أردوغان: سلطان إمبراطوريّة عثمانيّة وهميّة
هذه المقالة الرابعة من سلسلة من المقالات تعتمد إلى حدّ ٍ ما على روايات شهود عيان حول الظروف الإجتماعية – السياسيّة التي تتدهور بسرعة في تركيا وماذا قد يخبىء المستقبل لهذا البلد. يمكن تنزيل المقالات الآولى والثانية والثالثة بالضغط هنا: (الأولى)، (الثانية)، (الثالثة).
في محادثات ومقابلات عديدة أجريتها على مدى سنوات مع رئيس الوزراء التركي السابق أحمد دافوتوغلو، كان هذا يردّد بشكل ٍ قاطع رؤية رئيسه إردوغان العظيمة بأنّ تركيا – بحلول عام 2023 (في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية) – ستصبح قويّة ومؤثرة كما كانت الإمبراطورية العثمانية في ذروة مجدها. وفي ظلّ أفضل الظروف، تركيا لن تستطيع تحقيق حلم أردوغان البعيد المنال. فلو بقي على مساره بإصلاحاته الإجتماعيّة والسياسيّة والقضائيّة وتطوراته الإقتصاديّة كما كان يفعل خلال التسعة أعوام الأولى من فترة حكمه، لكان باستطاعة تركيا أن تصبح فعلا ً لاعبا ً أساسيّا ً على الساحة الدوليّة وقوّة إقليميّة.
للأسف، لقد أقلع أردوغان عن الكثير من إصلاحاته الديمقراطية المثيرة للإعجاب والتي كان بطلها وشرع في أسلمة منهجيّة للبلاد وفي نفس الوقت بدأ يفكّك أعمدة الديمقراطية. لقد كدّس لنفسه صلاحيات غير مسبوقة وحوّل تركيا من دولة ديمقراطية إلى بلد ٍ بحكم إستبدادي، ضامنا ً أنّ له الكلمة الأخيرة في جميع شؤون الدولة.
وبنظرة رجعيّة على الماضي، يبدو أنّ أردوغان لم يلزم نفسه أبدا ً لشكل ٍ ديمقراطي من الحكم. فالإصلاحات التي أجراها خلال التسعة أعوام الأولى من فترة حكمه كان سببها إلى حدّ كبير متطلبات الإتحاد الأوروبي من أية دولة تسعى إلى عضوية الإتحاد والتي استغلّها هو كوسيلة لدفع نفسه نحو هدفه النهائي. ويكشف بدقّة إقتباس يُعزى له في عام 1999 عن نواياه الحقيقيّة من اليوم الذي صعد فيه إلى السلطة. قال:”الديمقراطيّة مثل الحافلة. عندما تصل إلى هدفك، تترجّل (تنزل) منها”.
قدوته مصطفى كمال أتاتورك (أتاتورك لقب ويعني “أب الأتراك”) الذي أسس الجمهورية التركية في عام 1923. يشترك كلاهما بسمات وصفات شخصيّة مماثلة حيث أنهما سعيا لقيادة البلد بقبضة حديديّة في حين كانا يتجاهلان أي فصل ٍ للسلطات. ولكن أتاتورك كان، على أية حال، مصمّماً على تأسيس دولة ديمقراطية علمانية على الطراز الغربي، في حين ذهب أردوغان في الإتجاه العكسي.
لقد تحرّك أردوغان بثبات لإنشاء حكومة دينيّة تسيطر عليها التقاليد والقيم الإسلاميّة، هذا في حين يتخذ لنفسه صورة أتاتورك الموقّرة من معظم الأتراك. ويقدّم أردوغان نفسه على أنه من يقود البلاد بتصميم وهدف، مولدا ً سلطة وصلاحيات من الدّعم الشعبي له، وساعيا ً في نهاية المطاف إلى أن يحلّ محلّ أتاتورك. وبالتعديلات الجديدة على الدستور سيتمّ منحه سلطات وصلاحيات حتى أكبر من تلك التي كانت في يد أتاتورك.
ومع نموّ شعبيته والتقدم الإقتصادي المثير للإعجاب، إحتلّ أردوغان بنجاح مكانة القائد القوي والحازم، أي “أب” الجمهورية التركية العصريّة، وتوغّل بحذاقة ودهاء في وعي ووجدان الشعب التركي في حين أنه يستغلّ الإسلام كالنهج الذي لا نزاع فيه والذي سيقود تركيا إلى العظمة. وهو مصمّم أن يكون في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية رئيسا ً لدولة قوية تكون من ضمن أكبر الإقتصاديات العشرة في العالم ويمتدّ نفوذها شرقا ً وغربا ً أقرب إلى النفوذ المذهل الذي كانت تتمتع به الإمبراطورية العثمانيّة.
ولتحقيق رؤيته العظيمة، فقد اتخذ أردوغان العديد من الإجراءات والخطوات لترسيخ سلطته المطلقة.
