All Writings
فبراير 25, 2013

المعتقدات الدينية والواقع

لمحة موجزة: أكثر النواحي المحيّرة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو بقاءه – بعد 65 عاما ً من العنف المتبادل والعداء والمعاناة – بدون حلّ حتى بعد الإتضاح بأن التعايش بين الشعبين أمرٌُ محتوم وحلّ الدولتين يبقى الخيار الوحيد القابل للحياة. وبالرغم من أنّ هناك العديد من القضايا المثيرة للنزاع التي يجب أن تُعالج بشكل ٍ خاصّ, غير أن البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع هو الذي يؤثّر مباشرة ً على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها ويزيد من صعوبة حلّ الصّراع. ولتخفيف حدّة الصّراع, يجب علينا أوّلا ً إلقاء نظرة داخل العناصر التي تغذي البعد السيكولوجي ومعرفة كيفيّة تلطيفها كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ. وهذه هي المقالة الثالثة من ست مقالات حول الموضوع.

ُينظر للصراع العربي – الإسرائيلي بشكلٍ عام كصراع سياسي وإقليمي، غير أن العامل الديني الذي يكمن تحته قد خلق عقلية معيّنة تزيد من تعقيد النزاع وتضيف إلى عناده. لقد قام اليهود والمسلمون على حدّ سواء بإلقاء نوع من الغموض والإرباك على صراعهما بعرضهما أهميته إلى أبعد حدّ وإدخال الإعتزاز القومي والديني في المعادلة.

تعتمد الرواية الدينية الإسرائيلية على الإرتباط التوراتي للشعب اليهودي بأرض أجداده. لقد ذكّر رئيس الوراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجلس الشيوخ الأمريكي (الكونغرس) في خطابه يوم 24 أيار (مايو) 2011 بقوله:” هذه أرض آبائنا وأجدادنا، أرض إسرائيل التي جلب لها إبراهيم معتقد الإله الواحد، والتي خرج منها داود لمقابلة جوليات ورأى فيها إشعياء رؤية السلام الأبدي.”

ويعتقد معظم الإسرائيليين أنه لا يستطيع أي تشويه في التاريخ أن ينكر المركّبة الدينية التي أوجدت رابطة تمتد آلاف السنين ما بين الشعب اليهودي وأرض التوراة اليهودية. وحيث أن العبرانيين القدماء ليسوا من الناحية التاريخية يهود اليوم، لا حضارياً ولا حتى دينياً، فليس للتقليد العبراني قبل 3000 سنة إلاّ القليل من الشبه باليهودية الحديثة، الأمر الذي لا يعني ميراثاٍ للأرض لصالح اليهود. هذا، وبما أن العقيدة الدينية لا تحتاج إلى حجة أو برهان، ليس من المقبول بكلّ بساطة للعديد من الإسرائيليين أن يتنازلوا كلياً عن السيطرة على الضفة الغربية المعروفة في الأزمان القديمة كأراضي يهودا والسامرة التوراتية.

ومن وجهة النظر هذه، لا يمكن للإسرائيليين أن يتصوروا بشكلٍ خاصّ تنازلهم عن أقدس مكان بالنسبة لهم وهي مدينة القدس، وبالأخصّ حائط المبكىالذي يعتبرونه السور الخارجي للهيكل الثاني, سامحين للقدس أن تقع تحت حكم أو اختصاص أي شعب آخر أو أية جهة دولية حاكمة. ونتيجة لذك، وبالرّغم من قبول جميع الإسرائيليين بسرور بخارطة تقسيم الأمم المتحدة عام 1947، إلاّ أنهم كانوا دائماً يتمسكون بحلم إعادة امتلاك كلّ القدس، وبالأخصّ المدينة القديمة.

إن هذا الإرتباط والإنتماء الفريد من نوعه بالمدينة المقدسة الذي كان يرمز لآلاف السنين للشعور اليهودي بالخلاص، خلق حافزاً قوياً للإستيلاء على المدينة عندما أصبحت في قبضتهم في حرب الأيام الستة عام 1967. ويبقىسقوط القدس في صحوة الحرب حدثاً لا يُضاهى وأصبح يرمز للغفران اليهودي. لقد خلق هذا التطور التاريخي انبعاثاً جديداً يبرّر المعتقدات الدينية التي كانت متأصلة في النفسية اليهودية لقرون. وتحقيق ما كان يعتقد بأنه حلم صعب الوصول إليه تحت أصعب الظروف أصبح يُنظر إليه الآن كعمل الله الذي لا تستطيع قوّة أن تغيّره. وفي هذا الضّوء نستطيع أن نفهم غيرة أولئك الملتزمين بالحفاظ على كلّ القدس وعلى أكبر جزء ٍ من الضفّة الغربيّة, إن لم يكن كلّها, تحت السّلطة الإسرائيليّة, فهم يرون ذلك ليس فقط تنفيذا ً لوعد الله, بل لإرادة الله.

