البيئة الجيوسياسية الحالية قد تؤدي إلى السّلام بين إسرائيل والفلسطينيين
تشير الثورات والإضطرابات التي تجتاح الشرق الأوسط إلى أنه سيكون من الصعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، إستئناف المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين والتوصل إلى نتائج ناجحة. على العكس من ذلك، فبسبب الظروف السياسية السائدة والتصاعد المستمر للتطرف في كلا المجتمعين، الإسرائيلي والفلسطيني، فإن إستئناف محادثات السلام في الوقت الحاضر قد يكون مواتيا ً أفضل من أي وقت ٍ مضى، وقد تضفي هذه الظروف، في الواقع، المزيد من الإستعجال في البحث عن إتفاق للسلام. أضف إلى ذلك، فالإنتظار على هذه الصراعات المستعرة لتهدأ قبل استئناف مفاوضات السلام ليس خياراً. فالكثير من هذه الصراعات العنيفة تستمر لسنوات وربما تصبح أيضا أسوأ بكثير قبل الإفتراض بأن تخلق بيئة أكثر ملاءمة لاستئناف المباحثات بشكل جدي.
هناك ستة أسباب أساسية تعلّل لماذا تُعتبر البيئة الجيوسياسية الحالية مواتية لاستئناف مفاوضات السلام، ولماذا أصبح التدخل الخارجي البناء شرطاً لا غنى عنه للتوصل إلى السلام العادل مع الأمن.
أولاً، الإضطرابات والثورات الإقليميّة: خلافاً للحكمة الشائعة، فإن الإضطرابات والثورات التي تجتاح الشرق الأوسط والتقارب بين الصراعات المتعددة، والمستقبل المجهول، قد خلقت ظروفاً قاهرة جديدة تدعم استئناف محادثات السلام. وفي حين أن الصراعات الإقليمية – وخاصة في العراق وسوريا، واليمن – صرفت الإنتباه عن الصراع الاسرائيلي الفلسطيني الأقل عنفاً حالياً، فالمستوى المنخفض نسبيّا ً للإشتباكات العنيفة تخدع ولا يمكن التسليم بها. ومع استمرار إحباط الفلسطينيين في النمو، فإن خطر إشتعال عنف أكبر يمكن تجنبه الآن في تصاعد مضطرد. والإضطرابات العنيفة الأخيرة في القدس والعديد من المدن الإسرائيلية تشهد فقط لهذا الاحتمال.
وعلى الرغم من أن حكومة نتنياهو تنفي أية صلة بين الإحتلال وموجة الهيجان العنيفة التي تجتاح المنطقة، فإن معظم الإسرائيليين والفلسطينيين المعتدلين يشعرون بالقلق إزاء إمكانية أن يجد تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش” أرضاً خصبة بين الفلسطينيين الراديكاليين الذين يكرهون الإحتلال الإسرائيلي وزعماءهم أكثر مما يكرهون تنظيم “داعش”، – هذا إن لم يكن قد نجح التنظيم فعلا ً بذلك حتّى الآن.
صحيح أن هذا لم يتجلّى حتّى الآن بأية طريقة ٍ واضحة لها أهميّة، ولكنها ليست سوى مسألة وقت (حتى لو هزم “داعش” في العراق وسوريا) ليقوم بزرع خلايا نشطة تعمل ضد كل من الإسرائيليين والفلسطينيين المعتدلين على حدّ سواء.
إن فتح قنوات للتفاوض بين اسرائيل والفلسطينيين قد يمنع مثل هذا التفشي ويسمح للدول العربية بالتركيز على الخطر الماثل الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش” والحرب بالوكالة بين السنة والشيعة (بقيادة إيران والمملكة العربية السعودية) على الهيمنة الإقليمية.
ثانياً، حرص الدول العربية على إنهاء الصراع: تدعو الدول العربية لأكثر من عقدين من الزمن إلى وضع حدّ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس حل الدولتين، الأمر الذي تجلّى رسميّا ً من خلال طرح مبادرة السلام العربيّة في عام 2002.
باستثناء مصر والأردن (الذين وقّعا اتفاقات سلام خاصة مع إسرائيل في عام 1979 و 1994 على التوالي)، لا تزال الدول العربيّة الباقية ملتزمة بمواقفها بعدم تطبيع العلاقات مع اسرائيل قبل تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ومن المثير للإهتمام هو أن العديد من الدول العربية في الخليج وشمال أفريقيا قد طوّرت علاقات سرية (بما في ذلك تبادل المعلومات الإستخباراتية) مع إسرائيل على مدى السنوات العشر الماضية، وأنها لم تعد تنظر إلى إسرائيل كعدو، بل كحليف محتمل ضد العدوين المشتركين إيران وتنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش”. وكما يرون هم الأمر، فبمجرد تحقيق السلام مع إسرائيل، يمكن أن تنشىء هذه الدّول هلالاً من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط من شأنه أن يكون كتلة هائلة ضد الهلال الإيراني الذي يضم العراق وسوريا ولبنان.
ثالثا، مبادرة السّلام العربية: لا تزال مبادرة السّلام العربيّة على الطاولة ويمكن أن توفر المظلة الشاملة للمفاوضات التي من شأنها أن تسمح للدول العربية بتقديم الدعم النفسي والعملي الهامّ للفلسطينيين ولعملية السلام. علاوة على ذلك، بما أن إسرائيل تحرص بشكل خاص على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، تقدّم مبادرة السّلام العربيّة خارطة طريق واضحة للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين في إطار سلام عربي إسرائيلي شامل. ويمكن للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي إستخدام نفوذهما والضغط على الحكومة الإسرائيلية أيضاً لتبنّي مبادرة السّلام العربيّة، خاصة وأن غالبية الإسرائيليين، بما في ذلك كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، يدعون بشدّة لتبنّي هذه المبادرة.
