ؟ وماذا ستكون نتيجة الحرب القادمة مع قطاع غزّة، وماذا سيكون مدى الأضرار الجانبية المترتبة عليها ؟
أجل، بإمكان إسرائيل أن تعيد احتلال قطاع غزّة وتقضي بالكامل على قيادات حماس (كما ردّ يوما ً ما وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان في تعليق ٍ له)، ولكن هل إسرائيل مستعدّة لحكم ما يزيد عن 1.8 مليون فلسطيني ؟ وبأي ثمن سيكون ذلك دما ً ومالا ً ؟ وإذا كانت لا تريد ذلك، فماذا سيحدث عندما تمطر الجولة الثانية الصواريخ الأكثر تطورا ً من ذي قبل يوميّا ً على رؤوس الإسرائيليين وترعبهم ؟
ثمّ هل تستطيع التقنية الإسرائيليّة وإمكانيّات مكافحة الإرهاب التي يفتخر نتنياهو بها أن تجلــب السّلام ؟ وإذا كان الجواب نعم، كيف ؟ وهل ستنسى الدّول العربيّة بكلّ بساطة محنة الفلسطينيين فقط لأنها تتعاون في الوقت الحاضر مع إسرائيل في قضايا الأمن وتبادل المعلومات الإستخباراتيّة للتصدّي للتهديدات الإيرانيّة ؟
وأخيرا ً، هل أخذ نتنياهو، بينيت وشاكلتهم بعين الإعتبار الإحتجاج والغضب والإدانة والعقوبات الدوليّة التي ستنتج عن ذلك، ومدى عزلة إسرائيل عن العالم ؟ وهل فكّروا بما سيتعرّض له اليهود في جميع أنحاء العالم نتيجة هذه السياسات ؟ سيشتدّ العداء للساميّة وستعتبر المشاريع التجارية والمنظمات اليهوديّة “أهدافا ً مشروعة” للإرهاب.
أجل، سيزداد نفور الجيل الشابّ من اليهود التي أخذت هجرتهم إلى إسرائيل في التناقص. لن يعودوا أن يروا في إسرائيل ملجأً آمنا ً لليهود، بل عبئا ً ومسؤولية رئيسيّة، وسيرفضون التجنيد في الجيش الإسرائيلي (قوات الدفاع الإسرائيلي) وتكليفهم بقمع واضطهاد الفلسطينيين وإنكار عليهم حقّهم في العيش بحريّة.
وما يرفض إدراكه العديد من المجانين الإسرائيليين ، رجالا ً ونساء، داخل وخارج الإئتلاف الحكومي (أمثال نتنياهو، بينيت، ليبرمان، وزيرة العدل أيليت شاكيد، ووزير الثقافة ميري ريجيف وآخرون من زمرتهم) هو أنه بإمكانهم التلاعب بالفلسطينيين أو مناورتهم أو التحكّم بهم أو تشويههم، ولكن فقط حتّى نقطة معيّنة، ولكن ليس بمقدورهم أن يسيطروا عليهم إلى ما لا نهاية. فنتنياهو يستخدم بشكل ٍ خاصّ وبحذاقة تكتيكات التخويف ويستفيد من التحريض الفلسطيني لتبرير إدعائه بأنهم غير معنيّون بالسّلام. ولعلّ أوقح كذبة هي الإدّعاء بأنه في حالة قيام إسرائيل بإخلاء الضفّة الغربيّة، فإنّ المناطق ستصبح غزّة أخرى، أي “حماستان” ثانية، أي منصّة لإطلاق الصّواريخ وملاذا ً للإرهاب، هذا في حين أنّ الإنسحاب من غزّة آنذاك كان في الواقع أحاديّ الجانب بدون أيّ تنسيق مع السلطة الفلسطينيّة التي كانت مسؤولة آنذاك عن القطاع.
لن ينتهي ارتباط الفلسطينيين اقتصاديّا ً في الضفة الغربيّة بإسرائيل والتعاون الأمني معها في حالة إبرام اتفاقية سلام بين الجانبين، بل ستبقى إسرائيل حاضرا ً ومستقبلا ً شريان الحياة الإقتصادية بالنسبة للفلسطينيين لعقود ٍ قادمة. يسعى الفلسطينيّون للإستقلال السياسي عن إسرائيل ولكنهم لا يستطيعون (ولا يريدون أيضا ً) بكلّ بساطة الطلاق كليّا ً عن إسرائيل بسبب هذه الإرتباطات الإقتصاديّة والأمنيّة. إنهم على دراية جيدة بالتعاون المكثّف لمصر والأردنّ مع إسرائيل في هذه المجالات ومدى استفادة هاتين الدولتين من السّلام مع إسرائيل.
