وماذا عن التناسب في المعركة الدائرة في لبن
بقلم: أ.د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليــــــــــــــــــــــــــة
لقد قيل وكتب الكثير في الأيام الأخيرة حول موضوع "التناسب" في النزاع المسلّّح القائم حاليا في سياق ردّ إسرائيل على الهجوم الغير مبرّر لحزب الله عبر الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. ولا نستطيع الإدلاء برأي قاطع لا لصالح إسرائيل ولا ضدها ما لم نأخذ أولا بعين الاعتبار الثلاثة مبادئ الأساسية للحرب النزيهة وثم ندرس إمكانية تطبيق مبدأ " التناسب " في مثل هذه الحالة . والمبادئ الثلاثة الأساسية هي: 1) التقيّد بالأعراف والقواعد والقوانين الدولية التي تحكم السلوك في النزاعات المسلحة. 2) التمييز في شنّ الحرب وتنفيذها للحيلولة دون وقوع أضرار إضافية و 3) خلق أوضاع أفضل مما كانت عليه قبل اندلاع الأعمال العدائية ومنع تجدد العنف مرة أخرى.
كل إنسان عاقل لا ينتمي لمجموعة متطرفة يوافقني الرأي أنه وبمقتضى المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها. والسؤال هو عمّا إذا كانت إسرائيل – كما يتهمها الكثيرون ومن بينهم الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي عنان – تستخدم قوة مفرطة أو غير متناسبة إذا قورنت باستفزازات حزب الله التي توقع بسكان إسرائيل المدنيين – وما زالت – أضرارا وخسائر غير مبرّرة. وهنا يبدو أن منتقدي إسرائيل قد فاتهم نقطة جوهرية وهي: بالرغم من أن الأعراف والقواعد والقوانين الدولية للسلوك في النزاعات المسلّحة تنطبق من حيث المبدأ على الدول ذات السيادة، غير أنها لا تلزم لاعب سياسي إقليمي لا يشكّل دولة، أي في هذه الحالة منظمة إرهابية مثل حزب الله. أضف إلى ذلك, فان هذه المنظمة التي تشارك إيران نفس المعتقدات الدينية المتصلبة والمتعنتة تراها تتحرك غالبا بإيعاز من الحكومة الإيرانية التي دعا رئيسها مرارا وتكرارا لإزالة إسرائيل عن الوجود. حزب الله إذا ورقة مهمة وطرف أساسي في مخططات إيران وشريك فعّال في تنفيذ هذه المخططات. إذا عدم التماثل هذا في الحالتين أو الصورتين يتحدى فرضية التناسب التي ينادي بها نقّاد إسرائيل، لان إسرائيل مضطرة ليس فقط للردّ على الاستفزاز الحالي من طرف حزب الله، ولكن للتهديد الأكبر بكثير من ذلك والذي يلوّحا به حزب الله وإيران بالنسبة لوجود إسرائيل.
لا يعفي هذا الجدل بالطبع إسرائيل أو أي طرف آخر متورّط في النزاع من مسئولية القيام بحملة عسكرية بدون تمييز متسببا بذلك بموت مدنيين أبرياء. وهنا أيضا يشير متهمو إسرائيل إلى صور الرعب الحقيقية والى التقارير التي تتحدّث عن الرجال والنساء والأطفال المحاصرين بدون أي ذنب اقترفوه في نزاع قاتل. ولكنهم لا يهتمون بالأسباب الفعلية لمحنة هؤلاء المدنيين. إسرائيل تنظر إلى هذا النزاع كأمر حيوي يتعلّق بوجودها وهي مصمّمة على تدمير حزب الله كمليشيا مسلّحة. ولكن إستراتيجية حزب الله هي الاختباء وراء تنانير النساء واستعمال الأطفال كدروع بشرية، هذا وتتواجد معظم مخازن أسلحته في مناطق مأهولة بالسكان المدنيين في جنوب لبنان وجنوب بيروت حيث يتحصّن هناك أيضا مقاتلوه. وفي حين تسقط إسرائيل من الجوّ مئات الآلاف من المنشورات وتذيع إعلانات عن طريق المحطات الإذاعية المسموعة ( الراديو ) والتسجيلات الهاتفية تطلب فيها من المدنيين كإنذار مغادرة منازلهم قبل الغارات الجوية، يقوم قادة حزب الله بتشجيع المواطنين على البقاء في بيوتهم بقصد زيادة الإصابات المدنية وبذلك خلق أجواء مناسبة لإدانة إسرائيل. إن الحرب، تحت أحسن الظروف، أمر بشع للغاية ويموت فيها أناس أبرياء رغم كل النوايا الحسنة لتجنب ذلك. ولكن في الواقع ما كان ليموت لبناني واحد لو لم يقم قادة حزب الله الذين أعمى الغرور بصيرتهم بالتصرّف بطيش وتهوّر ووهم قاتل أدّى إلى التضحية بأتباعهم ومقاتليهم الشباب وبإنزال الويلات على أمتهم.
