All Writings
أغسطس 23, 2006

لعنـــة أم نعمـــــــــــــــــــــة ؟

      إذا كان هناك إستراتيجية خلف رفض مصر تطبيع العلاقات مع إسرائيل،  فمن المنطقي أن نسأل ما هو خلف هذا الرفض وعما إذا قد حقق الأهداف المرجوة منه بعد حوالي ثلاثة عقود من الحملة القاسية ضد التطبيع. ولكن مهما كانت الأسباب،  أكانت معاقبة إسرائيل أم عزلها أم رفض الاعتراف بمكانتها وقبولها،  أو أنها ببساطة للاستهلاك المحلي،  فقد أثبتت هذه الإستراتيجية فشلا ذريعا. ولو تعلق الأمر بفشل مستمر كهذا لإستراتيجية أخرى لأعيد النظر فيها منذ وقت طويل. ولكن مع التغييرات السياسية والاقتصادية الجذرية التي أخذت مجراها إقليميا ودوليا خلال السنوات القليلة الماضية،  فقد أصبح من الضروري على الحكومة المصرية أن تعيد الآن النظر في هذه الإستراتيجية التي أصبحت تستنزف موارد مصر الإنسانية وتخنق قدرة مصر على النمو السليم.            ولفهم الأسباب التي تكمن وراء فشل السياسة المعادية للتطبيع،  من الضروري أن نتفحص الأسباب "المنطقية" الأساسية وما حولها من جدل وكذلك تفكير القيادة المصرية اليوم حول هذا الموضوع.  ومهما كانت هذه الأسباب مدعاة للغضب والسخرية للآخرين،  إلا أننا لا يمكن تجاهلها إذا أردنا فعلا مواجهتها بفعالية للسماح بظهور إمكانيات التغيير والبناء في الاتجاه الصحيح إلى السطح.  وفي سياق هذا النقاش،  فأنني أبين فيما يلي ستة أسباب متنوعة لاستمرار هذه السياسة حتى الآن:           أولا، الخوف من الاعتراف بالفشل:  فبالرغم من أن الحكومة المصرية قد توصلت تدريجيا إلى حقيقة أن مساعيها لم تعد فقط عقيمة وإنما أصبحت تأتي بنتائج عكسية،  فإنها تخشى أن يبدو تغيير مسارها السياسي الآن اعترافا منها بفشلها في الماضي.  وحتى لو قامت الحكومة المصرية فعلا بتغيير مسارها فإنها – وهي التي بذلت مجهودا سياسيا ضخما في تنمية المشاعر المعادية لإسرائيل سنوات طويلة – تفتقر الآن لإيجاد المعادلة أو المبرر المناسب لعدولها عن مسارها دون خسارة ماء الوجه. وقد تضخمت المشاكل أكثر فأكثر بسبب عجز الدولة على التعامل بقضايا أخرى اجتماعية واقتصادية ملحّة.            إن المشكلة الملازمة لهذا التفكير هي أنه مع الإحجام عن الاعتراف بالفشل تغلق السلطات المختصة الطريق على نفسها تماما للقيام بأية إجراءات تصحيحية وبذلك تبقى تدور في الحلقة المفرغة. غير أن المجتمع المصري اليوم لا ينظر إلى من يصب  عليه اللوم بسبب محنته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة، بل يريد التغيير، ويريد التغيير الآن !  وعلى ضوء هذه الحقيقة، على الحكومة أن تبدأ منذ الآن بتغيير سياستها تجاه إسرائيل وذلك بالتعاقد معها على مشاريع مشتركة بصورة متزايدة والترويج بوسائل الإعلام المختلفة لهذه المشاريع ليتمكن المواطن المصري العادي من رؤية الفوائد والإحساس بها على أرض الواقع. وفيما يلي مثال حول كيفية القيام بذلك:  لقد توصلت إسرائيل ومصر بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتفاقية حول تطوير المنطقة الصناعية المحددة (QIZ). تسمح هذه الاتفاقية مبدئيا لمنتجات مصر من النسيج بدخول سوق الولايات المتحدة الأمريكية بدون دفع أية رسوم جمركية أو رسوم أخرى ولكن بشرط واحد فقط هو أن تحتوي هذه البضائع على نسبة 11.7 % من المواد الإسرائيلية. لقد استفادت مصر من هذه الاتفاقية حيث تم إنشاء مصانع تشغل ما يزيد عن 162.000 عامل يتقاضون أجورا مناسبة وتدفقت ملايين الدولارات إلى خزينة مصر. إن إمكانيات إقامة مثل هذه المشاريع المشتركة مع إسرائيل في مجالات عديدة لا تحصى،  ولذا على الحكومة المصرية بكل بساطة أن تتحرك بعقلانية ومنهجية في هذا الاتجاه.           