أولا ً، تنظيف الطريق: لقد شرع أردوغان في التهميش التامّ والقضاء على أيّ شخص – داخل وخارج حزب العدالة والتنمية الحاكم – تحدّى سلطته أو قدّم أفكارا ً جديدة لحلّ مشاكل البلاد. هذا ولم يستثني أيضا ً أولئك الذين لم يدعموا سياساته وتجرّأوا على أن يشكّكوا في أحكامه وقراراته. والتجأ في ذلك لنظريات المؤامرات متهما ً خصومه السياسيين بأنهم أعداء الدولة ومستهدفين الإطاحة بحكومته، وذلك لكي يستمرّ بدون معارضة في تحقيق رؤيته للبلد بما يماثل تأثير وامتداد الإمبراطورية العثمانيّة. لقد طرد حتّى صديقه الحميم وكاتم أسراره دافوتوغلو لأنّ هذا الأخير اختلف معه فيما يتعلّق بالمشكل الكردي، وبالأخصّ بسبب تردّد دافوتوغلو لدعم الإصلاحات الدستوريّة التي ستمنح الرئيس سلطات كاسحة وغير مسبوقة.
ثانيا ً، الحاجة لمتهم: كان أردوغان بحاجة إلى كبش فداء يضع عليه اللوم لتقصيراته، فوجد حركة غولن لتكون المتهم المثالي لتوفّر له التغطية اللازمة لتلقي بظلالها على الفساد المستشري الذي اجتاح حكومته. وهذه أيضا ً قدّمت له “المبرّر” لقمع العديد من الكيانات الإجتماعية والسياسيّة والمؤسسية وإسكات وسائل الإعلام ومراقبة القضاء وإخضاع الجيش.
وقد أعطته الفترة ما بعد محاولة الإنقلاب العسكري في شهر تموز / يوليو 2016 الذخيرة المطلوبة للقيام بمطاردة “العملاء وأعداء الدولة” على نطاق ٍ واسع ٍ من المجتمع موفرة له المبرّر للتخلّص من عشرات الآلاف من الأشخاص الأكاديميين والمجتمع المدني والقضاء والجيش والأمن الداخلي، الأمر الذي سمح له ببسط سيطرته الكاملة على جميع الدوائر في الحكومة وفي القطاع الخاصّ. وقد وصف قيامه بهذا التطهير على أنه شرّ لا بدّ منه لتنظيف المجتمع من “السرطان” الذي استشرى في البلاد. وقد ضمن بفعله هذا بأن يدور النظام السياسي حول الرئاسة تاركة ً إياه بدون منازع تماماً لمتابعة حلمه الإمبراطوري لإعادة إحياء مكانة الإمبراطورية العثمانية في الوقت الذي تستعدّ البلاد فيه للتصويت في الإستفتاء على الدستور الذي سيجري يوم 6 نيسان / أبريل القادم.
ثالثا ً، خلق نظام عثماني من الرموز : ولعرض رؤيته العظيمة والمتسمة بالمبالغة، فقد كان لزاما ً على أردوغان أن يغرس صورا ً عثمانية في الوجدان الشعبي، شاملةً بناء “القصر الأبيض” المكوّن من 1.100 غرفة كمقرّ له بتكلفة باهظة على دافعي الضرائب. وأحدث مشروع ٍ له كان مسجد كاميلكا الذي يعتبر أضخم جامع في إسطنبول متربعا ً على التلّة التي تحمل إسمه والتي تشرف على المدينة بأكملها.
لقد شرع أردوغان حديثا ً ببناء مسجد ٍ آخر في ميدان تقسيم، وهو الموقع الذي شهد أعنف الإحتجاجات ضدّ أردوغان طيلة فترة حكمه، مع كامل نمط وطراز العصر العثماني. لقد أمر أردوغان حتّى أن يُعزف النشيد الوطني على طبول وآلات نفخ نحاسيّة معدّلة لجعل صوت الموسيقى يبدو وكأنه عُزف من قبل فرق موسيقيّة في عهد الإمبرطوريّة العثمانيّة. هدفه هو تلقين الشعب بطريقة مموّهة لرؤيته للحقبة العثمانية المجيدة.
رابعا ً، الجزم في السياسة الخارجيّة: أصبحت تركيا تحت حكم أردوغان حازمة وقوّية على نحو متزايد في سياساتها الخارجية في المنطقة. فأوردغان مصمّم على أن يعقد في قبرص صفقة إلى حدّ بعيد حسب شروطه. وفي العراق وضع قوات تركية رغما ً عن اعتراضات الحكومة العراقيّة وذلك لكي يحافظ على حربه التي لا ترحم ضدّ الأكراد. وفي سوريا سمح لآلاف المقاتلين الأجانب، بما في ذلك الكثيرين الذين انضموا لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، بعبور الحدود لتعزيز القتال ضدّ نظام الأسد، في حين أنه يقاتل الأكراد السوريين لمنعهم من إقامة حكم ٍ ذاتي خاصّ بهم خوفا ً من أن يطالب الأكراد الأتراك بحكم ٍ ذاتي مماثل.
