إسرائيل منشغلة في التدمير المنهجي لنفسها
يقال أينما يوجد يهوديان، هناك ثلاثة آراء. وفي دولة إسرائيل هناك نصّ آخر يقول: حيثما يوجد خمسة يهود، هناك تسعة أحزاب سياسية. هناك بالتأكيد مزايا لوجود وجهات نظر مختلفة حول كل موضوع ، خاصة عندما تكون القضايا قيد المناقشة ذات عواقب وخيمة وتتعلق بالأمن القومي ورفاهية الدولة في المستقبل. ومع ذلك ، عندما لا تسترشد هذه الآراء المختلفة بوحدة الهدف، بل بالأحرى بالمصلحة الشخصية التي توضع فوق مصلحة الأمة ، يمكن أن تكون النتيجة رهيبة للغاية على مستقبل الدولة. وعلاوة على ذلك ، عندما يتسرب الفساد من القمة إلى الطبقات الدنيا من الأحزاب السياسية ، فإنه يشبه مرضًا معديًا يجبر الجميع على حراسة أرضه بنوع ٍ من الحماس وترك شؤون الدولة ليوم آخر، هذا إذا جاء ذلك اليوم.
هذه هي محنة الأحزاب السياسية في إسرائيل التي تعرض مستقبل الدولة للخطر – ليس لأنها لا تستطيع تشكيل حكومة يجب أن تعالج القضايا الملحة التي تواجه الأمة، ولكن إلى حد كبير لأن قادة الأحزاب ووكلائهم يصرون على تعيينهم في مناصب أو وظائف لإشباع تعطشهم للسلطة.
زعيم أولئك الفاسدين حتى العظم هو رئيس الوزراء نتنياهو الذي يمارس الرشوة والغش والتضليل والأكاذيب والتزوير والخداع والذي قد يزحف إلى قاع أي حفرة صرف صحي فقط للبقاء في السلطة. وحقيقة أنه تم توجيه الإتهام إليه في ثلاث قضايا تتعلّق بالرشوة والإحتيال وخيانة الأمانة وأنّ مواجهته المحكمة قريبًا بعد عدة سنوات من التحقيق المضني لا يتناسب إلاّ مع رجل يفتقر إلى وخز الضمير ويرغب في جر البلاد إلى نفس الحفرة.
ومع ذلك ، لا يمكن للمرء أن يلوم نتنياهو وحده. إن حزب الليكود هو الذي مكّنه على مر السنين من القضاء على الديمقراطية الإسرائيلية لبنة تلو الأخرى وتقويض السلطة القضائية والتمييز ضد العرب الإسرائيليين وكذلك اليهود الملونين وإقصاء الجالية اليهودية الأمريكية ونسف أي احتمال لحلّ سلمي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومما لا شك فيه أن حزب الليكود قد فقد ضميره منذ فترة طويلة حيث يواصل دعم زعيمه الذي لا تتفوق على مهاراته في التلاعب سوى خداعه وعطشه الذي لا ينضب للبقاء كرئيس للوزراء حتى يوم وفاته – وإلى الجحيم بمستقبل إسرائيل !.
وماذا عن الأحزاب السياسية الأخرى؟ لماذا بعد ثلاث انتخابات لا يوجد حتى الآن إجماع على تشكيل الحكومة ؟ لو كانت شؤون الدولة تحظى بالأولوية وظهر إجماع على تطوير استراتيجية متماسكة حول كيفية التعامل مع القضايا الصعبة التي يجب على الدولة أن تتعامل معها ووضع الطموحات الشخصيّة جانباً ، لكان من الممكن تشكيل حكومة بعد الإنتخابات الأولى.
ولكن هذا لم يكن الحال. لم يقم أي حزب بوضع سياسات محددة لمعالجة الفقر المتفشي الذي يؤثر على ما يقرب من مليوني إسرائيلي (يمثلون 23 في المائة من السكان الإسرائيليين) ، نصفهم من الأطفال ، في بلد لديه ، من حيث النسبية ، واحداً من أقوى الإقتصادات فى العالم.
لا يوجد حزب واحد لديه خطة شاملة حول كيفية إصلاح نظام الرعاية الصحية المتدهور في بلد يحتوي على بعض الأبحاث العلمية والتكنولوجية الأكثر تقدمًا في الطب في جميع أنحاء العالم.