وما يلقي ضوءا ً أكثر على عقليّة هؤلاء “المؤمنين” هو أنّه لا يوجد من يجرؤ أن يجادل أو يقنع بشكل ٍ مخالف لخطة الله. فبصرف النظر عن الحقائق الموجودة على الأرض, منها مثلا ً وجود الفلسطينيين ومطالبتهم بالقدس الشرقيّة, يعتبر اليهود داخل وخارج إسرائيل بأن من التزامهم القيام بأي شيء يقدرون عليه لتنفيذ إرادة الله, وهذا ما يتجاوز إدراك الإنسانيّة الضيّق للواقع. وهذا يعلّل موقف الكثيرين من اليهود اللذين لا يرون إثما ً أو اعتداءا ً في قيامهم ببناء مستوطنات جديدة وتوسيع ما هو قائم منها في الضفّة الغربيّة وخصوصا ً في القدس الشرقيّة.

ومن وجهة نظر المستوطنين, فهم ينفّذون فقط ما حكم به الله. ولكي يحصل اليهود على حقّ الإحتفاظ بالقدس, عليهم أن يبرهنوا بأنهم أهل لإعادة تملّكها, حتى لو تضمّن ذلك قمع الفلسطينيين وتحدّي المجتمع الدولي. ولهذه لأسباب, وبغضّ النظر عن مدى وعنف مقاومة الفلسطينيين وغيرهم من الدول العربيّة والإسلاميّة ومعظم بلدان المجتمع الدولي للموقف الإسرائيلي, فأن التفويض الديني يفوق كلّ أنواع المعارضة, فالمستوطنون يرون أنفسهم بأنهم ينفّذون رسالة الله وأنهم يجب أن يظهروا عزما ً وتشبثا ً وإرادة لا تهتزّ وتقديم أية تضحية ضرورية في هذا السبيل قبل أن يهبهم الله مرّة أخرى أرض الميعاد.

ومع إعادة احتلال القدس وفرض السيطرة على الضفّة الغربيّة, ما كان يبدو أنه أمل ٌ كاذب أو رغبة وهميّة قد تحوّل فجأة ً إلى حقيقة. وقد تعزّز هذا التطوّر بجهود ٍ مدروسة تجاه خلق مراسي دائمة في الأرض وحقائق من خلال بناء المستوطنات وإقامة البنية التحتيّة اللازمة لزيادة وتقوية الإستمراريّة على الأرض. لقد أدّت هذه الجهود إلى تقوية بعض الفصائل والأحزاب المتطرّفة تدريجيّا ً, وبالأخصّ حركة الإستيطان التي أحرزت نفوذا ً سياسيّا ً هائلا ً تستخدمه الحركة بفعاليّة لإعاقة أية سياسة أو إجراء على الأرض قد يعرّض مشروعها الإستيطاني لحلّ ما عن طريق التسوية. وبالفعل, فقد خضعت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة, بصرف النظر عن توجهاتها الإيديولوجيّة, لنزوات المستوطنين.

لقد خلق التوسّع بالمستوطنات في إطار الدولة اليهوديّة الفتيّة والمعاصرة على كامل أراضي الوطن التوراتي الأسطوري هذه النزعة السيكولوجيّة القويّة والفريدة من نوعها. وحيث أنّ هذه العقليّة الدينيّة قد تأصّلت أكثر في النفسيّة الإسرائيليّة, زادت القوّة الحاسمة لحركة الإستيطان من صعوبة حتّى التفكير في العودة إلى حدود عام 1967, أكان ذلك بعمليّات تبادل أراض ٍ أو حتّى بدونها.

ونظرا ً للعقائد الدينيّة المرتبطة أيضا ً بثالث أقدس أماكن الإسلام في القدس, ألا وهو المسجد الأقصى وقبّة الصخرة المشرّفة (الحرم القدسي الشريف), فإن الزعماء المسلمين – مثل أنظارهم اليهود – لن يساوموا على القدس أو على استعادة الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربيّة. يعتقد المسلمون بأن النبي محمّد (ص) قد أسرى من مكّة المكرّمة إلى المسجد الأقصى في القدس قبل أن يعرّج للسموات. وبالرغم من أنّ المسجد الأقصى ُشيّد بعد فترة ٍ طويلة من وفاة الرّسول, غير أنّ آية الإسراء (1:17) تورد بأن النبي محمد (ص) قد “زار” الموقع الذي أقيم فيه لاحقا ً المسجد الأقصى. وهذا الإعتقاد لا يقتصر بالتأكيد على الفلسطينيين فحسب, بل هو اعتقاد جميع المسلمين, الأمر الذي يزيد من تعقيد ايجاد أي حلّ لمستقبل القدس. ولم يبدي الفلسطينيّون أيضا ً – شأنهم شأن الإسرائيليين – أية مرونة مطلقا ً بهذا الخصوص.

