رؤى مستقبليــة ضائعــة
لم يؤدي انسحاب إسرائيل من غزة كخطوة سياسية حاسمة وكذلك اتفاقية وقف إطلاق النار – المبرمة بين إسرائيل والفلسطينيين والتي خفضت مرحليا بصورة ملحوظة مستوى العنف في الأشهر الثمانية الماضية - إلى الزخم الذي كان مرجو منهما لدفع عملية السلام إلى الإمام. لقد بقي الطرفان ملتصقين في مواقعهما غير قادرين على التغلب على انعكاسات الانتفاضة الثانية التي تركت الإسرائيليين من الناحية النفسية على الأقل مثخني الجراح ودفعت بالفلسطينيين إلى وضع مزر في المناطق. هذا يعلل لدرجة كبيرة سبب عدم تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون والرئيس الفلسطيني محمود عباس من عقد اجتماع بينهما منذ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في منتصف شهر أغسطس (آب) لأنهما عاجزان عن الاتفاق على جدول أعمال يعالج أولوياتهما.
إذا تحدثت مع موظفين رسميين وأكاديميين من الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، فانك ستلاحظ ، كما أفعل أنا شخصيا، الاحتدام السياسي والاجتماعي في كلا المجتمعين، ويصبح من المستحيل عليك أن تتغاضى عن الحقيقة بأن إساءة فهم الإسرائيليين والفلسطينيين لمواقف بعضهم البعض قد جعلهم يستنبطون استنتاجات غير متوافقة حول الوضع الراهن. هناك مثلا بالنسبة للإسرائيليين إحساس متنامي للقبول بواقع فلسطيني لا يستطيعون تغييره، وهو إحساس يدعم بلا شك أفكار اتخاذ المزيد من الخطوات لفك الارتباط الأحادي الجانب بينما تجد الحيرة والارتباك بين الفلسطينيين المعتدلين لعدم قدرة إسرائيل على انتهاز الفرصة التاريخية لإنهاء صراعهم الدموي الطويل الأمد سلميا ونهائيا. هذه المفاهيم الغير متوافقة تؤثر سلبيا وبصورة جليّة على العلاقة الإسرائيلية – الفلسطينية وعلى سياسات البلدين وتعرقل أي تقدم في المسارات الأساسية . وفيما يلي بعض القضايا التي شكلت انقساما جديا بين الطرفين:
اشتراك حماس في انتخابات المجلس التشريعي: لقد قوبلت مطالبات إسرائيل للسلطة الفلسطينية بنزع سلاح حماس وإقصائها من الاشتراك في انتخابات المجلس التشريعي المقررة شهر يناير (كانون ثان) القادم مقاومة عنيفة من طرف السلطة الفلسطينية. فحماس بالنسبة لإسرائيل هي المنظمة الإرهابية التي أدت عملياتها إلى قتل وجرح المئات من الإسرائيليين نتيجة التفجيرات الانتحارية وعمليات الهجوم بقذائف الهاون، ولذا لا يجوز لها – على حد زعم إسرائيل – أن تصبح جزءا من العملية السياسية. أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فان حماس تشكل جزءا مهما من الشعب الفلسطيني. فبالرغم من قيام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس برفض إستراتيجية العنف التي تنتهجها حماس غير أنه ليس لديه نية لتحديها في هذه الفترة الحرجة بالذات لأنه غير قادر على ذلك من ناحية ولأنه يفضل إقحام حماس في العملية السياسية من الناحية الأخرى وبذلك يتجنب المزيد من سفك الدماء. أضف إلى ذلك أن الفلسطينيون يقولون بأنهم بحاجة إلى مزيد من الوقت لحل مشاكلهم الداخلية مؤكدين أن عقودا من الاحتلال والصراع الدموي، خصوصا منذ اندلاع الانتفاضة الثانية قبل خمس سنوات، قد تركت الكثير من المناطق الفلسطينية مدمرة من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وحدثني أحد المسئولين الفلسطينيين قائلا:" إن إقحام حماس في العملية السياسية قد يسبب بعض المخاطر لان حماس في وضعها الحالي تشكل بديلا لحركة فتح، وأن لدى الرئيس محمود عباس إحساس قوي بأن حماس ستعدّل من موقفها وسلوكها من خلال العملية السياسية فقط، وهو أمر جدير بالمخاطرة من أجله". وعلاوة على ذلك، فان إفساح المجال للتعددية السياسية والحزبية بإعطاء الفرصة لأي شخص أو جهة أن يرشح نفسه للانتخابات سيجعل هذه الانتخابات أكثر شرعية وديمقراطية. وكما قال الرئيس محمود عباس أخيرا:" ستصبح جميع الأحزاب والفصائل جزءا من النسيج السياسي الفلسطيني وبذلك تخلق مرحلة جديدة في حياة الفلسطينيين". ولكن مهما كان صدى هذه الحجج لدى الإسرائيليين، إلا أن الحقيقة هي أن إسرائيل لا تستطيع أن تملي على الفلسطينيين من يشترك ومن لا يشترك في انتخابات فلسطينية ديمقراطيــة.