لا يوجد حزب واحد يولي أي اهتمام لاستمرار التمييز ضد بعض الطوائف اليهودية السفارديمية وخاصة ضد العرب الإسرائيليين الذين يشكلون 20 في المائة من السكان. إنهم متهمون بعدم الولاء ويتم إبعاد ممثليهم عن المشاركة في الشؤون السياسية للدولة. ولكن بعد ذلك يتوقع منهم دعم معاملة الحكومة للفلسطينيين في المناطق على أنهم العدو الدائم لتبرير سياساتهم الوحشية.
لا يوجد حزب واحد يعالج الهجرة المتزايدة للإسرائيليين المحبطين الذين سئموا من الشلل والفساد الحكوميين وفقدوا الثقة في مستقبل البلاد. عدد الذين يغادرون إسرائيل أكبر من عدد المهاجرين إلى الدولة التي كان من المفترض أن تكون الأرض الموعودة لليهود.
لا يوجد حزب واحد يحاول معالجة الإستقطاب الإجتماعي والسياسي المتصاعد بشكل مدمر بين العلمانيين والأرثوذكس، بين العرب واليهود، بين من يملكون ومن لا يملكون في بلد يواجه أعداء ألداء في منطقة يعمها عدم الإستقرار والعنف والحروب والمنافسات القاتلة على الهيمنة الإقليمية.
وفوق كل شيء، لم يخرج أي حزب بمخطط واقعي لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي دام سبعة عقود والذي استهلك ويستمرّ في استهلاك الإسرائيليين من الداخل وليس له حتى الآن نهاية في الأفق. لا يستطيع زعيم أي من الأحزاب أن يقول أين ستكون إسرائيل بعد 10 أو 15 سنة إذا لم يكن هناك حلّ للصراع مع الفلسطينيين.
يتحدث الحزبان الرئيسيان ، الليكود وكاهول لافان ، بدرجات متفاوتة من التشديد حول ضمّ المستوطنات على طول غور الأردن ، حول الحفاظ على الأمن الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى في جميع أنحاء الضفة الغربية وحول الوسائل والسبل لخنق المجتمعات الفلسطينية في حين يتم تطبيق القوانين المختلفة لحكم الفلسطينيين في الضفة الغربية لصالح اليهود الذين يقيمون في المستوطنات. ومع ذلك ، هناك شيء واحد مؤكد: إسرائيل أصبحت دولة فصل عنصري و “صفقة القرن” التي طرحها ترامب تعزز فقط هذا التطور القبيح المدمر للذات.
الشيء المحزن هو أنه بغض النظر عن مدى التمني في التخلّص من الفلسطينيين ومدى قسوة أي حكومة في تعاملها معهم ، لن يختفي الفلسطينيون. إنهم موجودون للبقاء ولن يتنازلوا أبداً عن أي شيء أو عن حقهم في إقامة الدولة ، بغض النظر عن الدعم الأمريكي الهائل وغير المشروط الذي تتمتع به إسرائيل في الوقت الحالي.
يجب على الأحزاب السياسية الإسرائيلية أن تستيقظ عاجلاً لا آجلاً على الواقع المرير. فبغض النظر عن التفوق العسكري الساحق لإسرائيل ، بما في ذلك ترساناتها النووية ، فإن القوة الحقيقية لإسرائيل تكمن في تماسك ووحدة الهدف بين أفراد شعبها. يجب على أي حكومة إسرائيلية مستقبلية أن تركز أولاً وقبل كل شيء على تعزيز النسيج الإجتماعي الإسرائيلي من خلال معالجة الخلل الإجتماعي والإقتصادي مع زيادة تعزيز السلطة القضائية وحراسة المبادئ الديمقراطية للدولة التي تشمل العرب الإسرائيليين.
وفي نفس الوقت ، يجب على الحكومة المقبلة أن تضع خطة سلام لإنهاء النزاع مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين. وباستخدام تفوّقها العسكري والإقتصادي يمكن لإسرائيل الحفاظ على أي اتفاق سلام طالما أنه عادل ويسمح للفلسطينيين بالعيش بسلام وكرامة.
لا يستطيع أحد أن يفرض أي حظر على حرية إسرائيل لمناقشة أي عدد من الآراء حول أي قضية. هذه واحدة من السمات المميزة للديمقراطية الحقيقية. ولكن في النهاية ضلّت إسرائيل لفترة طويلة تحت قيادة رئيس الوزراء المضللة. والآن تسير البلاد نحو التدمير الذاتي ما لم تكن هناك صحوة جديدة تجتاح الأمة ويتذكر الناس الأسباب الكامنة وراء قيام الدولة في المقام الأول.