جــدال عقيــــــــــــــــــــــــم
بقلم: أ.د. ألون بن مئيرأستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدوليةبجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسطبمعهد السياسة الدوليــــــــة يبدو من الجدال الذي أجري حديثا في مجلس الشيوخ الأمريكي حول إطار زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق بأن الجانبين، الديمقراطي والجمهوري، قد ابتعدا كثيرا عن لبّ المشكلة. فلا تمسّك الجمهوريين "بالإبقاء على المسار الحالي" ولا اقتراح عضو مجلس الشيوخ جون كيري بوضع جدول زمني محدد يتماشى مع الوضع الحالي لعراق ما بعد الحرب. كما وأخفق في هذا السياق ما اقترحه أعضاء آخرون من الحزب الديمقراطي بتطبيق إطار زمني أكثر مرونة. وبصرف النظر عن الكيفية والزمان لانسحاب القوات الأمريكية، فان العراق يقترب تدريجيا من حافة حرب أهلية شاملة إلا إذا تم تقسيم العراق بصورة أولية ثم ضمّ أقاليمه إلى بعضها البعض في نوع من الاتحاد أو التحالف. وبالرغم من هزيمة الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، فان العيوب في سياسة كلا الجانبين باتت واضحة لان قضية انسحاب القوات العسكرية ستبقى موضوع جدل شعبي وإعلامي حادّ ما دام أفراد هذه القوات يجدون حتفهم كل يوم تقريبا. ولكن وضع برنامج زمني بصورة عشوائية للانسحاب لن يؤدي فقط إلى عمليات قتل جماعية عرقية فحسب، بل سيهوي بالعراق أيضا في مستنقع الفوضى ويسبب أضرارا لا يمكن إصلاحها لصورة أمريكا في العالم التي أصبحت ملطّخة حاليا إلى حدّ ما. أضف إلى ذلك، فان الإدارة الأمريكية ببرنامجها الزمني التعسفي هذا قد تعرّض الاستقرار السياسي لحلفاء أمريكا في المنطقة للخطر وتقطع بصورة دراماتية إمدادات النفط وتعزّز من نفوذ إيران وتورّط مجتمعات سنية – شيعية مختلطة في دول مجاورة في نزاعات قاتلة هي في غنى عنها. هذا وسينتظر الثوار والمتمردون بالطبع موعد الانسحاب المبرمج هذا لأنهم يرون فيه بداية "لعصرهم الذهبي" في العراق. أما اقتراح وضع إطار زمني أكثر مرونة كما أشير إليه أعلاه فهذا الآخر ليس أفضل بكثير مما سبقه. فما دامت وتيرة انسحاب القوات العسكرية متأثرة أو مرتبطة بكيفية استعداد وتأهيل قوات الأمن العراقية لمحاربة الثوار والمتمردين وحفظ النظام بشكل عام، فان قدرة أي انسحاب مبرمج على الحياة، أكان يوصف بالمرونة أم بشكل آخر، هي أفضل ما يكون شيء نظري أو تأملي وقد تبعث أيضا رسالة سلبية إلى الثوار والمتمردين مفادها أن قدرة الأمريكيين على البقاء قد – 2 - قاربت على النفاذ وبذلك تسمح لهم بتطوير إستراتيجية لخداع الأمريكيين بخلق فترة من التهدئة المؤقتة الكاذبة. إضافة إلى ذلك، لا تستطيع سياسة مرنة أن تعمل في جوّ من الشكّ وانعدام الثقة أو تعتمد على مشاركة مأمولة في السلطة في الوقت الذي تتواجد فيه الشيعة في موقف قوي جدا لا يقبل المشاركة أو حتى المساومة على السلطة. إن غياب أية ثقة بين الطوائف الثلاث الرئيسية المتنافسة فيما بينها على السلطة والثروة في العراق يستبعد في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور أي أمل حقيقي في تعايش سلمي بينهم. إن سياسة إدارة بوش في الإبقاء على المسار الحالي تبقى طائشة بلا تروّ كالطريقة التي شنّت فيها الحرب على العراق منذ البداية. والقول بأن أمريكا لا تستطيع بكل بساطة أن تغزو وتهرب لا يغني على أية حال عن وضع خطة مدروسة