وضع حد لمأزق الولايات المتحدة وإيران يعتمد فقط على المفاوضات وجهاً لوجه
تشير حتى مراجعة عاجلة للإضطرابات التي تجتاح الشرق الأوسط إلى إيران باعتبارها واحدة من المذنبين الرئيسيين وراء معظم الصراعات التي أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة. نجد إيران متورطة بشكل مباشر في الحرب الأهلية في اليمن وهي تزود حزب الله في لبنان وتدعمه وتمارس نفوذاً سياسياً هائلاً في العراق، الأمر الذي يسهم بشكل كبير في الإضطرابات في ذلك البلد. علاوة على ذلك ، تحتفظ إيران بوجود عسكري قوي في سوريا فتفتح جبهة ثالثة لتهديد إسرائيل، وهي تعزز ترسانات حماس ودفاعها ضد الدولة اليهودية. وأخيرًا ، تقوم إيران بتجنيد وتمويل وتدريب الميليشيات ومجموعة من المنظمات الجهادية والإرهابية للقيام بعرضها على جميع الجبهات.
ليس هناك شك في أن إنهاء المأزق بين الولايات المتحدة وإيران من شأنه أن يقلل من التوتر بشكل ملحوظ ويخفف بعض النزاعات الأخرى في المنطقة، لأن النقاش بين الجانبين، بحسب مصادر أمريكية ، لن يقتصر على البرنامج النووي الإيراني. سوف تصر الولايات المتحدة على مناقشة بعض الأنشطة الإيرانية الشائنة ، مثل دعمها للجماعات الجهادية وتطوير الصواريخ وإن كان ذلك على مسار منفصل مع روابط لضمان أن الفوائد التي تحصل عليها إيران من صفقة نووية جديدة يتم تعويضها من خلال أفعال طهران الواضحة كلاعب إقليمي بناء.
والسؤال هو كيف نتحرك لإيجاد مثل هذا الإتفاق وما الذي سيعيد في الواقع الحكومة الإيرانية إلى طاولة المفاوضات دون أن تفقد ماء وجهها في نظر شعبها. وتحقيقًا لهذه الغاية ، نحتاج إلى استكشاف خمسة سيناريوهات مختلفة. ومن خلال عملية إسقاط ما لا يصلح منها، سوف نستنتج بشكل قاطع أن المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران تبقى الخيار الوحيد القابل للتطبيق الذي سيتحلى به الطرفان للمتابعة بعناية إذا ما أرادا تجنب اندلاع حرب كارثية.
الحرب: هناك من يشير إلى أن شنّ حرب ضد إيران وتدمير منشآتها النووية سيؤدي إلى إخضاع طهران. هذا السيناريو معيب بشكل أساسي بسبب تداعياته المشؤومة. فحتى في ظل أفضل الظروف التي قد يتم فيها تدمير المنشآت النووية الإيرانية بالكامل، ستظل إيران في وضع يمكنها من إطلاق الكثير من ترسانتها العسكرية التقليدية ضد أي أعداء حقيقيين أو حتى مزعومين، وبالأخص المملكة العربية السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة.
أجل ، في ظل سيناريو الحرب يمكن أن تُدمر إيران ، لكن إيران ستظل قادرة على إلحاق أضرار لا حصر لها بالمهاجم. يجب أن نتذكر أن رجال الدين ، بدعم من الجيش ، سوف يقاتلون من أجل بقائهم. وخلافا للآراء التي يتبناها بعض الصقور الأمريكيين والإسرائيليين ، ليس هناك أي فرصة تذكر بأن هذه الحرب ستنهي حكم الملالي في طهران.
وبينما يرفض جزء كبير من الشعب الإيراني حكم رجال الدين لأنهم يسعون إلى مزيد من الحرية وفرص عمل أفضل، فإنهم لن يتسامحوا مع هجوم أجنبي. وبغض النظر عن كيفية انتهاء الحرب، فإن إيران موجودة لتبقى. ومع مرور الوقت ، ستصبح إيران أكثر عدوانية وإصرارا على امتلاك أسلحة نووية مع تعزيز تصميمها على أن تصبح الدولة المهيمنة على المنطقة.
