التراجع من شفا الحرب
يعد أمر ترامب بقتل الجنرال قاسم سليماني أحد أكثر الأعمال المتهورة التي قام بها الرئيس الذي وضع مرة أخرى مصالحه السياسية الشخصية فوق أمن الأمة. لقد استحق قاسم سليماني بالتأكيد مواجهة مصيره المرير، فقد كان وراء مقتل مئات الجنود الأمريكيين في العراق بينما كان يهدد ويعمل ضد الحلفاء الأمريكيين. ومع ذلك، فإن قتله دون التفكير في التداعيات الإقليمية الرهيبة وبدون استراتيجية تحت ستار المخاوف الأمنية الوطنية، أمر يصعب فهمه.
يبدو أن الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس الذين أشادوا باغتيال الجنرال سليماني قد أصابهم العمى التام لرغبتهم في القضاء عليه. عما سيحدث بعد ذلك، يبدو أن ليس لديهم أدنى فكرة. ولكن يبدو أن ترامب الذي يقاتل من أجل حياته السياسية لم يهتم كثيرًا بالنتائج المروعة طالما أنه يصرف انتباه الجمهور عن مشاكله السياسية. لقد اتخذ قرارًا باغتيال سليماني قبل سبعة أشهر، لكنه أصدر الأمر الآن لخدمة مصلحته الشخصية، خاصة في عام الإنتخابات هذا حيث يحتاج بشدة إلى نصر أثناء انتظار محاكمة المساءلة لعزله في مجلس الشيوخ.
وأثناء إحاطة مجلس الشيوخ بآخر المستجدات حول إيران من طرف وزيري الخارجية والدفاع، بومبيو وإسبر ومدير وكالة الإستخبارات المركزية هاسبيل، لم يقدم هؤلاء أي دليل على وجود خطر وشيك بحدوث هجوم على أربع سفارات أمريكية بتنسيق من سليماني كما زعم ترامب. في الواقع ، قال إسبر بشكل علني في مقابلة أجريت معه في 12 يناير بأنه لم ير أي دليل.
وصف السناتور الجمهوري مايك لي الجلسة بأنها “ربما أسوأ إحاطة إعلامية رأيتها، على الأقل فيما يتعلق بقضية عسكرية … ما وجدته محزنًا للغاية بشأن الجلسة الإعلامية هو إحدى الرسائل التي تلقيناها من المحاضرين ،” لا تجادل، لا تناقش مسألة مدى ملاءمة التدخل العسكري ضد إيران، وأنه إذا قمت بذلك فأنت “ستشجع إيران”. والآن ، بعد أن فشلت في تقديم دليل على وجود خطر وشيك، تزعم إدارة ترامب أن مقتل سليماني كان جزءًا من استراتيجية ردع طويلة الأجل.
من المؤكد أن الإغتيال نفسه قوّى عزم إيران على مواصلة أنشطتها الشائنة في جميع أنحاء المنطقة ، ولكن حتى وإن كان ذلك ، فإن الإجراء الذي اتخذه ترامب لجعل الولايات المتحدة أكثر أمانًا قد فعل العكس تمامًا.
لقد خلق مشاكل تصاعدية جديدة وأزمات متعددة. ترامب صاعد بشكل خطير الصراع مع إيران. لقد أضر بشدة بمصلحة الولايات المتحدة الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط ؛ كثف التهديد الإيراني ضد حلفائنا ، وخاصة إسرائيل ؛ قاد إيران إلى مضاعفة دعمها للجماعات الإرهابية والجهادية ؛ أساء بشدة علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين ؛ أظهر بأن الولايات المتحدة غير جديرة بالثقة تجاه الأصدقاء والأعداء ؛ ودفع إيران لإلغاء الكثير من الصفقة النووية، هذا في حين تقدمت في إيران بشكل مثير للإعجاب تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية.
وعلى عكس ادعاء ترامب بأنه اتخذ القرار الصائب من أجل الأمن الأمريكي ، قال 55 في المائة من الناخبين في استطلاع أجرته صحيفة “يو. إس. إيه اليوم” (USA Today) في 9 يناير / كانون الثاني إنه جعل الولايات المتحدة أقل أمانًا. والآن ما زلنا على شفا الحرب.
ورغم أن إيران اعترفت بأنها تقف وراء الهجوم على قاعدة الأسد الجوية في العراق، إلا أنها بدأت الهجوم لإنقاذ وجهها في أعين جمهورها وإظهارامتلاكها لصواريخ دقيقة ورغبتها في الصمود أمام الولايات المتحدة. كان هذا الانتقام متوقعًا، لكن بما أن إيران تريد تجنب حرب شاملة، فقد كان من الاستراتيجي والمحسوب بعناية إلحاق أقل عدد من الإصابات الأمريكية، إن وجدت، لمنع حدوث حلقة مفرغة من الهجمات الإنتقامية التي يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة وتؤدي إلى حرب.