حواجز الطرق والأمن القومي الإسرائيلي: من نقاط النزاع المهمة الأخرى حواجز الطرق الإسرائيلية والقيود المفروضة تبعا لذلك على حركة الفلسطينيين. إن ما تسببه هذه الحواجز من معاناة جسيمة وشدة وإذلال للشعب الفلسطيني تحث على خلق المزيد من المقاومة والكراهية لإسرائيل. فبالرغم من أن الحكومة الإسرائيلية تعترف بأن العديد من الحواجز وإنشاء طرق التفافية للتقليل من الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين المسافرين في أرجاء الضفة الغربية تسبب فعلا معاناة ولا تساهم في القيام بعلاقة طيبة بين شعبين متجاورين، إلا أن الحكومة تقول بأنها ضرورية لأمن الشعب الإسرائيلي. وفي محادثة أجريتها مع الناطق باسم مكتب شارون، السيد رعنان غيسين، قال لي هذا الأخير: " في كل مرة نقوم بها بتسهيل حركة الفلسطينيين بإزالة حواجز الطرق ونقاط التفتيش كما فعلنا مرارا عديدة في الماضي وخصوصا في الأشهر الأخيرة، تجرى محاولة القيام بعمل إرهابي، وغالبا ما تنجح هذه المحاولة. وطالما لا تستطيع السلطة الفلسطينية ضبط الوضع ومنع المتطرفين من مهاجمتنا، لا خيار آخر متروك لدينا سوى اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية شعبنا، مهما كانت طبيعة هذه الإجراءات". ولكن السيد محمود عباس يعارض مثل هذه النظرة مصرا على أنه " لا يمكن ضمان السلام والأمن ببناء الجدران والحواجز وإقامة نقاط تفتيش ومصادرة الأراضي بل بالأحرى بالاعتراف بحقوق الشعوب في العيش بحرية وتقرير المصير". ورد السيد شارون على هذا القول هو أنه بعد عملية سحب المستوطنين من قطاع غزة لا تستطيع إسرائيل مساعدة الفلسطينيين الا بعد قيام السيد محمود عباس بمزيد من الإجراءات لنزع سلاح حماس وغيرها من المجموعات المقاتلة.
