تأكيدات السياسة الخارجية الجديدة لمصر
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
يسيء العديد من المسئولين الأكاديميين الإسرائيليين والأمريكيين اللذين عبّروا عن قلقهم حول السياسة الخارجيّة الجديدة لمصر فهم نوايا القاهرة وكذلك الفرص والإمكانيّات التي تمثّلها مصر الحاليّة بثقة واستقلاليّة أكبر. كانت الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك نتيجة الثورة المحليّة وبالأخصّ بسبب نقص الحريّة السياسيّة والفرص الإقتصاديّة التي يجب معالجتها بمنهجيّة لسنوات قادمة. ولتلبية طلبات شعبها ستكون الحكومة المصريّة الجديدة الأكثر مسئوليّة منشغلة ً في استرداد القيادة العربيّة في الشرق الأوسط التي كانت مفقودة لديها في الواقع لفترة سنوات ٍ طويلة. وخلافا ً لأولئك اللذين يقولون بأنّ حكومة مبارك كانت في خدمة حراسة المصالح الغربيّة فقد كانت مصر في الواقع خاملة ً حيث برز في منطقة ٍ محرومة ٍ من الإستقلال والفرص نفوذ دول ٍ غير عربيّة مثل تركيا وإيران وحركات إسلاميّة مثل حماس وحزب الله. والآن قد تبرز مصر أكثر تأكيدا ً على دورها في قيادة العالم العربي كعامل مهمّ في دعم الأمن والإستقرار والسّلام الإقليمي.
كان الهدف الأساسي للرئيس حسني مبارك المحافظة على نظامه بدلا ً من ارتداء عباءة الزعامة العربيّة بصفته كان قائدا ً لأكبر دولة ٍ عربيّة من حيث تعداد السكّان، وكانت علاقاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل والمساعدة الأمريكيّة الناتجة عن ذلك أدواته الرئيسية في الحفاظ على حكمه. وكان أيضا ً إحكام قبضته على الإخوان المسلمين سعيا ً منه للوصول إلى هذا الهدف المفرد الذي استقطب كلّ قواه. وكانت إبّان ذلك علاقات مصر مع دول عربيّة إقليميّة رئيسيّة مثل سوريا ودول غير عربيّة مثل تركيا وإيران مهترئة أو تكاد تكون غير موجودة. لقد خدمت هذه السياسات مع التقهقر الذي حدث في علاقات مصر الخارجيّة هدفا ً
-2-
مهمّا ً وهو الحدّ من النفوذ المصري في المنطقة وتحجيم دور مصر حتّى ولو بدا ظاهريّا ً بأنه يدعم بقوّة رئاسة مبارك. وما هي النتيجة ؟ النتيجة أنّه في الوقت الذي نجحت فيه أطراف
غير عربيّة في تحقيق نفوذ إقليمي هامّ على الحلبة السياسيّة، لم تحقّق مصر فعليّا ً شيئا ً من ذلك. وفي الوقت الذي خدمت فيه اعتبارات محليّة إشعال ثورة مصر، فقد عزّز عدم وجود قيادة حقيقيّة أن تساهم سياسات الرئيس مبارك في إضعاف العالم العربي بدلا ً من تقويته. وردّ الجيش المصري بعد تفجّر الإحتجاجات في جميع أرجاء البلاد – بدعم وحماية الثوّار بدلا من تفريقهم – يمثّل اعترافا ً ضمنيّا ً بهذه الحقيقة. وحيث أنّ حسني مبارك كان عند تنحّيه بعمر ٍ 82 عاما ً وكان مخطّطا ً أن يخلفه على الرئاسة ابنه جمال، الأمر الذي زاد من هبوط شعبيته إلى الحدّ الأدنى، أضف إلى ذلك استمرار فشل السياسات الداخليّة والخارجيّة، كلّ ذلك جعل القيادة العسكريّة تدرك بأن الوقت حان لانتهاز الفرصة لخلق تغيير ٍ كان ضروريّا ً جدّا ً.
وحيث أنّ الحكومة المصريّة الحاليّة توجّه الأمّة في مرحلتها الإنتقاليّة إلى نظام ٍ ديمقراطي أكثر انفتاحا ً وحريّة ً، فقد بدأت هذه الحكومة تنفّذ الإصلاحات المحليّة وتلك الضروريّة في السياسة الخارجيّة لإعادة التأكيد على القيادة المصريّة. وللتأكيد، يمكن فهم انزعاج الولايات المتحدة وإسرائيل من البيانات الأخيرة كتلك الناتجة حديثا ً عن استطلاع مركز بيو الأمريكي للأبحاث الذي بيّن بأنّ (54 %) من المصريين يرغبون في إلغاء المعاهدة المصريّة – الإسرائيليّة وأن (79 %) منهم لديهم وجهات نظر سلبيّة عن الولايات المتحدة. وتغيير هذه الأرقام على أية حال يتطلّب العمل مع حكومة مصريّة جديدة تستجيب لطلبات شعبها، لا أن تتهرّب من هذه الأرقام أو تغفل عنها. أضف إلى ذلك، فقد بيّن مسئولون كبار في الحكومة المصريّة الجديدة ومرشّحون للرئاسة المصريّة علنا ً وبصورة شخصيّة عن رغبتهم في إظهار زعامة مصر في العالم العربي واستقلاليّة في سياساتهم مع بقائهم ملتزمين بمعاهدة مصر مع إسرائيل والحفاظ على الروابط الإستراتيجيّة مع الولايات المتحدة للحفاظ على أمن مصر الوطني ومصالحها الإقتصاديّة. فإبطال معاهدة السّلام مع إسرائيل يعني مضاعفات وردود فعل سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة هائلة قد تقتل أي أمل لصنع تقدّم في هذه المجالات وتنهي سريعا ً طموحات مصر في استعادة دورها القيادي الإقليمي. وبالفعل، ففي مقابلة ٍ مع صحيفة "واشنطن بوست" صرّح وزير الخارجيّة المصري الجديد، نبيل العربي،
-3-
أكثر من مرّة بأن "مصر وضّحت تماما ً منذ اليوم الأول للحكومة الجديدة بأننا نريد فتح صفحة جديدة مع كلّ أقطار العالم". وفيما يتعلّق بالعلاقات المصريّة – الأمريكيّة قال وزير الخارجيّة بأنه ينتظر أن " تصبح هذه العلاقات أقوى من أي وقت ٍ مضى". وبالإشارة إلى العلاقات المصريّة – الإسرائيليّة ذكر وزير الخارجيّة بأن " مصر ستلتزم بأية اتفاقيّة وتحترم أية معاهدة وقّعت عليها". وعلى ضوء هذه التأكيدات فقد قامت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيّون بإعداد رزمة مساعدات اقتصاديّة إضافيّة هامة شاملة إعفاء مصر من ديونها وذلك لمساعدتها على البدء في معالجة وضعها الإقتصادي المزري.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المخاوف الغربيّة من اتجاه السياسة الخارجيّة المصريّة الجديدة يتركّز على ثلاثة عوامل رئيسية: مدّ الحكومة الجديدة يدها للإخوان المسلمين ولحماس وإيران. فحركة الإخوان المسلمين ستلعب بلا شكّ دورا ً أساسيّا ً في مستقبل مصر. لقد أثبت قمعها تحت حكم مبارك بأنه عمل فاشل والإستمرار في فعل ذلك سيتناقض مع روح الحريّة والديمقراطيّة التي قادت الثورة. وتجدر الملاحظة بأنّ الإخوان المسلمين لم يقودوا الثورة، والثورة كانت عموما ً ثورة علمانيّة تريد نشر نفس أنواع الحريات والفرص التي يتمتّع بها الغرب. أضف إلى ذلك، فالثورة المصريّة كانت ناجحة ليس باستخدام الأساليب العنيفة للمتطرفين الإسلاميين، بل بالإحتجاجات السلميّة في الشوارع. ولن تخاطر الحكومة المصريّة – وبالأخصّ الجيش المصري – الآن بأمل مستقبل ٍ أفضل ملاً قلوب مواطنيها بتمكين الإخوان المسلمين من الإنضمام للثورة. ولكن بالمقابل فإن خلق تقدّم نحو زعامة إقليميّة أكبر والتوسّع في الفرص المحليّة في شتّى المجالات سيدعو الحكومة المصريّة الجديدة لضمّ جماعة الإخوان المسلمين إلى عضويتها بدلا ً من قمعها وتهميشها. فإذا أرادت الحكومة المصريّة الجديدة أن تلبّي مطالب شعبها، يجب عليها وضع خطوط حمراء واضحة مع حركة الإخوان المسلمين تؤكّد عليها بأن مشاركتها في السياسات الوطنيّة أمر ُ مرحّب به، ولكن عليها كحركة سياسيّة أن تكون ملتزمة ً بالعمليّة السياسيّة لا أن تبقى مجموعة من الثوّار الإسلاميين. زد على ذلك، فلكي تتمكّن الحكومة المصريّة من تنفيذ برامج تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة هامّة، عليها ضمّ الإخوان المسلمين لهذه البرامج لأنهم يتمتّعون بشعبيّة
- 4 –
في هذين المجالين، الإجتماعي والإقتصادي. وكلّما زادت أهميّة الدور السياسي للجماعة، زادت مسئوليتهم، ومع المسئوليّة يأتي الإعتدال وحلول الوسط. وعليه، فإن احتواء جماعة الإخوان المسلمين سيكون عاملا ً مهمّا ً في إقامة علاقات ما بين الدين والدولة تناسب كثيرا ً المجتمع المصري وتبقى هذه العلاقات فوق ذلك تحت أعين الجيش اليقظة.
إنّ اتفاقيّة المصالحة بين فتح وحماس هي الدليل الأوّل لمصر الأكثر قوّة ونفوذا ً بعد رحيل مبارك. فالخلاف الذي توسّطت فيه حكومة مبارك على مدى سنوات ٍ طويلة انتهى على يد الحكومة المصريّة الجديدة في أقلّ من ثلاثة أشهر. لقد فتح غياب زعامة عربيّة مؤثّرة خلال فترة حكم مبارك وبطريقة ٍ غير مباشرة الباب لاندلاع الصراعات العنيفة المسلّحة بين إسرائيل وحزب الله وإسرائيل وحماس. وفي ظلّ اتفاقية الوحدة المولودة حديثا ً بين فتح وحماس كشفت حماس عن استعدادها للسّماح للرئيس محمود عبّاس بالتفاوض مع إسرائيل حول إقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة وأخذت على نفسها عهدا ً كفريق في اتفاقيّة المصالحة ألاّ تستخدم العنف. لقد قيّدت علاقة حكومة مبارك المتوتّرة مع حماس – التي تعتبر فرعا ً في غزّة لمجموعة الإخوان المسلمين – وبفعاليّة يدي مصر عن لعب دور ٍ هام في تعديل موقف حماس أو الوساطة في الخلافات الإسرائيلية – الفلسطينيّة. وفي حين أنّ ايماءات مصر حسنة النيّة تجاه حماس وفتحها معبر رفح الحدودي قد يكون أمرا ً مزعجا ً لإسرائيل، غير أنّ مصالح مصر تبقى الحفاظ على الأمن والإستقرار على طول حدودها، وبالأخصّ مع إسرائيل، وفي نفس الوقت إبعاد حماس عن سوريا وإيران. وبالفعل، سيكون من الغباء لحماية مصالحها الأمنيّة الوطنيّة أن تسمح مصر بتهريب الأسلحة لحماس عبر المعبر الذي افتتح حديثا ً. سيقوّض اندلاع أية حرب جديدة بين إسرائيل وحماس بصورة جسيمة مبادرة السياسة المصريّة الجديدة. أضف إلى ذلك، فإن فتح معبر رفح بين غزّة ومصر قد يخ.