ثانيا،  تحويل انتباه الرأي العام:  من القضايا التي أصبحت عرفا لممارستها عقودا طويلة هي الحفاظ على مستوى معين من العداء لإسرائيل بإظهارها في وسائل الإعلام الواقعة تحت رقابة الدولة أنها العدو المناط أخذ الحذر منه وذلك لغرض تحويل – ولو على الأقل بنسبة معينة – انتباه الرأي العام عن المصدر الحقيقي لمحنة الشعب واستقطابه لدعم الحكومة. هذا ما كان للأسف تمارسه معظم الحكومات العربية، وهو العيش في راحة بال ورفضهم الواقع والعمل على كسب الوقت على أمل أن تتغيّر الأحوال للأفضل يوما ما.           إن هذا الموقف من إسرائيل على الرغم من توقيع مصر اتفاقية معها لم يفعل شيئا سوى شلّ جميع أشكال التطور خصوصا في المجال الاقتصادي لغير صالح الشعب المصري. ولا عجب فيما توصلت إليه دراسة أجرتها وزارة التربية والتعليم المصرية والتي بّينت أن أكثر المعارضين للتطبيع مع إسرائيل هم بصفة عامة الاكثر علما وثقافة في المجتمع المصري. لقد أصبح معظم هؤلاء المثقفين بعد احتضانهم من قبل الحكومة أبواق دعاية لها. وحيث أن وسائل الإعلام الحكومية تحت تصرف هؤلاء المثقفين،  فقد نجحوا في نشر دعايات وحملات مغرضة ضد الغرب بشكل عام وإسرائيل بشكل خاص.  وكما أورد السيد طارق حجي،  أحد رجال الأعمال المصريين البارزين والذي يكتب الكثير حول وضع الشؤون العربية والمصرية،  في مقالة له  يقول:" يعتقد بصفة عامة بين الطبقة المصرية المثقفة بأن الغرب وإسرائيل يسعيان معا للهيمنة على مصر عن طريق تدمير حضارتها ". ولذا يحاول القادة المثقفون الحد من التأثيرات الحضارية الغربية ويعارضون بشدة التطبيع مع إسرائيل.  لذا وبعد سنوات من العمل بهذا الشكل في حرب تشنها وسائل الإعلام لكسب الدعم الشعبي إلى جانب الحكومة،  على الحكومة المصرية الآن أن "تبدل غيارها" وتشرع بحد أدنى إلى تخفيض مستوى الحملات الإعلامية ضد إسرائيل وإخراس أحاديث الناس حول جميع نظريات التآمر التي كانت مادة دسمة لوسائل الإعلام. ومن المهم أن نشير الآن إلى أن المثقفين المصريين لا يخضعون جميعا لأهواء الحكومة.  فأثناء جولة قمت بها حديثا لمصر قابلت مجموعة من الأدباء والعلماء بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية وقد سرني أن أعلم بأنهم كانوا مدركين تماما لحججي في الدفاع عن التطبيع مع إسرائيل.  وبالفعل،  لقد كتب أخيرا د. جمال عبد الجواد الذي يشغل منصب رئيس دائرة الرأي العام بالمركز حول كيفية أن تقوم مصر مع غيرها من الدول الغربية على تكييف نفسها مع النظام العالمي الجديد. وما يعنيه د. جمال عبد الجواد هو أن العالم في الوقت الحاضر أحادي القطب ويحكمه اقتصاد السوق. وهذا يعني بدوره أن الالتحاق بعالمنا الحاضر في عصر العولمة يتضمن صنع سلام حقيقي مع إسرائيل.            ثالثا،  انتظار حل للقضية الفلسطينية:  كانت الدول العربية،  بما في ذلك مصر،  تستغل دائما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لتبرير سياسات محلية معينة،  بصرف النظر عن علاقة هذه السياسات بالمشكلة الفلسطينية. كثير من المثقفين العلمانيين ينظرون إلى الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين بمثابة توفير التربة الخصبة لنمو الحركات الإسلامية المتطرفة التي تعتبر القاهرة أحد أهدافها الرئيسية .  