ومع ذلك، هذا لا يشير إلى أن إيران ستوقف عملياتها السرية بالوكالة – باستخدام ميليشياتها المدربة تدريباً جيدا في العراق واليمن وسوريا لتنفيذ هجمات جديدة على أهداف أمريكية وحلفاء في المنطقة مع الحفاظ على قابليتها للإنكار. وبالمثل، يمكن لرجال الدين الضغط على الصقور داخل وخارج الحكومة لتجنب أي أعمال استفزازية ضد الولايات المتحدة. إيران تتحلى بالصبروتزن بعناية مكاسبها وخسائرها قبل أن تتخذ الخطوة التالية.
في أعقاب الهجوم الإيراني على قاعدة الأسد، أظهرترامب ضبط النفس أيضًا لأنه يريد أيضًا منع حرب شاملة، مع العلم أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة يمكنها الفوز بها بمفردها، إلا أنها ستكون أغلى انتصار في الأرواح والمال، وبالتأكيد في الرأسمال السياسي أيضاً.
بدأت الفوضى برمتها عندما انسحب ترامب من صفقة إيران. ماذا اعتقد ترامب أن بإمكانه أن ينجز؟ الإنسحاب من الصفقة دون أي بديل، دون التشاور مع الموقعين الأوروبيين، وإعادة فرض العقوبات، لاسيما عندما كانت إيران في امتثال كامل لجميع أحكام الصفقة، هو أمرمتهور بشكل خطير – يقوض مصالح أمننا القومي ويعرض للخطرأمن حلفائنا في المنطقة. لم تكن صفقة إيران مثالية ،لكن الفكرة كانت أن يُبنى عليها، وتطبيع العلاقات تدريجيا مع إيران، ومنعها من الحصول على أسلحة نووية لأنها تعمل لتصبح عضوًا بناءً في مجتمع الأمم.
ولحل الأزمة مع إيران، يجب على الولايات المتحدة إظهار فهم واضح للعقلية الإيرانية. فإيران دولة فخورة بذاتها ولها تاريخ غني ومستمر؛ لديها موارد طبيعية وبشرية ضخمة، هي زعيمة العالم الشيعي، وتحتل واحدة من أكثر المواقع الجيولوجية – إستراتيجية في العالم، وتريد أن تُحترم. الإيرانيون ليسوا ملزمين، هم يفكرون بشكل استراتيجي وصبر، وهم مثابرون وذو عزيمة.
إن إلغاء صفقة إيران يؤكد ببساطة عدم ثقة إيران بالولايات المتحدة منذ أن أطاحت وكالة المخابرات المركزية بحكومة مصدق في عام 1953 وحتى العقوبات المستمرة، وموقف الخصومة، والدعوة المفتوحة لتغيير النظام.
على كلّ من خامئني وترامب ضغط داخلي للصراع معه وكلاهما يريد تجنب الحرب. أصبح الجمهور الإيراني قلقا ومشاكسا بشكل متزايد. لقدعادوا إلى الشوارع مطالبين بإغاثة اقتصادية فورية. وعلى العكس من ذلك، إعتبر ترامب أن تصعيد الصراع العنيف مع إيران سيؤدي إلى تآكل بدلاً من تعزيز طموحاته السياسية، وسيجعل من هزيمته في نوفمبر / تشرين الثاني أمرا أكيدا.
إن دول غرب أوروبا حساسة للغاية لأي تصعيد كبيرللعنف، لأنه سيؤدي إلى تصاعد الخسائر وتدميركل الأطراف. يمكن لإيران أن تلجأ إلى مجموعة واسعة من الإجراءات العدائية، بما في ذلك تعطيل إمدادات النفط من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى عن طريق تلغيم مضيق هرمز الذي يمرعبره 21 مليون برميل نفط يوميًا (أي ما يعادل 21٪ من االإاستهلاك العالمي للنفط) ،الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث تفكك إقتصادي هائل في الشرق الأوسط وأوروباعلى وجه الخصوص.
يوفر التوقف المؤقت في الأعمال القتالية فرصة ذهبية لبدء عملية تهدئة جديدة. لقد أشركت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الإيرانيين بالفعل في محاولة لتخفيف التوتر بين إيران والولايات المتحدة وخلق ظروف مواتية لمفاوضات أمريكية – إيرانية مباشرة. يجب أن يدرك ترامب الآن أنه لا يستطيع تخويف إيران وأن الطريقة الوحيدة لمنعها من امتلاك أسلحة نووية هي من خلال الحوار.
وبغض النظر عن كيفية رؤية ترامب المعيبة للصفقة الإيرانية، فإنها لاتزال توفر الأساس لاتفاقية جديدة، حيث أن العديد من أحكامها الأصلية تبقى صالحة ويمكن البناء عليها. وبالنسبة لقضايا أخرى مختلف عليها بين الطرفين، وبالأخصّ أنشطة إيران الهدامة، فهذه يجب التفاوض عليها على مسار منفصل.
يتعيّن على إيران والولايات المتحدة في بعض النواحي لعق جراحهما وبدء فصل جديد مهما كان المشوار طويلا وشاقا، لأن الحرب ليست ولن تكون أبدا خياراً.