أنا لا أعفي على أية حال ولو للحظة ٍ واحدة الفلسطينيين من المسؤوليّة. حان الوقت لأن يتوقّفوا عن العيش في الماضي، والعنف والتحريض ضدّ إسرائيل لن يجلب لهم شيئا ً سوى حرمانهم من أبسط ما يريدون تحقيقه، ألا وهو حلمهم في إقامة دولتهم الفلسطينيّة. ويجب أن يكونوا مستعدين لدفع الثمن لطلبهم أن يكونوا أحرارا ً. يجب على الفلسطينيين أن يتعلّموا كيف يتحمّلون مسؤولياتهم وأن يصلحوا نظامهم السياسي الفاسد وأن يركّزوا على بناء البنية التحتيّة ومؤسسات الدولة. وقبل كلّ شيء، عليهم إيقاف تسميم الجيل القادم من الفلسطينيين ضدّ إسرائيل لأنّ ذلك يضحّي فقط بهؤلاء الشباب والشابات ويحرمهم من مستقبل ٍ أفضل وأكثر إشراقا ً.
وقبل أن يقوم دافيد فريدمان ووليد فارس وجاريد كوشنر بتقديم المشورة للرئيس حول كيفيّة التعامل مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، عليهم أولا ً الإجابة على جميع هذه الأسئلة التي لها تأثير رئيسي على مستقبل إسرائيل. أنا أعتقد بكلّ تأكيد بأنهم جميعا ً حريصون بصدق على إسرائيل ويريدون أن يفعلوا كلّ ما بإمكانهم لضمان أمنها ورخائها وتكون بسلام ٍ مع جيرانها. ولكن ما هو مطلوب هنا هو ما نسميه “الحبّ القاسي”. فكما قالها الفيلسوف الألماني نيتشة ببلاغة وإيجاز:”هذا أقساها: أن تقفل اليد المفتوحة بدافع الحبّ وتبقى معتدلا ً كمعطي”. وهذا بالضبط “بيت القصيد”. فبسبب التزامهم بخير وسلامة إسرائيل، يجب عليهم التفكير بكلّ عناية بالتداعيات إذا هم نصحوا الرئيس بالإيفاء بوعد حملته لنقل مقرّ السفارة الأمريكيّة إلى القدس بدون الإعتراف بنفس الوقت بحقّ الفلسطينيين في إقامة عاصمة دولتهم في القدس الشرقيّة عند التوصّل لاتفاقية سلام ٍ بين الطرفين.
على هؤلاء (دافيد فريدمان ووليد فارس وجاريد كوشنر) أن يأخذوا بحذر بعين الإعتبار التداعيات الناتجة عن قيام إسرائيل بضمّ مستوطنة معالي أدوميم بدون مبادلتها بما يُتفق عليه من الأراضي من الجانب الآخر حيث أنّ ضمان قيام دولة فلسطينيّة في المستقبل يتطلّب تواصل جغرافي لها. عليهم أن يكونوا حذيرين بصورة غير اعتياديّة بعدم إعطاء نتنياهو صكّا ً مفتوحا ً لتوسيع المستوطنات وتقويض حلّ الدولتين وتعريض مستقبل إسرائيل للخطر.
ويدرك ترامب بدوره كوسيط بأن الإجراءات أحادية الجانب من أيّ من الطرفين لن توصّل إلى اتفاق. أيّ اتفاق يُبرم ما بين إسرائيل والفلسطينيين يجب أن يكون عادلا ً – أي ألاّ يكون في نتيجته أحد الطرفين خاسرا ً بل ملبيّا ً لطموحات كلا الشعبين، وبالأخصّ أنّ ليس لهما أيّ خيار سوى أن يتعايشا بسلام. إنّ مصيراهما، رضيا بذلك أم لا، متشابكان بعضهما ببعض تشابكا ً وثيقا ً لا حلّ منه، فإمّا أن يعيشا بسلام ووئام أو بعنف ٍ مستمرّ مع موت ٍ ودمار. فلا يستطيع أيّ من الطرفين أن يحصل على كلّ ما يريده هو وبطريقته الخاصّة.
وهنا تستطيع، يا سيّد ترامب، أن تلعب دورا ً تاريخيّا ً. أناشدك بألاّ تعطي كوسيط نتنياهو ما يريد. فإذا فعلت ذلك، ستسلب الأغلبية العظمى من الإسرائيليين والفلسطينيين كلّ شيء يطمحون إليه وستحرّك دوّامة لا ترحم من العنف، لا توفّر على أيّ من الطرفين لعقود ٍ ستأتي المزيد من الألم والعذاب والموت والدمار. أية صفقة جيدة ومستدامة تتطلّب الأخذ والعطاء، وعلى كلّ جانب أن يقوم بالتنازلات اللازمة وخلق تبادليّة مصالح لضمان ثباتها.
وكوشنر أقلّ المتحمسين. إنه يعلم جيدا ً المشهد الإسرائيلي ويدرك بأن أيّ شيء أقلّ من سلام ٍ عادل سيضرّ بإسرائيل. وليس بوسعنا سوى أن نأمل بأنه سيستخدم نفوذه كمستشار أوّل للرئيس ترامب ويمهّد الطريق له لصنع الإتفاقيّة التي فشل في التوصّل إليها جميع أسلافه من الرؤساء.
لقد قال ديفيد بن غوريون ذو البصيرة البعيدة والمؤسس القيادي لدولة إسرائيل وأول رئيس وزراء لها:”خير لنا دولة يهوديّة على جزء من الأرض من كلّ الأرض بدون دولة”.