لماذا تركيا ولماذا الآن
بقلم: أ.د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليــــــــة
تستطيع تركيا أكثر من أي وقت مضى في العقود الماضية أن تلعب دورا حيويا في الدفع بالعملية السلمية الإسرائيلية – الفلسطينية وتصبح قوة سياسية واقتصادية في الشرق الأوسط. وخلافا للأمم الأوروبية وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، فان تركيا تتمتع بعلاقات طيبة مع جميع اللاعبين السياسيين الرئيسيين في المنطقة. ولتحقيق ذلك، فقد قامت تركيا بتحسين علاقاتها مع إيران، وبتسوية خلاف حول المياه مع سوريا، وأحجمت عن جرها إلى حرب في العراق وفتحت حوارا جديدا ومشجعا من أقليتها الكردية، ووسعت بصورة هائلة التبادل التجاري الاقتصادي والتعاون العسكري مع إسرائيل وأصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتنمية الاقتصادية الفلسطينية.
لقد أدت عدة أسباب إلى بروز تركيا للصدارة السياسية واعتراف المنطقة بقدرتها: تتفهم تركيا بصفتها إمبراطورية سابقة في المنطقة أكثر من غيرها من الدول الواقعة خارج منطقة الشرق الأوسط تاريخ هذه المنطقة وتقاليدها وحضارتها وتحترمها حيث أن المنطقة كانت تحت حكمها لمدة تزيد عن أربعة قرون من الزمن. أضف إلى ذلك أن تركيا ترتبط مع جيرانها في المنطقة بنفس الدين وهذا ما يدعم الترابط واللحمة. هذا ليس مبالغة في قيمة تركيا كجسر بين الشرق والغرب، ليس فقط من حيث موقعها الجغرافي بل وأيضا لأنها دولة ديمقراطية وأغلبية سكانها من المسلمين. زد على ذلك، ففي الوقت الذي تقيم فيه تركيا علاقات طيبة بشكل عام مع إسرائيل، فإنها بدأت في السنوات الأخيرة بقبول مركزية إسرائيل في المنطقة، ونمّت الروابط بين البلدين بصورة أكثر قوة، الأمر الذي أكسب تركيا مكانا خاصا وهو الثاني مباشرة بعد مركز الولايات المتحدة، في حسابات إسرائيل السياسية الإقليمية. لقد أصبح مركز تركيا أقوى أيضا لان دولا أخرى في منطقة الشرق الأوسط تعتبر تركيا قوة أقل غطرسة من الدول الأوروبية مثل فرنسا، ألمانيا أو المملكة المتحدة. ونتيجة لذلك، ينظر إلى تركيا الآن بصورة متزايدة من قبل جيرانها على أنها شريك محاور أكثر جاذبية من غيرها، وهي نظرة تقدم لأنقرة فرصا لا تحصى لتصبح بصورة مباشرة أو غير مباشرة مقحمة في السياسات الإقليمية والتطور الاقتصادي.
وبالعودة إلى حوار سلمي مفتوح مع أقليتها الكردية، رسخت تركيا مصداقيتها أكثر فأكثر. وأخيرا، فان علاقة تركيا المحسنة مع جيرانها قد جاءت في وقت، ولربما ليس صدفة، عندما بدت فرصة قبولها في الاتحاد الأوروبي أكثر بعدا من ذي قبل، وفي الوقت الذي تستمر فيه الولايات المتحدة منشغلة في العراق. هذه الظروف يبدو أنها دفعت أنقرة للتطلع للشرق للبحث عن باب جديد للعالم.
وإضافة إلى احتمال تركيا تمويل عدد من مشروعات رئيسية للتنمية في غزة، مثل إنشاء عدد من محطات التحلية وتوليد الكهرباء، منازل للاجئين، طرق ومدارس، فان تركيا مرشحة لاستلام وتطوير وإدارة منطقة ايريز الصناعية في غزة. الأهمية الرمزية والعملية لهذا المشروع عظيمة جدا: ستساهم في التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي بفلسطين، وستوفر آلاف فرص عمل جديدة للعمال الفلسطينيين، خصوصا النساء ( اللواتي لا يستطعن الحصول على فرص عمل في
مكان آخر بسبب القيود الاجتماعية المفروضة عليهن ) وتقوي روابط تركيا مع إسرائيل والفلسطينيين على حد سواء، وتقدم للشركات التركية فرصا للحصول على مشاريع في المنطقة. وأخيرا ستسمح للفلسطينيين بتصدير منتجاتهم لداخل وخارج المنطقة، الأمر الذي سيدر عليهم ملايين من العملة الصعبة لتقوية اقتصادهم.