الاغتيالات ووقف إطلاق النار: مصدر خلاف آخر بين الطرفين هو شكاوي الفلسطينيين بأن إسرائيل مستمرة في سياسة الاغتيالات في حين أن إسرائيل تطالب في نفس الوقت بضرورة وقف العنف الفلسطيني. كثير من الفلسطينيين يعتقد بأنه لا مبرر لشن هجوم ضد أي هدف إسرائيلي، ولكنهم يضيفون بأن عمليات الثأر والردود الإسرائيلية على العمليات الفلسطينية مبالغ فيها وتثير ببساطة مشاعر الفلسطينيين العاديين وتغذي دائرة العنف الشيطانية. بالطبع، الإسرائيليون يرون
الوضع بصورة مختلفة تماما. أنهم يدعون بأن الاغتيالات قد انتهت باتفاقية الهدنة، ولكن كما شرح لي مستشار آخر لشارون بقوله:" عندما يتم إطلاق النار علينا بدون أي مبرر وبدون قيامنا بأي استفزاز مسبق، أو عندما نعلم بأن هناك تخطيط للقيام بهجوم انتحاري، فلا خيار لنا في مثل هذه الحالة سوى اتخاذ زمام المبادرة وإيقاف العملية قبل وقوعها. إن قوات الأمن الفلسطينية وللأسف الشديد تبدو عاجزة عن فعل أي شيء. ولن يبق لنا إن لم نفعل شيئا سوى دفن موتانا". ولكن هذا النوع من الجدل بالنسبة للفلسطينيين يبرهن فقط على قصر نظر وجهل الحكومة الإسرائيلية في فهم وتقييم الأمور بصورة صحيحة. فاستنادا للسيد خليل الشقاقي، مدير مركز الدراسات السياسية والبحوث برام الله، يدعم 77 % من الفلسطينيين وبشدة استمرار وقف إطلاق النار رغم اعتقادهم بأن انسحاب إسرائيل من قطاع غزة يعود لمقاومة حماس العنيفة للاحتلال، وأن دعم الشعب الفلسطيني للسلطة الوطنية قد ارتفع من 44 % إلى 47 % في الفترة ما بين شهر حزيران (يونيو) وشهر أيلول (سبتمبر) وتأييد حماس قد انخفض من 33 % إلى 30 %. ويقترح الخبير الفلسطيني المعروف في شئون استطلاعات الرأي، الدكتور نبيل كوكالي، مدير المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي العام، بأن على إسرائيل أن تستفيد من هذا التغيير الكبير في الرأي العام وتقدم مساعدة اقتصادية لتشجيع المزيد من الانفتاح بحيث ينظر الفلسطينيون إلى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة على أنه مكسب سياسي وفرصة حقيقية للتطور والنمو الاقتصادي الذي هم بحاجة ماسة إليه للتقدم.
التوسع في المستوطنات: يشكل قيام إسرائيل بتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية نقطة خلاف حرجة تفرض على الفلسطينيين طرح أسئلة جادة حول نوايا إسرائيل الحقيقية والتأثير السلبي القوي الذي ستشكله المستوطنات على الدولة الفلسطينية المرتقبة. وبالنسبة لإسرائيل، فان توسع بعض المستوطنات ضروري للنمو الطبيعي، وبالتحديد تلك المستوطنات التي تنوي الحكومة الإسرائيلية ضمها إلى إسرائيل في أية اتفاقية نهائية مثل معالي أدوميم. ولكن وبصورة عامة تشكل المستوطنات عبئا سياسيا ثقيلا على إسرائيل ومن شأنها فقط أن تؤزّم الصراع مع الفلسطينيين اللذين ينظرون إلى كل بيت إسرائيلي يشيد فوق أرض فلسطينية على أنه اغتصاب لحقوقهم الوطنية الموروثة على تلك الأرض. ويجادل الفلسطينيون وبشدة ضد وجهة نظر الإسرائيليين حول هذا الموضوع مصرين على أن أية اتفاقية نهائية يجب التفاوض حولها عن طريق الاتفاق المتبادل وأنه لا يجوز لأي عمل إسرائيلي أحادي الجانب أن يقرر الحدود النهائية بين البلدين.
جـدار الفصــــل: تعتبر هذه المسألة من صلب الخلاف القائم حاليا حول الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين حيث يعارض الفلسطينيون بشدة بناء الجدار الذي يقولون بأنه يشيد على أراض فلسطينية مسببا بذلك معاناة شديدة للشعب الفلسطيني وبذلك منع أية فرصة لتطور علاقات سليمة وبناءة بين الشعبين. والرد الإسرائيلي على ذلك هو الإشارة الى البيّنة التي لا تقبل الجدل وهي أن الجدار قد خفض وبصورة جوهرية تسلل الإرهابيين إلى إسرائيل، خصوصا المفجرين الانتحاريين، وأن من المسئوليات المقدسة للحكومة حماية مواطنيها مهما كان الثمن. تقول إسرائيل أنه بالإمكان إزالة الجدار عندما يثبت الفلسطينيون بأنهم جيران طيبون ومسالمون.