ممارسة أقصى ضغط: السيناريو الثاني ، الذي تسعى إدارة ترامب حاليًا إلى تحقيقه ، هو الحفاظ على العقوبات الكاسحة في مكانها وفرض عقوبات جديدة حتى تستسلم إيران لليأس حيث يستمر اقتصادها في التدهور ويصبح الرأي العام متململا بشكل متزايد. إن العلاقات الأمريكية-الإيرانية المتدهورة منذ انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) تؤدي فقط إلى تعميق الخلاف بين الجانبين. ومع ذلك ، فعلى الرغم من أن إيران تتضرّر بشدة من تأثير العقوبات، غير أنّه لا ينبغي لأحد أن يقلل من مرونتها وقدرتها على مواجهة الظروف الأسوأ.
تمتلك إيران موارد بشرية وطبيعية هائلة ويمكن للحكومة تعبئة الجماهير لدعم الحكومة. كما أنها قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتظاهرين كما تفعل الآن وقد فعلت من قبل. الحرس الثوري ملتزم برجال الدين ولن يتردّد في اتخاذ إجراءات وحشية ضد أي معارض للحفاظ على سلامة النظام الذي يخدم مصالح الحرس على أفضل وجه.
تغيير النظام: السيناريو الثالث هو تغيير النظام. ربما لا يوجد شيء أكثر جاذبية للولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وغيرها في أوروبا والشرق الأوسط من العمل على تغيير النظام في طهران. وعلى العكس ، لا يوجد شيء أكثر إثارة للخوف لدى رجال الدين من تغيير النظام القسري.
لقد فكّرت إدارة ترامب وما زالت تفكر في تغيير النظام في طهران من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل ، بما في ذلك دعم الإضطرابات العامة والعقوبات والعمليات السرية. ففي يوليو 2017 دعا جون بولتون، عندما كان لا يزال مستشار الأمن القومي، إلى تغيير النظام قائلاً إن “السياسة المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون الإطاحة بنظام الملالي في طهران”.
المشكلة هنا هي أنه لا أحد ، بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية ، يعرف ما الذي سيتبع التغيير المفاجئ لنظام الحكم تحت تأثير قوى من الخارج وكيف سيكون رد فعل الموالين للنظام وما ستكون عليه التداعيات المحلية والإقليمية. علاوة على ذلك ، ليس هناك شك في أنه سيكون هناك انقطاع خطير في إمدادات النفط ، حيث أن الحكومة الإيرانية قادرة تمامًا على إغلاق مضيق هرمز الذي يتدفق عبره في المعدل21 مليون برميل يوميًا. هذا يعادل حوالي 21 في المائة من استهلاك السوائل البترولية في العالم – مما سيجعله أهم نقطة خنق للنفط في العالم. ولذا من المؤكد أن تغيير النظام القسري ينطوي على مخاطرة كبيرة ، وقد تكون النتيجة أسوأ بكثير من سلوك النظام الحالي.
الإحتواء: إيران موجودة في كل مكان في المنطقة – في اليمن والعراق وسوريا ولبنان – بشبكة واسعة من المنظمات المتطرفة / الإرهابية التي ترغب في اتباع إملاءات طهران ويمكن أن تسبب الفوضى في وقت ومكان تختاره. لا يركز الوجود العسكري الأمريكي في العراق وقواته المتبقية الضئيلة في سوريا على تطويق إيران ، بل على محاربة الجماعات الجهادية ، وخاصة داعش والقاعدة.
حتى في ظل العقوبات القاسية ، لا تزال إيران تحافظ على وجودها في سوريا وتعززه من خلال إنشاء قواعد عسكرية دائمة وموطئ قدم قوي في البلاد، حيث ترى إيران أنه من الأهداف الجيوستراتيجية هو الحفاظ على ممر بري مباشر من طهران إلى لبنان. . وما زالت الحكومة العراقية تشعر بأنها مدينة لطهران لتوفيرها ملجأ للعديد من القادة السياسيين العراقيين عندما كانوا ينتمون إلى جماعات معارضة تحارب صدام حسين. وفي الوقت الحالي لا يمكن لأي سياسي عراقي أن يصبح رئيسًا للوزراء دون موافقة إيران، هذا ولم تفعل الحكومات العراقية المتعاقبة شيئًا لتقليل نفوذ طهران في البلاد.
