للسياسات المتهوّرة عواقب وخيمة
إن إعلان حكومة نتنياهو عن قرارها بضمّ حوالي 4.000 دونم من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية الواقعة ما بين مجمع مستوطنات غوش عتسيون والقدس ليس إلاّ عمل طائش وعدواني من شأنه فقط أن يقوّض مكانة إسرائيل الأخلاقية الدولية إضافة إلى عواقبه المستقبلية الوخيمة.
لقد انكشف رياء نتنياهو بالكامل عندما وضع اللوم على حماس لاختطاف وقتل الشبان الإسرائيليين الثلاثة بشكلٍ رهيب، الأمر الذي أدّى لحرب غزة الأخيرة، هذا من أجل أن ينتزع فقط ملكية أراضٍ في الضفة الغربية لمعاقبة السلطة الفلسطينية.
لقد فعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الواقع كلّ ما بوسعه للتعاون مع قوات الأمن الإسرائيلية في البحث عن الخاطفين وأدان بشدة عملية الخطف. وبدلاً من مكافأته على جهوده في الحفاظ على التهدئة في الضفة الغربية خلال فترة الحرب على غزة، مثلاً بإطلاق سراح بعض السجناء، قام نتنياهو باغتصاب قطعة أخرى من الأراضي الفلسطينية.
فالرسالة التي أرسلها نتنياهو تدل بوضوح على أنه لا يرتاب من شيء، وأنه على عكس تصريحاته العلنية بدعم حلّ الدولتين، فإنه لا ينوي السماح أبداً للفلسطينيين بتحقيق طموحاتهم وإقامة دولتهم. لقد انضم بتلهف لعضويّ الجناح اليميني المتطرف في إئتلافه الحكومي، الأحمقين المفرطين في حماسهما وهما نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان اللذين هدفهما الوحيد هو استمرار استعمار الضفة الغربية بأيّ ثمن حيث أنهما يسعيان وراء رسالتهما المسيانية بتفانٍ أعمى معرضين بذلك وجود إسرائيل لمزيد من الخطر. أضف إلى ذلك، سيكون لقرار نتنياهو أصداءً منذرة بالسوء بالنسبة لإسرائيل على جبهات عديدة أخرى لا يمكن لأحد أن يتجاهلها إلاّ إذا كان ممسوساً من روحٍ شريرة تعميه من التمييز ما بين الواقع والكابوس.
لقد قوّض عمل نتنياهو هذا الغير حكيم أمن إسرائيل القومي حيث أن استيلاءه على الأراضي يزيد من إضعاف المعسكر الفلسطيني المعتدل الذي يقوده الرئيس محمود عباس ويقوّي المتطرفين بقيادة حماس والجهاد الإسلامي اللذين بإمكانهم الآن أن يبيّنوا للعالم بأن الاعتدال لا يجدي شيئاً، مبرّرين بذلك استمرار مقاومتهم المسلّحة.
لم تكن خطوة نتنياهو هذه تبعث فقط على البؤس والأسى، بل إنها أتت أيضاً في وقتٍ غير مناسب بتاتاً، أي قبل أيام فقط من الإجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، بحيث لم تترك خياراً لعباس سوى الإستمرار بخططه في طلب قرارٍ تتبناه الأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال خلال ثلاثة أعوام. أضف إلى ذلك، فإن عبّاس سيشعر الآن بأنّه حرّ للذهاب لمحكمة الجنايات الدوليّة لتقديم ملفّ التهم ضد إسرائيل لارتكابها انتهاكات فظيعة ضدّ حقوق الإنسان.
والمجتمع الدّولي، وبالأخصّ الدّول الأوروبيّة والولايات المتحدة التي أكثر ما تهمّ إسرائيل، قد بدأت تفقد صبرها بنتنياهو وبسياسته الرّجعيّة. إنّها تنظر لتحرّكه الأخير ليس فقط على أنّه سلبي وضارّ لإمكانيّة التوصّل لسلام ٍ يتمّ التفاوض عليه، بل كمساهمة مباشرة لعدم الإستقرار في المنطقة التي تهزّها الثورات والإضطرابات. إنّها تنظر الآن لإسرائيل كدولة تبطل قيمها الديمقراطيّة وتستخفّ بشكل ٍ متعنّت بالقوانين الدوليّة التي تضبط القواعد والمسئوليّات الملقاة على قوّات الإحتلال، هذا في الوقت الذي تقوّض فيه بصورة خطيرة مكانتها الأخلاقيّة.
لقد دقّت أوروبا الغربيّة بشكل ٍ خاصّ ناقوس الخطر لإسرائيل محذّرة ً إيّاها بأنه لا يمكنها الإستمرار بسياساتها التمييزيّة ضد العرب الإسرائيليين ومواصلة احتلال الضفّة الغربيّة دون خشية من العقوبة. زد على ذلك، تقوّض إسرائيل المصالح الإستراتيجيّة لأقرب حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، ألا وهي الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تستغني عنها. سيكون لدعم الولايات المتحدة الغير محدود لإسرائيل حدود، إذ لا تسمح الولايات المتحدة أن ينظر إليها بأنها خانعة دوما ً وأبدا ً لنزوات قادة إسرائيل الغير مسئولين.
