خيــار اسـتراتيجــي
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك
ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية.
يقدّم صعود حماس للسلطة للولايات المتحدة الأمريكية ولإسرائيل فرصة إستراتيجية لتحويل انتباههم لجبهة إسرائيل الشمالية مع سوريا. فمصلحة دمشق في استعادة مرتفعات الجولان تبقى على رأس أولويات الأجندة الوطنية للحكومة السورية. وسوريا أيضاً بحاجة ماسّة للمساعدة الاقتصادية والتنمية التي لن تتمكن من تحقيقها إلاّ عن طريق إقامة علاقات طبيعية مع واشنطن, ولذا فإن الحكومة السورية جاهزة للحوار ويترتب على إدارة بوش وإسرائيل أن تنظر من جديد إلى سوريا وتفحص أية خيارات سياسية جديدة من الممكن أن تتعامل بها مع سوريا. وبالرّغم من أنّ هذا الأمر قد يكون فيه نوع من التحدي للإستراتيجية التقليدية الأمريكية, فإن من شأن سياسة أمريكية جديدة تجاه سوريا أن تحدث تغييراً جوهرياً على الساحة السياسية في المنطقة بأكملها.
إن معارضة اتباع سياسة أكثر مصالحة مع سوريا يرتكز إلى عدة اتهامات خطيرة ضد سوريا, منها تقديم الملاذ لعدد من المجموعات المسلحة, خصوصاً المنظمات الفلسطينية التي في كثير من الأحيان تعمل حتى بتوصية من الحكومة السورية. وتقوم سوريا أيضاً بدعم حزب الله دعماً كاملاً في لبنان وتقيم علاقات حميمة, ولكن مزعجة للآخرين, مع إيران وبالذات في الوقت الحاضر, متحدية بذلك المجتمع الدولي. هذا إضافة إلى اتهام سوريا بأنها تقف وراء اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق, رفيق الحريري, وبأنّها تغذي مشاعر العداء والكراهية ضد أمريكا والغرب في جميع أنحاء العالم العربي, وأخيراً وليس آخراً بأن سوريا تدعم المتمردين في العراق. إن المسألة ليست هنا عمّا إذا كانت هذه الاتهامات صحيحة أم لا, ولكن مجرد وجودها في عقول الناس يفرض على سوريا مواجهتها. ولكن في حين أن هذا الأمر متروك لسوريا أن تقوم به أم لا, أفليس من المفروض على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحاول في نفس الوقت أن تجبر دمشق على تغيير اتجاهها بمخاطبتها عن طريق مصالحها الوطنية؟ ولكن حتى الآن, سياسات بوش الشرق أوسطية مندفعة فقط بفكرة واحدة, وهي تغيير النظام في دمشق, بصرف النظر عن الوضع المتأزم حاليّاً في المنطقة وما يترتب على تلك السياسات من مشاكل عويصة. حان الوقت للإدارة الأمريكية أن تأخذ بدلاً من ذلك بعين الاعتبار سياسة مشاركة تتوافق مع البيئة الحالية في المنطقة. وأنا في اقتراحي هذا, أدرك بأن هناك ثلاثة حجج قوية تخالف هذا الاقتراح وتسـتحق تقديم حجج مقنعة مضادة لها :
الحجة الأولى أن التوقيت خطأ. ويمكن مواجهة هذه الحجة بالقول أن هذا ليس الوقت المثالي لأي من لاعبي السياسة الرئيسيين في المنطقة لاتخاذ مبادرة بعيدة المدى. ولكن ما هو الوقت المثالي إذا لم يكن مستنداً إلى أرضية الواقع؟ وهذا الواقع هو أن لا شيء قد آل بالطريقة التي كان من المتوقع أن يتغيّر بها في السنوات الخمس الماضية. إنّ ما يسمى بِ "الحرب على الإرهاب" لم تبلغ بعد ذروتها, والحرب في العراق ما زالت متأججة حتى الآن, وبالنسبة لعملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية لم يبق منها الكثير, والمجموعات الإسلامية تفوز بالانتخابات في كل مكان, والحقد على أمريكا وصل مستويات جديدة, هذا وما زال العديد من الأنظمة العربية يشعلون مشاعر الحقد والكراهية ضد الغرب بين الجماهير لتغطية فشلهم وعجزهم. هذه هي الحقائق التي تدعو إلى مراجعة السياسة ألأمريكية. وفي مواجهة هذه الحقائق فإن استمرار واشنطن في التركيز على تغيير الأنظمة يضمن ببساطة شيئاً واحداً وهو تفجّر الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من جديد وبعنفٍ أشدّ, وقيام إيران بالتشبث بكل قدراتها للحصول على المعرفة الفنية لإنتاج الأسلحة النووية, وسيحقق التمرد في العراق خسائر أفدح في الأرواح وستفوز المجموعات الإسلامية في كل انتخاب ديمقراطي. قد يوقف تغيير السياسة ألأمريكية تجاه دمشق الظروف المتردية في المنطقة ويقودها إلى التهدئة. ولكن وبالرغم من أنّ هذا التغيير في السياسة ضروري وفي وقته, إلاّ أنّه يجب ألاّ يكون بدون شروط. فعلى سوريا أن تتخذ بعض الإجراءات التصحيحيّة الجادة في سياستها, ولكن في نفس الوقت تحتاج لأن تكون قادرة على رؤية الضوء في نهاية النفق. لربما يسمي البعض هذه السياسة بسياسة الاسترضاء, ولكن هذا خطأ! لا أحد يفهم أفضل من السوريين قوة الولايات المتحدة الجبارة, حتى مع كل مشاكلها في العراق. أضف إلى ذلك, فمع شعور الحكومة السورية بأنها محاصرة ومعزولة بسبب ضيقتها الاقتصادية الخانقة, فلدى دمشق مصلحة واحدة تفوق جميع المصالح الأخرى, وهي استعادة مرتفعات الجولان أولاً, ثم تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ثانياً.
أما الحجة الثانية المضادة لتغيير السياسة الأمريكية تجاه سوريا فهي القول أن أمريكا بتغيير سياستها تكافئ بذلك حاكم مستبد. صحيح أن أمريكا لا تستطيع وببساطة أن تضفي وجهاً جميلاً وجديداً لقائد مثل بشّار الأسد الذي انتهك مراراً أعراف السلوك المقبول دوليّاً. هذا من ناحية, ولكن تحسين العلاقات مع دمشق ليست طريقاً باتجاه واحد فقط, فالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ستستفيدان كثيرا من ذلك. وبنظرة سريعة على الظروف الجيوغرافية الإستراتيجية في الشرق الأوسط, يتضح لنا بأن صدى المساعدة لتغيير نظام دون المعرفة بنوعية الحكومة التي ستتولى الحكم بدلاً منه قد يكون عملاً متهوراً في أحسن الأحوال ونذير شؤمٍ في أسوأ الأحوال, لأن ذلك قد يؤدي إلى خلق اضطرابات ومشاكل أكثر بكثير من
ذي قبل. على إدارة بوش, بدلاً من ذلك, إقناع سوريا بتغيير سياساتها مقابل حوافز جوهرية, بما في ذلك الجولان. إن تغيير في السياسة ألأمريكية يشمل إمكانية استعادة سوريا لهضبة الجولان سيقلب رأساً على عقب جميع الحسابات السياسية لأصحاب اللعبة السياسية الرئيسيين في المنطقة وسيفيد إسرائيل بصورة كبيرة. كيف؟ سيعزل حماس وسيضع ضغطاً هائلاً عليها لتعديل سياساتها. كما وسيعزل إيران ويحرمها من الدخول لمنطقة البحر ألأبيض المتوسط عن طريق حزب الله, في الوقت الذي يعرقل بصورة جدية متابعتها لبرنامج التسليح النووي. هذا وسيغلق جميع ملاجئ المجموعات المسلحة التي تنطلق من سوريا وسيخفض مستوى التمرد والثورة في ا;لعراق, وسيجلب سلاماً ما بين إسرائيل ولبنان, وسيؤدي إلى نزع سلاح حزب الله. أعتقد بأن سوريا راغبة في دفع الثمن مقابل أية فرصة حقيقية لاستعادة هضبة الجولان وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. هذا مع اغتنام دمشق الفرصة لفك عزلتها الخانقة.
