هل دقت ساعة أبو مازن المصيرية ؟
بقلم: أ.د. ألون بن مئيــــــــــــــــــــــــــــر أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية. لقد عدت توّا من جولة لإسرائيل وفلسطين استمرّت أسبوعا من الزمن قابلت خلالها العديد من الموظفين الرسميين والمثقفين الإسرائيليين والفلسطينيين ، وكذلك أناس عاديين من كلا الجانبين . هذه المقالة هي الأولى في سلسلة من المقالات التي كتبتها مع الأمل أن ألقي بعض الضوء الجديد على مواضيع عديدة تتعلق بالصراع الحالي في وقت تجتاح فيه التغييرات الثورية الساحة السياسية في كلا المجتمعين. يواجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن )ــ لربما أكثر من أي وقت مضى في كفاحه الطويل لقضية شعبه ــ ساعة تاريخية وحاسمة . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو " هل يريد الرئيس أبو مازن فعلا الارتقاء للحدث وانتهاز الفرصة والرّفع من معاناة شعبه أو أنه سيسمح لفرصة السلام هذه ــ لربما الفرصة الأخيرة ــ أن تفلت من يديه ؟" ولتحقيق هدفه النهائي،وهو حل الدولتين ، على السيد محمود عباس أن يطور أجندته المحلية الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة المشاكل الكثيرة والمتأزمة التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني بكل حزم وجدية . لقد غيّرت الانتفاضة الثانية ــ التي دمّرت الكثير من الاقتصاد الفلسطيني والأمن والبنية التحتية وكذلك انسحاب إسرائيل من غزة ــ الديناميكية السياسية بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني بصورة مذهلة . فمن ناحية استسلمت إسرائيل لاتخاذ المزيد من الخطوات الأحادية الجانب ، بما في ذلك بناء جدار مصمّم لتعزيز أمنها الوطني وخلق المعطيات لدولتين ، ويقوم القادة الفلسطينيون أثناء ذلك في الاستمرار بالتحرك لحل شامل ، ولكنهم في الواقع يجمدون التطورات الاقتصادية ويهملون بشدّة رفاهية شعبهم الفلسطيني . يجب على السيد محمود عباس الآن النظر من جديد إلى نقطة التقاء هذه الأحداث التي تتطلب منه انتباها فوريا . عليه تقديم أجندة سياسية سليمة وصارمة يقيم عليها القاعدة التي ستنطلق منها انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني يوم 25 كانون ثان (يناير) القادم . وعلى السيد محمود عباس أن يجمّع كل ما بوسعه من قوة إرادة لخوض هذه المعركة لأن الفشل سيحكم عليه بالنسيان السياسي فيما يتعلق بالقضية الوطنية الفلسطينية . لا يحتاج السيد محمود عباس إلاّ للنظر بضعة أميال غربا ليقف شاهدا على التحول السياسي لنظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي ﺁرييل شارون الذي فرضتــــــه الأحوال والظروف السياسية والاجتماعية المتغيرة لكلا الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني . لدينا في شخص شارون قائدا كرّس كل ساعة من سيرته المهنية السياسية للنضال من أجل إسرائيل الكبرى ، الأمر الذي حمّله لقب " مهندس سياسة المستوطنات ". وبالرّغم من ذلك ، لقد أدرك بأنه لا يمكن تثبيت الاحتلال من وجهة النظر الديموغرافيّة . وبالتالي فقد تخلى عن ارتباطه بحزب الليكود الذي دام عقودا طويلة وكان أحد مؤسسيه ، ذلك كله لأن الحزب لا يتماشى الآن مع الواقع . وﺁخذا بعين الاعتبار الجو السياسي الحالي المحتدم والمخاطر التي تتعرض لها حياته الخاصة ، فان مهمة السيد محمود عباس هي التحلي بشجاعة مشابهة . أكنا قد خلقنا عظماء أو أن العظمة قد فرضت علينا ، فان التاريخ سيبيّن أن رجالا مثل السيد محمود عباس هم على مستوى الحدث . إن لديه الغريزة والإحساس بالمسئولية التاريخية حيث أن