أنا لا أستبعد، إذا استمرّت إسرائيل بنهجها الحالي الملتوي بقيادة نتنياهو، أن نبدأ عاجلا ً أم آجلا ً برؤية فرض عقوبات عليها، إبتداء ً من بعض الدّول الأوروبيّة، الأمر الذي سيعمّق عزلة إسرائيل في المجتمع الدّولي.
ومن نتائج سياسة نتنياهو المشؤومة هو ازدياد اللاساميّة، وهو موقف مشين وعنصري كان دائما ً حاضرا ً بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة. ويعزو، على أية حال، أيّ شخص عاقل تصاعد الآساميّة في الآونة الأخيرة في الدّول الأوروبيّة، وبالتأكيد في الشّرق الأوسط وحتّى في الولايات المتحدة، للسياسة الكريهة التي ينتهجها نتنياهو وزمرته تجاه الفلسطينيين.
والحقيقة التي تفوق ذلك خطورة ً هي أنّ أعداد متزايدة من الشباب اليهود الأمريكيين والأوروبيين (الذين يشكّلون أكبر مصدر للمهاجرين إلى إسرائيل) لا يرغبون في الهجرة لإسرائيل لأنهم لم يعد ينظرون لهذا البلد على أنّه ريادي ويتمتّع بروح ٍ معنويّة عاليّة وملتزم بالقيم الديمقراطيّة، أي بلد يفتخرون به.
يكره الجيل صغير السنّ من اليهود الإحتلال، وأكثر من ذلك المواجهات المسلّحة والمتكررة مع الفلسطينيين التي لا نهاية لها في الأفق. ويشعر العديد منهم بأنه مُهان من سياسات نتنياهو حيث أنهم نشأوا وترعرعوا على قيم المساواة والعدل والصحةّ الأخلاقيّة.
المفارقة أنّه في حين وُجدت إسرائيل لتكون الملاذ الأخير لليهود مع التصميم على حماية أمن ورخاء اليهود أينما تواجدوا، أصبحت إسرائيل الآن عبئا ً عليهم. واليهود الذين يعيشون داخل، وبالأخصّ خارج إسرائيل، يجدون أنفسهم “ممزّقين” ما بين رغبتهم في الدّفاع عن إسرائيل وتخوفهم من استمرار الإحتلال والسياسات التمييزيّة.
ومما يثير الخوف والقلق أكثر هو أنّ مئات الآلاف من الإسرائيليين قد هاجروا من إسرائيل في السنوات الأخيرة حيث أنهم يشاهدون بلدهم يفقد سبب وجوده. إنّهم يشعرون بالخيانة لعدم مقدرة قادتهم على البقاء أوفياء لقيم آبائهم وأجدادهم المؤسّسين للدولة واللذين كان هدفهم بناء دولة قويّة شاملة وعادلة تعيش بسلام ٍ ووئام مع جيرانها.
وللأسف فقد استسلم العديد من الإسرائيليين للعيش مع قادة فاسدين نهمهم للسلطة لا يعرف حدودا ً وقد ضحّوا برخاء أمتهم من أجل مكاسب وطموحات شخصيّة. فهل من الغرابة إذن أن يفقد هؤلاء الأمل ويريدون الآن الهروب من البلد الذي كانوا يوما ً ما مستعدين للموت عنه ؟ إنّهم لا يستطيعون أن يتصوّروا، وكذلك أنا، كيف بإمكانهم الإبقاء على الوضع الحالي مع الفلسطينيين أو “السيطرة” عليه بدون عنف متكرّر يزيد فقط من حدّته وشراسته جاعلا ً من إسرائيل جحيما ً لا يطاق كما شاهدنا في الحرب الأخيرة الإسرائيلية – الحمساويّة.
ومن المفارقات، نتنياهو مع كلّ تعصّبه وعيوبه ما زال قادرا ً على تغيير ديناميّات الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني. عليه أن يجلس لوحده ويفكّر بدون حضور “كبير مستشاريه”، ألا وهي زوجته التي لا تعرف شهوتها للسلطة أية حدود، ويسأل نفسه أين ستكون إسرائيل في غضون عشرة أعوام أو خمسة عشر عاما ً إذا استمرّ الوضع الحالي في التفاقم.
وقد يُفترض منه أيضا ً التفكير في التركة التي سيتركها لخلفه. فهل يريد نتنياهو أن يترك منصبه وإسرائيل دولة محتلّة تعيش في حالة دائمة من الحرب، دولة عسكريّة يحكمها قادة من الجناح اليميني المتعصّب والديني، دولة تزداد عزلتها الدوليّة يوما ً بعد يوم وسكانها اليهود يُستنزفون، بدون أصدقاء وبمستقبل ٍ مظلم ومعرّضين أكثر من أيّ وقت ٍ مضى للأذى والخطر في حين يفوّت هؤلاء القادة عليهم الفرصة الذهبيّة الممنوحة لليهود للنهوض من رماد المحرقة ؟
أو أنها ستكون البلد الذي بحوزته كلّ شيء ليصبح “نورا ً للعالم” ؟