أما الحجة الثالثة المضادة لتغيير السياسة الأمريكية في المنطقة هي أن إسرائيل ستقاوم وبشدّة إعادة الجولان لسوريا: صحيح, فمن المتوقع أن تقوم الحكومة الإسرائيلية وكثيرون من أعوانها برفض ترجيع الجولان في الحال, خصوصاً وأنه ليس لدى إسرائيل سبب يجبرها على فعل ذلك, فسوريا لا تستطيع أن تستعيد الجولان بالقوة وليس بمقدورها وضع ضغط على إسرائيل لاستعادتها عن طريق المفاوضات. ولكن على إسرائيل ألاّ تفسّر هذا العجز على أن دمشق قد تخلّت عن سياستها المعروفة تجاه الجولان أو أنّها أهملتها. ما دام الوضع الحالي قائماً, ستبقى سوريا العنصر "المفسد والمخرّب" في منطقة الشرط الأوسط. ولأن أمل استرجاع الجولان مغروس وطنيّاً في نفس كل سوري, فهذا التطلع لن يضمحل مع الوقت. أضف إلى ذلك, هذا الأمل يقوى باستمرار بتوعية المجتمع السوري بصورة متزايدة بضرورة إنقاذ الشرف الوطني للوصول إلى هذا الهدف. وبصرف النظر عن الحكومة التي تحكم سوريا, فإن هذا المطلب الوطني لن يستمر فقط, بل وسيشكل أيضاً السياسات الإقليمية السورية. هذه ليست مسألة صح أم خطأ, فبصرف النظر عن الناحية التاريخية نحن نعلم بأنه لن يكون هناك أي سلام شامل بين إسرائيل والعالم العربي دون أن تكون سوريا جزءاً لا يتجزأ منه. ولكن لن يكون هناك سلام أبداً مع سوريا إلاّ إذا استعادت الجولان. وكل ما تفعله إسرائيل متجاهلة هذا الواقع تؤخر فقط من أمرٍ حتمي لا بد منه، ويوم الحساب سيأتي لا محالة, ولكن ليس بالضرورة أن تكون الأوضاع آنذاك أفضل مما هي عليه اليوم. لماذا لا تتفاوض إسرائيل على الجولان من مصدر القوة في الوقت الذي تتوق فيه سوريا إلى التخلص من عزلتها السياسية والاقتصادية؟ قد تكون دمشق راغبة للقبول بثمن أقل جموداً من " رجل في مـاء " كما صاغها السفير المصري محمد بسيوني. المرجع هنا يعود لخط وقف إطلاق النار يوم 4 يونيو (حزيران) 1967 م
مقابل الحدود الدولية المرسومة لعام 1923 الذي شكّل أحد أسباب النزاع الحرجة في كامب ديفيد في مايو (أيار) 2000 وأفشل المفاوضات.
إنّ التعيين الحديث العهد لنائب وزير خارجية سوريا السيد وليد المعلّم (وهو سفير سابق لسوريا في الولايات المتحدة الأمريكية) لمنصب وزير الخارجية قد يشكّل بداية جديدة موفقة. ليس هناك من هو أكثر منه معرفة ودراية بالوضع الأمريكي وبمشاعر الكراهية الأمريكية والمفاوضات الإسرائيلية- السورية حيث كان كبير المفاوضين السوريين. إن السيد وليد المعلّم مدرك لتعقيدات المشاكل التي تواجه سوريا, ولكنه أيضاً براغماتي جداً وحسّاس. إنّي أتكلم من منطلق خبرتي الشخصية به من خلال اجتماعات عديدة معه. لقد أصبحت أقدّر تعامله للقضايا والتزامه بسلام صلح ما بين إسرائيل وسوريا ومن المفروض ألاّ يمر تعيينه لهذا المنصب بدون ملاحظة.
لاعب آخر من الممكن أن يتوسّط في البداية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وسوريا هي تركيا. لقد أصلحت أنقرة علاقاتها مع سوريا وتتمتّع باحترام هائل في إسرائيل وتربطها علاقة قوية بواشنطن. بإمكان تركيا استخدام نفوذها لتحضير الأرضية للحكومة السورية للقيام ببعض الإيماءات المهمة للولايات المتحدة مثل قفل بعض مكاتب المجموعات المسلّحة في دمشق وزيادة مراقبتها بصورة ملحوظة لحدودها مع العراق لإعاقة, إن لم يكن منع, عمليات تسلّل الثوار والمتمردين إلى داخل العراق من الأراضي السوريّة.
وختاماً, على الولايات المتحدة إيجاد طريقة لفتح حوار مع سوريا, وفي نفس الوقت إقناع إسرائيل للتركيز على المسار السوري الآن وبعد تسليم حماس في المناطق الفلسطينية زمام السلطة. لن تكون هذه المرّة الأولى ولا الأخيرة التي تقوم فيها أمريكا بالتعاون مع نظام سلطوي. ولكن حان الوقت للولايات المتحدة الأمريكية ولإسرائيل القيام باختيار إستراتيجي للتحرك في اتجاه مختلف تماماً وبنتائج ايجابية سيكون لها آثار بعيدة المدى للعقود القادمة.