أعماله تمنح الأمل لشعبه وتمهد الطريق لإعادة بناء الجسد والروح للفلسطينيين . وفي حين أن السيد عباس قد يرغب في التوصل لمجموعة من المكاسب تؤدي إلى حل الدولتين ، فان الأستاذ الجامعي د. سري نسيبة ، رئيس جامعة القدس ، يعتقد بأن على السيد محمود عباس أن يجعل من أجندته المحلية نقطة التركيز على الانتخابات التشريعية القادمة . يريد الشعب الفلسطيني أن يرى تحسنا فوريا ملحوظا في حياته اليومية ، لا أن ينتظر عشرة سنوات أخرى لحين التوصل لحل دائم . ولتحقيق ذلك ، هناك خمس قضايا على السيد محمود عباس أن يركز عليها : أولا ، على السيد محمود عباس الالتفات إلى دعوة القادة الشباب اللذين لم تفتر همتهم تحت الاحتلال الإسرائيلي . هؤلاء يريدون التغيير ، يريدون نهاية للمحسوبية والفساد والعبث بمصالح الشعب . هذا ويجب القيام بكل جهد لضمان التمسك بالأوليات السياسية دون الالتجاء إلى التهويل أو التهديد أو العنف . يجب إعطاء ما يسمى ب "الروّاد الشباب " (Young guard) فرص متكافئة للمنافسة الحرة والنزيهة بصرف النظر عن ميولهم السياسية . هذا وعلى السيد محمود عباس أن يوفّر الأمن والحماية اللازمين لضمان التمسك بالأوليات في الأيام المتبقية بحيث تبقى الشكاوى والمشاكل المتعلقة بالانتخابات عند الحد الأدنى لها . ثانيا ، على السيد محمود عباس ألاّ يتهرب من مسئولية تطبيق القانون . وهذا ما يريده كلّ فلسطيني. لقد سئم الفلسطينيون من الفلتان الأمني ومن العيش على هامش الحياة والبحث في أي مكان عن حماية ما عدا من موظفي الأمن التابعين للسلطة . لا يمكن بالطبع تغيير ذلك جذريا خلال سبعة أسابيع، ولكن على السيد محمود عباس أن يبيّن للفلسطينيين كيف سيتصرف بعد الانتخابات الوطنية . بإمكانه مثلا اختيار منطقتين يمكن السيطرة عليهما ـ واحدة في الضفة والأخرى في غزة ـ ويعلنهما منطقتين مجردتين تماما من السلاح ويطلب من جميع سكان هاتين المنطقتين تسليم أسلحتهم مقابل تعويضات مالية عنها . ثم عليه بعد ذلك معاقبة من يحمل سلاحا في الشوارع علنا كان أم في الخفاء . وفي حالة تطبيق ذلك في هاتين المنطقتين بنجاح تام ، يمكن أن يمد خطر حمل السلاح على مناطق أخرى مطبقا القانون بدون استثناء . ثالثا ، على السيد محمود عباس أن يبدأ فورا بتنفيذ مشاريع تطوريّة تستوعب أقصى قدر ممكن من الأيدي العاملة مثل مشاريع الإسكان ، خصوصا في قطاع غزة . ليس فقط لأنّ في القطاع حاجة ملحة للإسكان بين عشرات الآلاف من العائلات التي تعيش في قذارة في مخيمات اللاجئين ، بل إن مثل هذه المشاريع توفر ﺁلاف فرص العمل في منطقة تصل فيها البطالة إلى 50% . وعندما سألت السيد أوديد بن حاييم من وزارة الخارجية الإسرائيلية بماذا سينصح السيد محمود عباس علاوة على ضرورة قيامه بنزع سلاح حماس ، أجاب، ولدهشتي :"عليه أولا وقبل كل شيء أن يركز على التطور الاقتصادي الذي سيوفر القاعدة للهدوء الشعبي." يجب توفير الفرص لتشغيل القادرين على العمل من سكان مخيمات اللاجئين في مشاريع إسكانية لكي يصبح لديهم فيما بعد إحساس بالتملك والاعتداد بالنفس عند العيش في شقق هم أنفسهم قاموا ببنائها أو بتمويلها . وفي مسارات مشابهة ، يمكن الشروع في بناء المدارس ومراكز الرعاية الصحية والطرق وغيرها من مشاريع التقنية والبحث الأخرى . لقد قدّمت الدول المانحة مليارات الدولارات وهي مستعدة لتوفير الاعتمادات اللازمة للسيطرة على الفوضى والفلتان الأمني في غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية . لا أحد يزعم أن كل ذلك من الممكن أن يحدث قبل الانتخابات المقبلة ، ولكن على السيد محمود عباس أن يلتزم بتطوير