رابعا ً، سلوك حماس الجديد: إن الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، وقطر، ومصر، في وضع يمكنها من ممارسة الضغط السياسي والمادي على حماس لكي تتبنّى رسمياً مبادرة السّلام العربيّة التي سوف توفر قواسم مشتركة مع اسرائيل حول فكرة مبدأ حل الدولتين. وتمشياً مع مبادرة السّلام العربيّة، فقد أبدت حماس في أكثر من مناسبة استعدادها بوضوح للتفاوض على اتفاق سلام مع إسرائيل على أساس حدود 1967. هذا لا يعني أن حماس مستعدة وراغبة في تقديم التنازلات اللازمة لتحقيق السلام، ولكنها تشير إلى أن حماس تدرك أيضا أن إسرائيل وجدت لتبقى وتبحث الآن عن سبل لاستيعاب الإسرائيليين مقابل تخفيف الحصار، وفي نهاية المطاف رفعه تماماً ووضع حدّ للإحتلال.
خامساً، موقف الولايات المتحدة: قد يكون الرئيس أوباما أكثر ميلا في هذه المرحلة بالذات من رئاسته لبث حياة جديدة في عملية السلام. وهو يدرك، على أية حال، بأن أي استئناف للمفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية على الطراز الذي كان عليه في الماضي بالوساطة الأمريكيّة سيفشل، ليس فقط بسبب الشقاق السياسي في إسرائيل وبين الفلسطينيين، ولكن أيضا لأنه مقيد محليا لعدم الضغط على إسرائيل من جانب واحد، خصوصا أثناء الإنتخابات الرئاسية.
والجدير بالذكر أنّ الرئيس أوباما قد صرّح في شهر مارس 2015 بأن الولايات المتحدة ستعيد تقييم الوضع وتدرس نهجاً مختلفاً لمعالجة الصراع. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة لديها حصة معنوية ومادية في رفاه وخير إسرائيل وتلتزم بالمحافظة عليها، فهي في وضع يمكنها من تشكيل أوالتأثير على أية مبادرة دولية لتحقيق هذا الهدف بالذات.
وعلى الرغم من حقيقة أن إسرائيل تتمتع بدعم سياسي هائل من كل من الكونغرس والشعب الأميركي، هناك تحول واضح بين عامة الشعب والسياسيين الزعماء نحو وضع اللوم على إسرائيل لاستمرار الصراع. ويمكن للولايات المتحدة من خلال إظهار “الحب القاسي” الوفاء بالتزامها الأخلاقي لخدمة أفضل للأمن القومي في إسرائيل والحفاظ عليها كدولة يهودية وديمقراطية مستقلة، الأمر الذي يعتبر أعزّ حلم لجميع الإسرائيليين تقريبا ً.
سادساً، مصالح الإتحاد الأوروبي المتنامية في السلام: نظراً للإضطرابات والثورات المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط، يعتبرالإتحاد الأوروبي أكثر حرصاً من أي وقت مضى للعب دور أكبر في تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يعتبرونه نقطة وميض أخرى تضيف المزيد من الوقود على النار الإقليمية. أوروبا تعاني من التطرف الإسلامي الداخلي، وتعتبر حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني واحداً من المكونات الأساسية للحدّ من التطرف بنسبة كبيرة في بلدانها مع حماية مصالحها الواسعة في المنطقة.
وعلاوة على ذلك، فقد توصّل المجتمع الأوروبي إلى استنتاج مفاده أن تعنت إسرائيل في مأزقها وجمودها من خلال عدم التحرك الآن، هو في الواقع شرّ خطير لإسرائيل التي يعتبرونها حليفاً استراتيجياً هاماً، وخاصة من المنظور الأمني.
وعلى الرغم من تنامي حركة المقاطعة وسحب الإستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) في جميع أنحاء أوروبا، فإن الدول الأوروبيّة تفضّل تجنب اتخاذ مثل هذه الإجراءات العقابيّة ضد إسرائيل دون دعم من الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك، فهذه الدول على ما يبدو عازمة على وضع خطة عمل مشتركة بقيادة فرنسا في محاولة لوضع حد لهذا الصراع المضني الذي استمرّ حتّى الآن سبعة عقود من الزمن والذي قد ينفجر في أية لحظة ملحقا َ بهذه الدول وبحلفائها الإقليميين أضرارا ً جسيمة.
واستعراض دقيق لما سبق يوحي أنه نظراً لتطور الأحداث الإقليمية والديناميات الجيوسياسية المتغيرة داخل الدول العربية، والطبيعة المتغيرة للعلاقات الثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين، والرغبة الغربية القوية لوضع حد للصراع، فإنّ الظروف مهيأة للتوصل إلى سلام عربي إسرائيلي شامل.
أقول هذا وأنا أعلم بأن لا رئيس الوزراء نتنياهو ولا الرئيس محمود عبّاس سيأتيان بإطار ٍ للسلام يحتوي على تنازلات مهمّة وجذرية. ولذا ُيعتبر تغيير القيادة أمرا ً ضروريا لتحقيق ذلك، ولكن هذا لن يحدث إلا تحت ضغط شديد من طرف الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.