وبالرغم من وجود حوارات مفتوحة في كثير من الدوائر العربية حول التطبيع،  خصوصا بعد الانسحاب من غزة،  إلا أنه من زال هناك أعداد من الأكاديميين المصريين المعارضين لذلك واللذين يصرون على أنه سابق لأوانه القيام بمكافأة إسرائيل بالتطبيع. هؤلاء يقولون أن إقامة علاقات أفضل مع إسرائيل يجب أن يرتبط بانسحاب قواتها من جميع المناطق التي احتلت عام 1967.           صحيح أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قد أزّم العلاقات ما بين إسرائيل ومصر،  وبين إسرائيل وبقية العالم العربي.  ومما لا شك فيه أن هناك حاجة لحل هذا الصراع بالعدل والإنصاف. الشعب الفلسطيني يستحق العيش بكرامة في دولة فلسطينية ديمقراطية تقام على معظم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والعيش بسلام جنبا الى جنب مع إسرائيل. ولكن على الحكومة المصرية أن تعترف كذلك بأن مطالب إسرائيل الأمنية هي أيضا شرعية. إنهاء العنف ونزع سلاح المنظمات مثل حماس التي أقسمت على إنهاء وجود إسرائيل،  هي أهداف يجب على مصر أن تتبناها علانية وبصراحة تامة. إن تقوية الروابط الاقتصادية والحضارية والسياسية مع إسرائيل هي وحدها القادرة على تشجيع أية حكومة إسرائيلية حالية أو مستقبلية على الانسحاب من الضفة الغربية كما فعلت في قطاع غزة. وتأخير التطبيع مع إسرائيل لحين القيام بتسوية نهائية مع الفلسطينيين سيمدد حقيقة فترة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بدلا من تقصيره. وفي الواقع يتطلع الفلسطينيون المتطرفون من اليسار واليمين إلى أن برودة العلاقات المصرية الإسرائيلية مؤشر واضح على أن مصر غير ملتزمة بسلام حقيقي مع إسرائيل، ولذا فان الحكومة المصرية تمنع بقصد تطور أي قطاع في مجتمعها المصري أو في المنطقة بأكملها رابطة ذلك بإحلال السلام الحقيقي أولا. ولكن الفرصة موجودة: فمن خلال محادثات عديدة مع فلسطينيين معتدلين الذين يشكلون أغلبية المجتمع الفلسطيني اتضح لي بأنهم يعتقدون أنه كلما كانت علاقات الدول العربية أفضل مع إسرائيل،  كلما كان ذلك أفضل بالنسبة للفلسطينيين. وفي هذا السياق لا حاجة للحكومة المصرية أن تكون " أقدس من القديسين". إضافة إلى ذلك، إذا أرادت الحكومة المصرية زيادة تأثيرها وثقلها على إسرائيل،  فانه باستطاعتها فقط أن تفعل ذلك بجعل العلاقات بينها وبين القدس أمرا لا غنى عنه. وبأية طريقة أخرى يمكن أن يتم ذلك بدون تطبيع كامل مع إسرائيل ؟ إن مصر التي اتخذت خطوة جريئة لإقامة السلام مع إسرائيل في الوقت الذي كان ذلك أمرا يفوق كل تصّور تستطيع، بل ويجب عليها الآن أن تتخذ الخطوة القادمة وهي الإسراع في حل القضية الفلسطينية.           رابعا،  المعارضة الإسلامية الشديدة:  إن القوة المتزايدة للمؤسسات والتعاليم الإسلامية في مصر تجعل من الصعب كثيرا على الحكومة تغيير سياستها تجاه إسرائيل بدون إثارة السخط الإسلامي واستنكاره. يعارض الجزء الأكبر من علماء المسلمين التطبيع مع إسرائيل لاعتقادهم بأنه يتعارض مع التعاليم القرآنية ويعزز فكرة التعامل مع "الكفار" وهو أمر غير مسموح به.           صحيح أن هناك جماعات إسلامية داخل وخارج مصر تعارض بشدة فكرة التطبيع لان وجود إسرائيل بحد ذاته يقوض حلمهم في إقامة دولة إسلامية تمتد من شمال إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا.  