لقد عزّز أردوغان سياسة “صفر المشاكل مع الجيران”. وبالرّغم أنّ تركيا تعاني في الوقت الحاضر من مشاكل مع كلّ الدول المجاورة لها تقريبا ً، وأنّ إمكانية قبولها عضوا ً في الإتحاد الأوروبي تقلّصت كليّا ً، فإنه ما زال يدّعي بأن تركيا تتمتّع بعلاقات حسنة دوليّا ً. وما زال أردوغان يستغلّ عضوية تركيا في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) كإشارة للعظمة. وواقع أنّ لتركيا ثاني أكبر عدد من القوات البريّة في حلف “الناتو” يقوّي انخداعه بأن أنقرة تتمتّع بقوة عسكريّة لا تُضاهى في المنطقة وتُحظى من المجتمع الدولي بالإحترام والإهتمام الذين كانا ممنوحين للإمبراطورية العثمانية.
خامسا ً، تعزيز الإسلام كأداة قويّة: يستغلّ أردوغان أيضاً الإسلام السنّي للرفع من شأن البلد كجمهوريّة بمثل إسلامية عليا مدعومة بجهاز دولة مخلص. إنه يعرض نفسه كزعيم للعالم الإسلامي السنّي الذي قد يعيد حقبة النفوذ العثماني في حين يرسّخ حكمه الإستبدادي بشكل سلطان جديد. وللتأكيد، فإن أردوغان يعزّز بحيوية ونشاط – بدعم ٍ من حزبه – القوميّة الإسلامية بصورة منهجيّة وبدقّة. يقول مصطفى أكيول، محلّل تركي للسياسات والثقافة ومؤلف الكتاب الجديد:”يسوع الإسلامي”:”الدعاية السياسيّة في وجهك كلّ يوم، في كلّ لحظة. إن شغّلت التلفاز أم تصفّحت الجرائد ….”.
وفي عام 2015 قال رئيس الوزراء السابق دافوتوغلو بأن تركيا “ستعيد تأسيس الدولة العثمانيّة”. وبالرّغم من إزاحة دافوتوغلو من منصبه، فإنه – مثل معظم المسؤولين الأتراك – يصف الحكومة كالوريث الشرعي للتركة العثمانية. ولهذا الغرض يستغلّ أردوغان الإسلام كالقضية الموحّدة التي قد تدفع تركيا إلى العظمة التي كانت تتمتّع بها الإمبراطوريّة العثمانية. وبالفعل، فالزعماء الأتراك الدينيّون كانوا دائما ً يرون أنفسهم بأنهم حاملو لواء الحضارة الإسلامية. وبالرّغم من أنّ هذا قد فشل مع انهيار الإمبراطوريّة العثمانية، فإنّ هذا الأمر بالنسبة لهم يجب الآن تصحيحه. إنهم يرون بأن “الأتراك ينبغي أن يقودوا مرة ثانية الأمة بصفة العثمانيين الجدد”.
للأسف، أردوغان الذي ما زال في أعين نصف الشعب التركي تقريبا ً بطلا ً، يقود البلد على مسار ٍ خادع. إنّ لدى تركيا وشعبها الموارد والإبداع والمؤسسات لجعل تركيا قوّة كبيرة. وأردوغان الذي أظهر قدرة ً خارقة لاستغلال موارد بلاده الطبيعية والبشريّة كان بمقدوره أن يجعل من تركيا تلك القوّة على الساحة الدوليّة. وبالفعل، كان بمقدوره أن يكون أتاتورك الحقبة الجديدة لو استمرّ بكلّ بساطة بإصلاحاته التاريخية وفي نفس الوقت يحمي حقوق كلّ فرد ويخلق نموذج حقيقي للديمقراطية الإسلاميّة.
يعود سبب انهيار الإمبراطوريّة العثمانية إلى حدّ كبير، بين أمور ٍ أخرى، إلى أنحطاطها السياسي الداخلي وممارسة السلطة بشكل ٍ تعسفي والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قوّضت بشكل ٍ جذري الأساس الذي بُنيت عليه الإمبراطوريّة.
ومهما كان الشكل الذي سيبعث من خلاله أردوغان الإمبراطوريّة العثمانية من جديد، فإنه سيفشل، لأنه لا تستطيع أي بلد أن تبقى على قيد الجياة، ناهيك عن أن تصبح عظيمة، طالما الحكومة تمشي على ظهر الشعب وتكبت حريته في الفعل والكلام والحلم.
أجل، هناك ما تعتمد عليه عظمة أية أمّة وبقاؤها – غير أنّ الإمبراطوريّة العثمانية لم تقدم أبدا ً نموذجا ً يستحقّ هذا التشبيه.