الرغبة في الاحتواء لا تزال بعيدة المنال في أحسن الأحوال. فبخلاف فرض عقوبات صارمة على نحو متزايد والمحادثات الأخيرة حول معاهدة محتملة للدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن تمنع إيران من مهاجمة إسرائيل مباشرة ،لا توجد خطط واضحة لاحتواء إيران في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان. ومن المؤكد أن الجهود المبذولة للإحتواء ليست مضمونة، حيث يمكن أن يؤدي أحد الحسابات الخاطئة الكبرى إلى حرب إقليمية. وبالتالي ، فإن عدم القدرة على احتواء إيران ينطوي على عيوب خطيرة حيث تشعر طهران بالحرية في زعزعة استقرار المنطقة لتعزيز مصالحها الوطنية.
مفاوضات وجهاً لوجه: الخيار الخامس والوحيد العملي الذي سيوفر الدم والمال من جانب جميع الأطراف هو مفاوضات بحسن نية مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. حتى الآن ، خلص كل من الإسرائيليين الذين يعرفون ذلك وكذلك الأمريكان إلى أن الإنسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة ( JCPOA) كان خطأً فادحاً. فبعد عام ونصف تقريبًا لم يتم إرضاخ إيران، لا بل على العكس من ذلك، أصبحت إيران أكثر عدوانية في الوقت الذي انتهكت فيه بشكل علني وعمدي بعض عناصر الصفقة الأصلية رداً على الإنسحاب الأمريكي.
لم تؤتِ الجهود الفرنسية والألمانية لترتيب مفاوضات جديدة بين الولايات المتحدة وإيران الكثير من الثمار. لقد لاحظ دبلوماسي أوروبي في نوفمبر / تشرين الثاني أن أي نافذة لإعادة إيران والولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات أصبحت الآن صغيرة للغاية ، قائلاً: “إننا ندخل الآن مرحلة تكون فيها لأعمال إيران تأثيراً خطيراً على الإختراق”. ولكن بعد ذلك ، مهما كان الاحتمال ضئيلًا لجلب الولايات المتحدة وإيران إلى طاولة المفاوضات، فإنّ هذا الإحتمال يجب أن يستمر.
يجب أن تظل الصفقة الإيرانية الأصلية تشكل أساس مفاوضات جديدة. الفكرة هنا هي البناء على تلك الصفقة من خلال معالجة الإجراءات أو اللوائح التي تنصّ على أنّ مفعول الصفقة سيتوقف بعد فترة محدّدة ما لم تُتخذ إجراءات قانونية أخرى لتمديدها، أي ما يسمى ب (sunset clauses) التي كانت مزعجة لإسرائيل والتي يتفق معها ترامب. وفي البحث عن حل للنزاع ، يجب على جميع اللاعبين الرئيسيين إدراك الواقع الذي لا جدال فيه على الأرض وإجراء تقييم واقعي للأصول التي يمكن لكل لاعب جلبها.
حقيقة أن العداوة وانعدام الثقة بين الولايات المتحدة وإيران قد استمرت ما يقرب من جيلين ، وحقيقة أن الولايات المتحدة بعد أكثر من عامين من المفاوضات الشاقة انسحبت من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) ، يجعل البحث عن اتفاق جديد والتوصل إليه أكثر صعوبة وتعقيداً . ولكن بعد ذلك لا يوجد خيار آخر عاقل وعملي.
من شأن اتفاق جديد مع إيران أن يمنع انتشار الأسلحة النووية في المنطقة ويمهد الطريق لإيجاد حلّ للحرب في اليمن ويخلق عمومًا أجواء إيجابية جديدة تفضي إلى تسوية النزاعات الإقليمية الأخرى.