وبالرغم من أن لكلا الجانبين حجج قوية ومقنعة، فالذي يقف وراء كل موقف يتخذونه هي خبراتهم المأساوية التي امتدت عقودا طويلة من الزمن حتى الآن والتي بلغت درجتها القصوى في الانتفاضة الثانية التي أطاحت بكل أشكال الثقة المتبادلة بين الطرفين. لم يبق هناك نتيجة ذلك سوى حيز بسيط جدا لإيماءات حسن النوايا. فان كانت الثقة هي الوسيلة التي نسيطر بواسطتها على المخاطر، فان إسرائيل على ما يبدو غير راغبة في المخاطرة بتأمين السلطة الفلسطينية على أمنها، خصوصا عندما تستمر حماس والجهاد الإسلامي في الإعلان عن رغبتهما في تدمير إسرائيل. لا شك أن الحكومة الإسرائيلية متشجعة ومقتنعة بالتزام السيد محمود عباس بحل سلمي، غير أنها لم تر حتى الآن أية حجة قوية على أنه قادر على الوفاء بعهوده. هذا ويواجه السيد شارون أيضا من الناحية الأخرى حزبا متمردا ثائرا عليه بسبب قراره الانسحاب من غزة. انه بحاجة لتقوية مركزه قبل انتخابات السنة القادمة، ولذا فهو لا يريد أن يعرض مركزه للخطر بسبب أمن إسرائيل القومي ما دام هناك بعض الفصائل الفلسطينية مستمرة في قتل الإسرائيليين.
وبالنسبة للفلسطينيين، فان انسحاب إسرائيل من قطاع غزة يعطي فرصة تاريخية لإعادة بناء البنية التحتية التي دمرت خلال خمس سنوات من الصراع العنيف. والسيد محمود عباس الذي كان من بين الفلسطينيين الأوائل اللذين اعترفوا علانية بأن الانتفاضة لم تجلب للشعب الفلسطيني سوى الدمار، بذل جهودا صادقة للتوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار وذلك للشروع بحوار مجد مع الإسرائيليين، غير أن نجاحه بهذا الخصوص
وللأسف كان أقل بكثير من توقعات إسرائيل. غزة التي انسحبت منها إسرائيل هي ألان مجموعة مختلفة من العصابات المسلحة ومخيمات اللاجئين والعشائر، أي بعبارة أخرى أصبحت مكانا تسيطر عليه "ديمقراطية البندقية ". يعّول السيد عباس الآن على الانتخابات التشريعية القادمة لتثبيت مركزه وتوحيد وتقوية قوات الأمن الفلسطينية، ولكن عليه أن يبيّن بأن سياسة المصالحة مع إسرائيل التي ينتهجها الرئيس الفلسطيني تعطي ثمارها. ولذا فهو بحاجة ماسة لبعض التنازلات الإسرائيلية الهامة، بما في ذلك إطلاق سراح السجناء وإزالة حواجز الطرق وإعادة فتح معبر رفح ما بين مصر وغزة وتحويل السيطرة على المدن في الضفة الغربية للسلطة الفلسطينية. ولكنه بحاجة قبل كل شيء لتحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين. ويعتمد تنفيذ الكثير من هذه الأمور بالطبع على حسن نوايا الإسرائيليين. التقدم الحالي لهذا التغيير بطيء ومحبط لان العنف يبقى سيد الموقف ومستهلكا للنوايا الطيبة، والتأجيلات تؤثر من الناحية النفسية سلبا على اتخاذ مبادرات جريئة. أضف إلى ذلك أن انشغال إدارة بوش في العراق قد منعها من لعب دور حاسم وجعلها تتجنب الضغط على أي طرف أو كليهما معا لاستيفاء كل منهما المتطلبات العاجلة للطرف الآخر.
وبالرغم من أن عباس وشارون ملتزمان بالسلام ويسعيان للتقدم به إلى الإمام، غير أن تقييمهما المختلف للأوضاع السياسية الر