والسؤال المطروح الآن هو كيف ستنتهي هذه الحرب المشئومة وما هي الإجراءات أو الترتيبات اللازمة ليس فقط لمنع حدوث مسبّباتها، ولكن لخلق شروط وأوضاع تستفيد منها لبنان وإسرائيل والمنطقة بأكملها. والجواب هو أولا من الضروري حلّ حزب الله كمليشيا مسلّحة ونزع سلاحه بالكامل عملا بقرار مجلس الأمن الدولي رقم (1559). وفي نفس الوقت الذي لن يسمح فيه المجتمع الدولي أبدا لحزب الله أن يعيد بناء جناحه العسكري، غير أنه بإمكانه أن يستمرّ في الوجود كحزب سياسي. ستقلّص هذه النتيجة في نهاية المطاف وبصورة جذرية من نفوذ إيران في لبنان وستحدّ من قدرتها على تقويض مباحثات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية مستقبلا. ستعزّز هذه النتيجة أيضا الديمقراطية في لبنان واستعادة سيادته الإقليمية على أراضيه وتدخّل هدوء دائم على حدوده مع إسرائيل، إن لم يكن السلام. إضافة إلى ذلك، ستكون هذه النتيجة محل ترحاب كبير ليس فقط في لبنان نفسه وإنما في الدول العربية الأخرى ذات الأغلبية السنية مثل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن حيث تشعر هذه الدول بأنها مهددة من ارتفاع شأن الشيعة في العراق ومن نفوذ إيران المتنامي في المنطقة بصورة جسيمة وتهديدها النووي لها. إن خلق هلال إقليمي يضم أكثر من 100 مليون
شيعي يمتدّ من الخليج الفارسي إلى لبنان يثير قلقا شديدا في هذه الدول وفي دول عربية سنيّة أخرى حيث ينظر الكثيرون من هذه الدول إلى المعركة في لبنان كجزء من معركتهم ضد الشيعة المهيمنة في العراق، الأمر الذي يعلّل سكوتهم النسبي فيما يتعلّق بالإحداث الحالية العاصفة.
وفي حالة اجتياز المرحلة الحرجة وتحقيق نجاحا في النهاية، لن يجلب هذا التطور بحدّ ذاته الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط. ففي حين أن تدمير حزب الله ككيان عسكري بإمكانه أن يقلّص من نفوذ إيران في لبنان، غير أن الداعم الرئيسي الآخر لحزب الله، وهي سوريا، لن تتأثر بنفس الكيفية كإيران. لقد كان اهتمام دمشق، وما زال حاضرا ومستقبلا، استعادة مرتفعات الجولان. ففي الوقت الذي تستطيع فيه سوريا أن تكيّف نفسها لخسارة الكثير من نفوذها في لبنان، لن تخلد أية حكومة سورية إلى الراحة أو الهدوء، حاضرا أم مستقبلا، أكان يحكمها زعيم منتخب ديمقراطيا أم ديكتاتور متسلّط ، إلا عند عودة الجولان إلى الأجندة الدولية ويصبح أمل استردادها من إسرائيل أمرا واقعيا. ولذا، ومهما يكن مصير حزب الله، ستبقى سوريا قادرة تماما على لعب دور المفسد في المنطقة. وعليه، فمقابل كسر محورها مع إيران وقطع علاقاتها مع العديد من المجموعات الفلسطينية المسلّحة، وأوّلها حماس، والانضمام ثانية إلى الجانب العربي السنّي، تريد دمشق من الولايات المتحدة الأمريكية أن تعير اهتماما جادا لمصالح سوريا الوطنية، الاقتصادية والأمنية. وهذا يعلّل ضرورة أن تقوم إدارة بوش بالتخلي عن تحريماتها فيما يتعلّق بالتعامل مع سوريا والشروع بحوار بنّاء من شأنه أن يحدث تغييرا جذريا في الخارطة السياسية للمنطقة بأكملها. هذا أمر جوهري بصورة خاصة بالنظر إلى الوضع الفوضوي السائد حاليا في العراق وفشل المحاولات الأمريكية في إدخال الديمقراطية إلى الدول العربية والإسلامية.
إن عدم جدوى، لا بل جنون هذه الحرب، يحزنني من الأعماق. ستكون هذه الحرب عبثا تماما إذا لم يحاول اللاعبون السياسيون الرئيسيون أخذ شيئا من رمادها يكون ذات فائدة للمنطقة ولسكانها. إن ردّا متناسبا لإسرائيل أو وقف إطلاق النار قبل أوانه بحيث يسمحا لحزب الله بالبقاء على قيد الحياة كقوة عسكرية بمخزون لا بأس به من الأسلحة سيشجّع إعادة سيناريو الأحداث الأخيرة مرّة أخرى، ولكن هذه المّرة بكوارث ومعاناة إنسانية أكبر بكثير مما حدث حتى الآن.