بلده اقتصاديا وأن ّ لا شيء سيصرفه أو يعيقه عن تنفيذ أجندته الوطنية هذه . رابعا ، لن يحدث أي شيء مما ذكر أعلاه إذا لم يلزم السيد محمود عباس نفسه مرّة أخرى بإصلاح جهازه الأمني ، وبالأخص جهاز الأمن الوقائي ، ووضع حد للعنف الداخلي والهجمات ضد إسرائيل . ليس فقط لأن إسرائيل سترد بضربات مدمرة ومؤلمة تعود بالضرر على كل فلسطيني ، بل لأن استئناف العنف سيضعف أيضا أية فرصة لتقدم وتطور اقتصادي في المنطقة . واستنادا إلى استطلاع حديث للرأي أجراه الدكتور نبيل كوكالي ، مدير الفلسطيني لاستطلاع الرأي (PCPO)، فان ( 70% ) من الفلسطينيين يؤيدون استمرار الهدنة . وعندما سألته عن نتائجه، قال لي : "إن الفلسطينيين يريدون السّلام والرّخاء ، هذا ما يصبون إليه ". يجب على السيد محمود عباس أن يوضح تماما لحماس ولغيرها من الفصائل المسلحة بأنه لن يتم التهاون أبدا ومنذ هذه اللحظة بأية أعمال خرق للهدنة مع إسرائيل . وأضاف الدكتور صائب عريقات ، كبير المفاوضين الفلسطينيين ، قائلا :" يجب أن تكون حماس حرّة في خوض الحملة السياسية بدون أيّة إعاقة من الجانب الإسرائيلي بحيث تكون ملزمة بقبول نتائج الانتخابات بدون احتجاجات ، وبعد ذلك ستفرض السلطة الفلسطينية بندقية واحدة وقانون واحد وسلطة واحدة اعتبارا من اليوم الأول من الانتخابات ." السؤال هو عما إذا ستأخذ حماس السلطة الفلسطينية بجدية أم لا . وﺁخذاً هذا بعين الاعتبار ، يجب على السيد محمود عباس أن يتبرّأ من خالد مشعل ، القيادي البارز في حماس ، الذي أعلن مؤخراً بأن حماس لن تقوم بتجديد الهدنة لأن إسرائيل لم تلتزم بها ". هذه القضية مهمة بصورة خاصة لأن حماس مشتركة في العملية السياسية وإعادة تشكيل الخارطة السياسية في إسرائيل مرتبط بالتطورات السياسية على الساحة الفلسطينية . سيضمن جو خال من العنف بالتأكيد إعادة انتخاب شارون وسيوسّع من قاعدة حزبه الوسط الجديد المدعو " كاد يما " ( Kadima ). ويبقى شارون القائد الإسرائيلي الوحيد المجرّب والذي تثق به بدرجة عالية أغلبية الإسرائيليين . وبالرغم من أن الفلسطينيين غير راضين عن كثير من سياساته ، غير أن عليهم أن يلعبوا دورهم في إعادة انتخابه لأن شارون هو السياسي القادر على تقديم التنازلات اللازمة للسلام . وخامساً وختاماً ، على السيد محمود عباس أن ينهي حضارة العنف بتعزيز قدسية الحياة .إن لديه القدرة كقائد رؤوف على إقناع الشعب الفلسطيني بأن لا مستقبل لهم إلاّ إذا شغلوا أنفسهم أولاً بفحص الذات والتجديد الروحي بدلاً من انشغالهم بالعنف المدمّر للذات . عليه أن يتقلد العباءتين ، عباءة القائد الروحي وعباءة رجل الدولة " الختيار " مشجعا مواطنيه على المحبة والأخوة والرحمة . لقد عانى الشعب الفلسطيني أكثر من أي شعب ﺁخر ، وعلى السيد محمود عباس أن يشرع بحملة وطنية " لدمل الجروح " مبتدأ بالأطفال في كل مؤسسة تعليمية . من حق الأطفال الفلسطينيين أن يعيشوا بكرامة اليوم ، فلماذا الانتظار لتحقيق خطط ومشاريع سياسية سامية في مستقبل غير متأكدين منه ، مضحيين في سبيل ذلك ببراءتهم على مذبح من القيادات التائهة . لقد أضاع الفلسطينيون في العقود الخمسة الماضية وبصورة مأساوية فرصاً كثيرة للعيش بسلام جنباً إلى جنب مع إسرائيل . ولقد تبددت هذه الفرص بسبب السياسات المضللة التي اعتمدت على أخطاء قراءة وفهم الحقائق كما هي فعلاً على أرض الواقع . ولأول مرة في عقود عديدة ، يدرك المعسكران الإسرائيلي والفلسطيني أن هناك إحساس متنامٍ للواقعية فيما يتعلق بفرص سلام دائم . ولربّما تكون هذه الفرصة الأخيرة للسيد محمود عباس للاستجابة لدعوة شعبه .