ولكن حتى لو وضعنا جانبا هذا الحلم المستحيل تحقيقه، فإننا نرى أيضا أعضاء قياديين من الإخوان المسلمين في مصر،  بما فيهم عصام العريان، يعارضون التطبيع لكونه – على حد زعمهم – يفيد الإسرائيليين فقط. عندما نرى سيطرة الاعتراضات والتحفظات الدينية في مثل هذه النقاشات يتبين لنا بوضوح  كيف استطاع كثيرون من المتطرفين الإسلاميين تحريف الإسلام وتشويه رسالته ليتناسب مع مواقفهم أو أجنداتهم السياسية. لقد اخترق هؤلاء المتطرفون بصورة خطيرة مؤسسات عديدة وحصلوا بصورة متزايدة على دعم جماهيري واسع. لقد زادت قوتهم النامية الضغط على الحكومة التي قامت بدورها مرغمة بالتكيف معهم بأمل التقليص من الاحتقان الشعبي وتقليل احتمال حدوث اضطرابات.  ولكن من الأمور الايجابية جدا أنه وفي هذا الجو قام أحد الزعماء الإسلاميين المعروفين بتأثيرهم عالميا وهو الشيخ محمد سيد طنطاوي،  رئيس جامعة الأزهر في مصر،  بإبداء رأيه لصالح التطبيع مع إسرائيل قائلا:" إن الإسلام لا يمنع التطبيع مع دول أخرى،  خصوصا إسرائيل،  ما دام هذا التطبيع لا يؤثر سلبا على الدين." والأمر متروك الآن للحكومة المصرية لتقرر أما أن تستمر في الإصغاء لصيحات الجهات الإسلامية الرافضة ملتمسة بذلك عذرا لها لعدم التحرك منهجيا باتجاه التطبيع الكامل،  أو الاستناد إلى أصوات المنطق والعقل مثل صوت الطنطاوي كدعم لها بالشروع بعملية التطبيع جديا.            خامسا،  التخوف من أن تصبح إسرائيل قوة مهيمنة إقليميا واقتصاديا:  بالرغم من أن هذا شيء لا يصرح به المثقفون المصريون والموظفون الرسميون علنا، إلا أنه يبقى قلقا حقيقيا لمصر خصوصا أنه لا يضاهي قوة إسرائيل العسكرية أية قوة أخرى في المنطقة. وكما قال رفعت السعيد،  رئيس حزب التجمع المعارض، أن التطبيع "سيسمح للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بالتأثير على المنطقة. ولذا ستكون النتائج دورا مصريا مقزّما في المنطقة وتدهورا للسيادة المصرية."           ولكن بالتطبيع أو بدونه،  فإسرائيل في طريقها لان تصبح قوة اقتصادية إقليمية. إن الناتج القومي الإجمالي لإسرائيل يفوق الناتج القومي الإجمالي لمصر بنسبة 20% ويفوق الناتج القومي الإجمالي لسوريا والأردن ولبنان مجتمعة. ولكن من خلال حديثي مع الإسرائيليين حول هذا الموضوع لم يتكون لدي أبدا أي انطباع بأن إسرائيل عازمة على دحر مصر اقتصاديا لكي تصبح القوة الاقتصادية المهيمنة في المنطقة. يتكلم الإسرائيليون – وبشيء من الحنين – حول تجارة حرة مع العالم العربي وهم يرنون بشوق لليوم الذي سيصبحون فيه جزءا لا يتجزأ من المنطقة التي رفضتهم حتى الآن. يتكلم الإسرائيليون عن التطبيع بنوع من الرومانسية. هم يعلمون بأن قوتهم الاقتصادية هي الأولى في المنطقة، ولكنهم يدركون أيضا أنه ليس بإمكانهم التوصل إلى الازدهار الحقيقي والعيش بسلام إلا إذا ازدهرت المنطقة بكاملها وسادها السلام. ولكن مصر وللأسف بقيت متشككة من هذه النظرة،  وبالرغم من تحقيق بعض التقدم في مجال السياحة والتجارة،  إلا أن النقابات العمالية حتى هذه اللحظة تحظر على  أعضائها محاولة أي نوع من التطبيع مع إسرائيل أو مع الإسرائيليين.  هذا يعلل سبب قيام إسرائيل ومصر بالتوقيع على حوالي 50  اتفاقية تطبيع على مجموعة متنوعة من القضايا، بما فيها قضايا اقتصادية وثقافية،; 

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE