ومن الأوهــام ما قتــــــــــــــــــــ
بقلم: أ.د. ألون بن مئيرأستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدوليةبجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسطبمعهد السياسة الدوليــــــــة انه لأمر مأساوي أن نرى إدارة الرئيس بوش وقد تورّطت في لعبة قاتلة في العراق منذ اليوم الأول للغزو قبل أكثر من ثلاثة أعوام. لقد جزأت العراق إلى أشلاء وهي تحاول الآن يائسة إعادة العراق إلى شكله الأصلي. جرعة قوية من الغطرسة وتركيبة من الأخطاء المأساوية وأخطاء التقدير الفظيعة وإساءة استعمال جهاز المخابرات، خصوصا من طرف نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد، كلها مجتمعة قد أوصلتنا إلى هذا اليوم المؤسف جدا. إن العراق في حالة حرب منذ فترة وستستمر تجزئة هذا البلد إذا لم تقم إدارة بوش بتغيير مسارها فورا. كنا نتوقّع أن يكون لدى مهندسي الحرب في العراق صورة واضحة جدا عن ذلك البلد وعن شعبه قبل الغزو، غير أنه تبيّن بأن الإدارة لم تكن تعرف إلا القليل عن الشعب العراقي وعن حضارته وخصائصه الوطنية. ويبدو أن فريق بوش قد أخطأ في تقدير التأثير العميق للإسلام ليس فقط كدين وإنما أيضا نمط حياة كل عراقي تقريبا. لقد أظهرت الإدارة الأمريكية علاوة على ذلك جهلا تاما حول الشّقاق الحزبي في العراق، حول التقاليد القبليّة وتاريخ العراق الطويل فيما يتعلق بالتقسيم الطائفي. كانت الإدارة تبحث عن أسلحة الدمار الشامل في حين أن أسلحة الدمار الشامل الحقيقية التي كانت بحوزة صدام حسين هي مجاهديه وأتباعه من حزب البعث اللذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر يوم مجيئهم. لم يفهم مخططو الحرب أبدا أن المجتمع العراقي عبارة عن شرائح من النسيج المشكّل التي قامت بحياكتها مع بعضها البعض يد حديدية قوية من فوق. ومن ثمّ لم يفهم أولئك بأنه وبعد أكثر من ثمانية عقود من وجود هذا النسيج كدولة موحّدة، وأنه وبالرغم من قيام العراقيين بتطوير إحساس متماسك بوطنيتهم العراقية، غير أن النسيج الاجتماعي العراقي بقي حزبيا وكان هناك بين هذه الشرائح خطا واضحا من الانفصال الذي كان العراقيون بشتى أعراقهم وطوائفهم يتمسكون به للحفاظ على الهوية المستقلة لكل حزب أو عرق أو طائفة وضمان ولاء أتباعها أو أعضائها. ولكن الرئيس بوش ووزير دفاعه اقتحموا العراق كما تقتحم ثيران متجرا للخزف الصيني (مع اعتذاري لهذا التشبيه). لقد مزّقوا بغطرسة مخزية الغرز التي تربط هذا النسيج الرقيق الحساس مع بعضه البعض. وبصرف النظر عن كيفية تسوية الصراع الحالي على الحكم في العراق، فان العراق سيبقى في دوامة من الصراع والاضطرابات لسنوات قادمة. لم يدرك أبدا المسئولون في إدارة بوش، المتورطون في الجهود الحربية، بأن القاسم المشترك للشيعيين والسنيين والأكراد بالنظر لمستقبل العراق غير ملزم لكل من الطوائف الرئيسية الثلاثة بالقدر الذي يعتقد كل منها التوصل إليه من نتائج أو عوائد تضمن لها الاستقلال الذاتي. ونتيجة لذلك فان ملايين العراقيين اللذين يمثلون الطيف الاجتماعي الكامل يرون بأن الاقتتال الطائفي ضروريا للوجود وهم لن يبخلوا بأية حيلة أو جهد للمحافظة على ما يعتقدون بأنه في مصلحتهم الشرعية على المدى البعيد. إن من أوهام الإدارة الأمريكية القاتلة أن تفترض بأن الثورة في العراق ستخمد بمجرد تشكيل حكومة شاملة، خصوصا إذا كان للسنيّين – اللذين يشكلون أغلبية الثوار – دورا فعالا في هذه الحكومة. ولكن على العكس من ذلك، فان الثوار ينظرون إلى الضغط الأمريكي على الأغلبية الشيعية لضمّ السنيين إليهم على أنه محاولة لاستمالة السنيين إلى نبذ العنف. لا يوجد بكل بساطة مبرر للمجاهدين والبعثيين وغيرهم من الفئات الوطنية للتخلي عن القتال. ليس من المهمّ – من وجهة نظرهم – كم ستكون حصة السنيين في الحكومة، فقد خسر السنيّون بنظرهم السلطة التي كانوا يتمتعون بها وسيبقون بدون سلطة إلى ما شاء الله حتى يحصلوا لأنفسهم على شيء جوهري ودائم. ولا ننس بأن الثوار يحظون بتأييد شعبي واسع النطاق ولديهم مصادر مالية غير محدودة تقريبا تنصب عليهم من حلفاء أمريكا مثل المملكة العربية السعودية، هذا علاوة على مخابئ هائلة من الأسلحة والمتفجرات التي تكفي لإرهاب الشيعة والقوات الأمريكية لأمد غير محدود. أما الجانب الآخر الحرج، لا بل الخطير، في حرب العراق هو أن الإدارة الأمريكية لم تفهم أبدا نوايا الشيعة الحقيقية في نهاية المطاف. فبالرغم من وجود صراع طائفي داخلي بين مختلف الفصائل الشيعية، إلا أنهم في النهاية سيشكلون كتلة واحدة متماسكة لأنهم يعلمون بأن الوحدة هي ملاذهم الوحيد للقوة. فبتوجيه من قائدهم الروحي، الإمام آية الله سيستاني، قرّر قادة الشيعة منذ بداية الغزو التعاون مع الأمريكيين لإدراكهم تماما بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان قوتهم الوطنية. إن قرارهم هذا – حتى الوقت الحاضر – بتحمّل الحملة التي يشنها السنيّون عليهم يشكّل صلب إستراتيجية ثلاثية الأبعاد. أولا، إنهم يصبون إلى تعزيز قوتهم بإنشاء قوة عسكرية موالية لهم مع جهاز داخلي للشرطة وجهاز آخر للأمن. وثانيا، إنهم يريدون أن يبقوا على سلامة ميليشياتهم – التي تقدر بعشرات الآلاف من العناصر المسلحة - جاهزة لخوض المعركة المنشودة عند الطلب. وأخيرا، يريد الشيعيّون عند ترسيخ قوتهم الموحدة أن يكونوا أوّل من يطلب من الأمريكيين مغادرة أرض العراق وأن يتعاملوا مع الأوضاع في العراق على النحو الذي يرونه مناسبا لهم. لم تترك عقود طويلة من القمع والهيمنة سوى القليل من الثقة بين الشيعيين والسنيين، وكل منهما يبحث عن الأمن في مناطق يسيطرون عليها ديموغرافيا. وهذا يعلّل، بالطبع ضمن أسباب أخرى، استمرار التطهير الطائفي حاليا في العراق. العراق مجزأ الآن، وقد يتفكّك إلى مزيد من الأجزاء أو المقاطعات إلا في حالة بروز رجل قوي في المستقبل القريب، سيكون على الأرجح شيعيا، يجمع بين يديه العديد من السلطات الديكتاتورية – ويكون لشعبه أفضل من صدام حسين – ليعيد اللحمة من جديد للنسيج الاجتماعي العراقي. يعترف السيد بوش وبعض كبار موظفي إدارته أخيرا بأنهم قد ارتكبوا عدة أخطاء في تنفيذ الحرب، غير أن هذه الاعترافات ماكرة بحد ذاتها، ليس فقط لأنها قليلة جدا ومتأخرة جدا، ولكن لأنها تأتي أيضا في وقت يشعر فيه الرئيس بأنه محاصر ويفتقر للخيارات ومحبط بسبب تقديراته الخاطئة طيلة الوقت، وذلك كله قبل انتخابات منتصف فترة رئاسته. ما تحتاج إليه الولايات المتحدة بدلا من ذلك هي إستراتيجية خروج تكون مستقلة عن الأحداث والتطورات في العراق ويمكن تنفيذها في موعد يحدّد مسبقا وخلال فترة تتراوح ما بين 12 و 18 شهرا، وإلا سيموت آلاف الأمريكيين والعراقيين دون لزوم، فيكونون بذلك ضحايا لمغامرة رهيبة ليس لها نهاية على المدى المنظور.