ومنسّقة بكل عناية. وتفترض مقدما سياسة الإبقاء على المسار الحالي بأن تشكيل حكومة وحدة وطنية سيحل بصورة تلقائية المشاكل السياسية العويصة الأخرى، وبأن حكومة العراق ستوافق على تعديل دستوري يمنح السنيين فوائد أكبر، وبأن قوات الأمن الداخلية ستكون مدربة تدريبا أفضل وتواجه بفعالية أكبر التمرد المتصاعد، وبأن هذه القوات ستكون "نقيـة " من الصداميين والبعثيين والمقاتلين الشيعة، وبأن الشيعة والأكراد سيوافقون على حلّ ميليشياتهم، وبأنه سيكون هناك تقدم في إعادة تعمير العراق بخلق " التجديد" الذي يصبو إليه معظم العراقيين. ولكن للأسف، جميع هذه الشروط المسبّقة واللازمة لتحقيق النجاح لن تتحقق على الأرجح للأسباب التالية: (أ): إنها تتناقض مع المصالح البعيدة الأمد لأغلبية الشيعة الذين يسيطرون أيضا على حوالي 80% من نفط العراق. (ب): يتمتع الأكراد حاليا بحكم ذاتي كامل ويسيطرون على حوالي 20% من نفط العراق. (ج): لا الشيعة ولا الأكراد على استعداد لحلّ ميليشياتهم (د): أصبح التطهير العرقي حقيقة لا يمكن تجاهلها في جميع أنحاء البلاد وذلك بدمج المجتمعات ذات العرق الواحد بدلا من تسوية الخلافات بين المجتمعات المختلطة. (ه): لقد قررت إدارة بوش إنهاء تقديم المساعدة لإعادة بناء اقتصاد العراق. وبدونها لا يوجد طريقة أخرى لدحر التمرد والعصيان و (ز): لقد خفضت واشنطن من تمويلها للمؤسسات الديمقراطية في العراق. وباختصار، لا يوجد شيء على أرض الواقع يوحي بأن إدارة بوش جادة في فكرتها " الحفاظ على المسار الحالي ". ففي الوقت الذي يدّعي فيه السيد بوش بأنه على طريق النصر ( وهو أمر يناسب جدا عاما من الانتخابات)، فان كل ما يبحث عنه حقيقة هو تجنب هزيمة نكراء وترك هذه الورطة للإدارة القادمة للخروج منها. – 3 - إن العراق محطّم الآن بالفعل وليس بمقدور هذه الإدارة أن تفعل شيئا لإعادة لحمته مرة أخرى قبيل إجراء تعديل دستوري من شأنه أن يوفّر حكما ذاتيا مستقلا للفصائل الرئيسية الثلاثة. ولتحقيق ذلك، يجب منح السنّة سيطرة دستورية فعلية على مصيرهم وعلى أرضهم وحصة عادلة من نفط العراق، هذا علاوة على ضرورة أن يكون لكل طائفة من الطوائف الرئيسية الثلاث الحرية التامة سياسيا ودينيا وثقافيا واقتصاديا. وبعد إقامة الحكومات الإقليمية على مبدأ الحكم الذاتي المستقل، على الإطراف الرئيسية الثلاثة ( الشيعة والسنّة والأكراد ) أن تكون راغبة في التحرك باتجاه اتحاد فيدرالي بصلاحيات واضحة في مجالات السياسة والأمن الوطني وتوزيع عادل للنفط وعائداته. على هذا الأساس قد يجد كل طرف هذا الخيار أفضل بكثير من حرب أهلية حتمية ستدمّر البلد تدميرا تاما ولن يخرج منها أي منتصر. هذه هي الطريقة الوحيدة بنظري للحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه والحيلولة دون وقوعه فريسة سهلة للدول المجاورة له وللنفوذ أو التأثيرات الخارجية المعادية له. إن المصالح الأمريكية والعراقية أقوى بكثير من أن يجازف بها سياسيا بطريقة ساذجة. وللتوصل إلى تحوّل أكثر هدوء وسلاما في العراق، تحتاج إدارة بوش أن تضمن الآن موافقة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للعب أدوارا مهمة في المنطقة وفي نفس الوقت تعمل على التوصل إلى تعاون مثمر مع جيران العراق. في هذا الإطار فقط يمكن للسيد بوش أن يحدد الوتيرة والمستوى لانسحاب منظّم ومشرّف للقوات العسكرية الأمريكية من العراق.