بإمكان تركيا أيضا أن تقدم مساهمة أخرى فعالة للعملية السلمية بتحمل مسئولية تدريب بعض وحدات الأمن الفلسطيني. إن تجهيز هذه الوحدات مثلا بحوالي 20.000 بدلة – لكي تبدو هذه الوحدات متساوية على الأقل في المظهر – سيكون بداية طيبة جدا. وبالرغم من أن إسرائيل كانت تمانع تقليديا وجود قوات أجنبية حتى كمراقبين أو مدربين، إلا أنها قد ترحب بقيام تركيا بهذه المهمة الحساسة. وبالرغم من الجهود التي بذلتها مصر والأردن مشكورتين لتدريب وتوحيد قوات الأمن الفلسطينية، الا أن قطاع الأمن الفلسطيني يجب أن يكون منضما بالكامل تحت لواء وزارة الداخلية بالسلطة الفلسطينية وبإمكان تركيا أن تقدم العون في تنفيذ هذه المهمة. هذا وستتقبّل قوات الأمن الفلسطينية المدربين الأتراك أفضل بكثير من تقبلها مدربين من الاتحاد الأوروبي أو حتى مدربين أمريكيين، خصوصا وأن العداء لأمريكا يزداد في حدته يوما بعد يوم بسبب الإحداث المأساوية المستمرة في العراق، وهو وضع مقلق جدا لأنقرة.
إن القرب الجغرافي لتركيا مقرونا بسياسة البدائل البناءة التي ينتهجها رئيس الوزراء التركي طيب اردوغان تجعلها أيضا بلدا مثاليا للقاءات السياسية والتجارية. فمنذ فترة قريبة جدا فقط قامت تركيا باستضافة ندوة أنقرة ( Ankara Forum) التي جمعت ممثلين من رجال الأعمال الإسرائيليين والفلسطينيين والأتراك وهؤلاء تباحثوا فيما بينهم حول الرفع من مستوى النشاطات التجارية الصغيرة والمتوسطة الحجم ومشاريع التنمية في غزة. وأنقرة مهيأة أيضا لان تكون مكانا آمنا لمندوبين إسرائيليين وفلسطينيين لإجراء مفاوضات سياسية وقد تكون مضيفا مثاليا لمؤتمر دولي للسلام عندما يحين الوقت لذلك. كانت تركيا في شهر أيلول ( سبتمبر ) الماضي وسيطا في تدبير واستضافة لقاء تاريخي بين وزيري خارجية إسرائيل والباكستان ويمكن أن يكون نجاحها في ذلك نموذجا لمبادرات مستقبلية مماثلة.
وفي زيارة قمت بها في الآونة الأخيرة لإسرائيل وتركيا ومصر أجريت مباحثات مكثفة مع أكاديميين ومسئولين رسميين بمركز الأبحاث الإستراتيجية في أنقرة. وقد عبّر المشاركون خلال هذه المباحثات بوضوح على ضرورة أن تستعرض تركيا قدرتها على القيادة وذلك بأخذ زمام الأمور والنجاح في وساطاتها اذا أريد لها أن تصبح لاعبا لا غنى عنه في هذه المنطقة الساخنة جدا.
وفي نفس الرحلة أخبرني مسئول إسرائيلي رفيع المستوى القائم على تنسيق العلاقات الإسرائيلية التركية بأنه بمقدور تركيا أن تشارك في آلاف المشاريع المتنوعة باستثناء ما يتعلق بالحدود النهائية. وعندما سألته إذا كان ذلك سيعيق الوساطة السياسية أجاب: " نحن لم نصل بعد تلك المرحلة، ولكن هذا ممكن". ومع ازدياد حدة العنف بين إسرائيل وحماس قد تتمكن تركيا من إقحام نفسها وتثبت بأنها أكثر فعالية حتى من المصريين أنفسهم في محاولة إقناع حماس بأنها تخوض في الواقع معركة خاسرة وانتحارية. إن خبرة تركيا في محاربة الإرهاب وتقربها المتوازن من إسرائيل والدول العربية يضعها في مركز فريد من حيث قدرتها الاقناعية. هذا هو السبب الذي من شأنه أن يجعل من تركيا لاعبا رئيسيا في مراقبة الانتخابات الوطنية الفلسطينية إضافة إلى تحملها بعض الأدوار الأمنية وتسهيل العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين قبل الانتخابات وخلالهـــــــــــا.
وباختصار، إضافة إلى مقدرة تركيا على اتخاذ دورا يزداد حجمه تدريجيا في التطورات الاقتصادية، عليها الآن أن تعود لنفسها وتأخذ دورا سياسيا أكثر فعالية وتقحم نفسها في تطوير الأمن الفلسطيني وفي التوسط بين إسرائيل والفلسطينيين. وكلاعب جيد بنظرة تاريخية ثاقبة واستقامة والتزام بالسلام والازدهار الإقليميين قد تنجح تركيا حيث فشل آخرون