وفيما يتعلّق بالقدس, هناك أيضا ً معضلة أخرى تضاف إلى الإعاقة السيكولوجيّة, وهي حسّ الفلسطينيين بالملكيّة التي دامت قرونا ً طويلة بدون انقطاع. فبالرغم من أنّ العرب قد عاشوا مع اليهود بسلام ٍ نسبيّ, غير أنّ معاملتهم لليهود كانت معاملة مواطنين درجة ثانية. واليهود بدورهم قد قبلوا إلى حدّ كبير هذا الخضوع لكي يحافظوا على علاقات ٍ سلميّة. ونظرة العرب لليهود قرون طويلة بأنهم أقليّة كانت خاضعة لهم تجعل من قبولهم لليهود كمواطنين متساويين معهم تقريبا ً أمرا ً مستحيلا ً, فما بالك قبولهم كقوّة ضاربة في الشرق الأوسط اغتصبت بالقوّة أراض ٍ يعتبرونها ملكا ً لهم ؟ إذن يجب أن يُنظر لموقف الفلسطينيين تجاه القدس وكامل الضفّة الغربيّة من هذه الزاوية.

ثمّ نظرة العرب للإسلام كالرسالة الخاتمة للديانات السماوية الثلاث (بعد اليهوديّة والمسيحيّة) وأنّ النبي محمد (ص) هو خاتم الأنبياء لا تعزّز إلاّ التأكيد على الرفض الفلسطيني والإسلامي للتنازل عمّا يعتقدونه واجبهم الديني الطبيعي في إطاعة رسالة الله الختاميّة. وهنا أيضا ً يخلق العائق السيكولوجي المتأصّل في المعتقدات الدينيّة عقليّة تتحدّى الواقع. هذا كلّه مع الأخذ بعين الإعتبار بأنه لا يُسمح لأحد بنظر الديانتين اليهوديّة والإسلاميّة بتحدّي حكم الله وأمر النبي محمّد.

في كتابه “مستقبل وهم” (1927) يقول سيجموند فرويد أنّه يجب أن يُنظر للمعتقدات الدينيّة “كمطالب رغبيّة” أو معتقدات تحركها بشكل ٍ رئيسي رغبات إنسانيّة راسخة في النّفس, أي بمعنى “أوهام”. ولأوّل وهلة نوافقه هذا القول عند النظر بدون تحيّز للمعتقدات التي يؤمن بها الكثيرون على كلا الجانبين من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. ولكن بالطبع قد يتحوّل الوهم إلى حقيقة. فالإعتقاد بأن الشعب اليهودي قد يقيم يوما ً ما دولة قويّة على نفس الأرض التي عاش فيها يوما ً أجداده القدامى كان بالتأكيد قبل مائة عام ٍ مضت أمرا ً وهميّا ً أو خادعا ً. وحتّى لو اتفقنا مع فرويد بأن المعتقدات الدينيّة أوهام, لا نستطيع على أية حال أن نتفق مع تنبؤه بأن الأوهام تندثر بعد فترة ٍ قصيرة من الزمن.

في التحليل النهائي يمكن القول بأن الدين كان مخزنا ً لرغباتنا ومعتقداتنا العميقة جدّا ً وسيستمرّ على الأرجح في أن يبقى كذلك كما هو الحال بالنسبة للكثيرين من الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء. فالدين بالنسبة للمؤمنين على كلا الجانبين جزء من قوام حياتهم وصلب وجودهم ونظرتهم للعالم. والسؤال هو: هل يمكن جمع الطرفين لإجراء مصالحة أو توافق بين معتقداتهما بما يتناسب مع الواقع المتغيّر على الأرض ؟ لا نتوقّع لا من الإسرائيليين ولا من الفلسطينيين تقويض معتقداتهم الدينيّة العزيزة لديهم, ولكن إذا لم يكن بالإمكان تجنّب الإحباط وخيبات الأمل بسبب هذه المعتقدات, يجب تكييفها وإعادة تفسيرها على ضوء المعطيات الجديدة التي لا يمكن إنكارها من قبل الطرف الآخر ومن قبل المجتمع الدولي أيضا ً. لنأخذ مثالا ً على ذلك: بما أنّه لا يستطيع أيّ من الطرفين التخلّي عن القدس بدون التخلّي عن ديانته, بإمكانهما البدء في تكييف طموحاتهما على أن تكون القدس عاصمة مزدوجة لدولتين مستقلتين وذات سيادة.

لربّما تُحترم بعد ذلك تعهدات والتزامات كلا الطرفين التاريخيّة والدينيّة. لا يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين أن يسوّوا خلافاتهم ويروا تنفيذ وعد الله لهم بالسّلام إلاّ إذا أدرك كلّ منهما آمال وُمثل الطرف الآخر الروحيّة – وهذا بالتأكيد ليس أملا ً كاذبا ً أو وهما ً.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE