All Writings
يوليو 25, 2011

الهروب من "غيتو" إسرائيل

بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

    في الوقت الذي يصرّ فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل كدولة يهوديّة، فإن سياساته تشجّع في الوقت الحاضر على هجرة ٍ جماعيّة للإسرائيليين اليهود من البلاد. إنّ فكرة ملجأ يهودي في أرض إسرائيل اليوم قي خطر ٍ كبير. لقد تحقّق الكثير مما كان يخشاه رئيس الوزراء السابق ايهود أولمرت بوصفه الوضع آنذاك ب "القنبلة الديمغراقيّة الموقوتة" فيما يتعلق بنسبة مواليد الفلسطينيين وتجاوز عددهم بذلك عدد السكان الإسرائيليين ما بين نهر الأردن والبحر ابيض المتوسّط.  وحتّى لو وضعنا الإحصائيّات السكانيّة جانبا ً، فإن عدد الإسرائيليين الذين يقيمون الآن في الخارج أكبر من اي وقت ٍ مضى، وهناك العديد من السكّان الإسرائيليين الذين يتوقون للانضمام اليهم.

    إن الإفتقار إلى قيادة بعيدة الظر في إسرائيل اليوم قد سارعت قي ترسيخ فكرة أنّ مستقبل الدولة في خطر، وبأنّ الصراع سيستمرّ لا محالة وسيزداد عنفاً وبأنّه من الأفضل البحث عن فرصٍ لحياة آمنة وتعد بالرّخاء والازدهار في مكانٍ آخر من هذا العالم. إنّ إسرائيل التي يتزعمها نتنياهو اليوم هي دولة تسيطر عليها بصورة متزايدة زعامات متطرّفة دينيّاً ومتعصّبة وقصيرة النظر بالنسبة للمستقبل. ونتيجة لذلك، فإن إسرائيل تظهر اليوم أكثر شبهاً بعدوتها المعلنة من حليفتها التي تدّعي بأنه يربطهما معاً قيماً مشتركة، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية. وبالفعل، فإن الحياة في "الدولة اليهودية" التي ينشدها نتنياهو تعادل نوعاً جديدا ً من "الغيتو" اليهودي الذي يختار العديد من الإسرائيليين وبصورة متزايدة الهروب منه.

    وللتأكيد، فإن وصف إسرائيل بِ "الغيتو" قد يبدوتشبيها ً مبالغا ً فيه لأول وهلة ، ولكن هو بالفعل كذلك إلى حدّ ما. تتحكّم إسرائيل اليوم على أية حال بمصيرها ولديها الأدوات والمصادر للدفاع عن نفسها والوسائل لقيام دولة بمستقبلٍ زاهر تشكله رؤية قادة مبدعين وشجعان، مدعومين ومفوضّين بنظام ديمقراطي متنوّع ونابض بالحياة. وهذه الرؤية لإسرائيل قد احتلّت تصوّر ليس فقط عالم اليهودية، بل أيضاً تصوّر أصدقاء إسرائيل وحلفائها في جميع أنحاء العالم. ولكن المشكلة هي أنّ هذه الرؤية التي ميّزت إسرائيل عندما أنشئت في عام 1948 تختفي الآن بسرعة مذهلة. فإسرائيل اليوم معزولة عن الساحة الدولية أكثر من أي وقتٍ مضى وأصدقاؤها وحلفاؤها يتضاءلون وسط جهود متزايدة لنزع الشرعيّة عنها وتصاعد العداء للسامية في جميع أنحاء العالم. إنّ فكرة زعامة مبدعة وجريئة تشجّع على التنوع حتى بين أفراد المجتمع اليهودي في إسرائيل قد أصبحت اليوم وللأسف فكرةً مثيرةً للضحك. فبدلاً من دعم القيم الديمقراطية في تشكيل مستقبلٍ زاهر لجميع مواطنيهم، يميل القادة الإسرائيليون أكثر لتشجيع تمرير قوانين وتشريعات مشحونة إيديولوجيّاً مثل القانون المضاد للمقاطعة الذي تمّ تمريره حديثاً والتشريع موضوع البحث فيما يتعلّق باستقصاء موارد تمويل المنظمات الغير حكومية المنحازة لليسار. إبّان ذلك، وبالرّغم من الانتقادات المتكررة الموجهة لرئيس الوزراء من أكثر ما يزيد عن دستة (12) من رؤساء سابقين لوكالة الاستخبارات الشين بيت والموساد، فقد فشل نتنياهو في التّقدم بمبادرة سلام ملزمة. لقد بقي وشركاء تحالفه عنيدين ومنغلقين بصفة فظيعة.

     ونتيجة لذلك يشعر العديد من الإسرائيليين بأنهم في مصيدة أو حبس. هم في قفص في بلدٍ صغير يزداد انعزالاً عن العالم، محاطين بأعداء وتقودهم زعامة مهتمة بتعزيز إيديولوجيات مهترئة ومشوّهة أكثر من ضمان مستقبلٍ آمن ومزدهر لمواطنيها. قد تكون الأحوال الاقتصادية اليوم مزدهرة، غير أنّ المستقبل يبدو مجهولاً وحتّى كئيبا ً . فلا غرابة إذن أن يريد الكثير من الإسرائيليين الخروج من البلد. فالإحصائيات في هذا المجال كثيرة  ومقلقة. البعض يقدّر بأن عدد الإسرائيليين اللذين يعيشون في الخارج يقارب المليون شخص. وقد بيّنت دراسة أجراها معهد مناحيم بيغن للتراث في عام 2008 بأنّ أكثر من (30%) من الإسرائيليين قد تقدّموا بطلبات للحصول على جواز سفر ثانٍ أو عازمين على فعل ذلك، بل أن البعض الآخر قد قدّر هذا العدد بِ (60%). وقد أظهرت دراسة أجرتها في عام 2007 كلية تل هاي الأكاديمية بأنّ حوالي نصف الشباب اللذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 – 18 سنة يريدون أن يعيشوا في مكانٍ آخر غير إسرائيل وأنّ (68%) يقدّر ظروف إسرائيل بِ "غير جيدة". (78%) من الإسرائيليين عبّروا في الآونة الأخيرة عن رغبتهم في أن تصبح إسرائيل جزءاً من الاتحاد الأوروبي ويقول (11%) منهم بأنّهم سيرحلوا فوراً في حالة منحهم جنسيّة أوروبية. ويتمتّع حتّى الآن ما يزيد عن 100.000 إسرائيلي بالجنسية الألمانية، هذا ويُمنح 7000 مواطن إسرائيلي كلّ عام جوازات سفر جديدة. وما يقلق أكثر في الوقت الحاضر هو أنّ الإحصائيات الحالية تؤكد على نفس الاتجاه، وما هو أسوأ في الواقع هو معرفة من يغادر أو يرغب في مغادرة إسرائيل. لقد كتب الباحثان يوسف شامي وباري ميركن مؤخراً في مجلة "فورن بوليسي" بأنّ "المهاجرين الإسرائيليين يعتبرون علمانيين وليبراليين وعالميين بصورة تفوق النسب العادية ". إنّ لدى نصف المهاجرين الإسرائيليين تقريباً درجة جامعية أي ضعف نسبة معدل الإسرائيليين المقيمين في إسرائيل. وقد زادت إبّان ذلك نسبة ما يسمّى السكان "الهريديين" في إسرائيل – وهم الفئة التي تعتمد بدرجة عالية على المساعدات الحكومية – أكثر من ثلاثة أضعاف من حيث العدد في غضون عشرين عاماً فقط.

     أجل، هذه وصفة لكارثة اقتصادية وضمور ديمقراطي، والإسرائيليون العلمانيون بوجه خاص يعلمون ذلك. ولو وحّدنا هذه العوامل مع حالة الصراع الحالي المتواصل ومع نزوع  حكومة نتنياهو لتصعيد التوترات مع جيران إسرائيل بدلاً من نزع فتيلها، يصبح حينئذٍ من المفهوم تماماً سبب عدم تحمّل الإسرائيليين المعتدلين والمثقفين الاستمرار في تربية أطفالهم في مثل هذه الدولة. وفي حين كانت قوات الدفاع الإسرائيلي تخدم كرمز وطني للتضامن والدفاع عن الوطن اليهودي من الإرهابيين والدول المعادية التي تسعى لدمار إسرائيل، أصبح يُنظر إليها اليوم بصورة متزايدة بقلق على أنّها قوات احتلال. وفي الوقت الحاضر أصبحت نسبة من ينضم للخدمة العسكرية من الإسرائيليين المثقفين والعلمانيين أقلّ بكثير من ذي قبل. ولم يعد يخدم في الجيش الآن سوى حوالي نصف الإسرائيليين اللذين هم في عمر الخدمة العسكرية، فقد بيّنت دراسة أجراها في عام 2010 أستاذ في جامعة تل أبيب، السيد كميل فوكس، بأنّ (59%) من الشباب الإسرائيلي لا يريدون الخدمة في وحدات قتالية.

     تظهر إحصائيات وزارة الدفاع الإسرائيلي بأنّ نسبة (30%) من المجنّدين سيكونون في عام 2015 من فئة "الهاريديين" وهم المتدينون اللذين يعتمدون بدرجة كبيرة على الإعانات الحكومية، هذا بالرّغم من أنّ (15%) ممّن هم في عمر التجنيد العسكري يستلمون تنازلاً عن الخدمة العسكرية، وهذه شهادة للنمو الجوهري للمجتمع المتديّن في إسرائيل. لقد كشفت دراسة أجرتها مجلة معاراخوث العسكرية العام الماضي بأنّ نسبة الضباط المتدينين العاملين في الوحدات القتالية لم تتجاوز في عام 1990 نسبة (2.5%) والآن وصلت هذه النسبة إلى الثلث تقريباً بعد عشرين عاماً.

     المؤسسة التي كانت تضمّ من الناحية التاريخية جميع أطراف المجتمع الإسرائيلي في وحدة متماسكة وتحظى بإعجاب معظم المواطنين ومكانتها فوق النزاعات السياسية كانت المؤسسة العسكرية دون غيرها. ولكن من المحزن أنه يُنظر إليها اليوم من قِبل العالم الخارجي ومن عدد متزايد من الإسرائيليين على أنّها أداة للقمع وتدمير النسيج المعنوي للمجتمع الإسرائيلي.

     ويتنبّا العديد من الإسرائيليين اللذين يواكبون هذه الاتجاهات وبحق بالمصير التالي لدولتهم: مواجهة تحديات اقتصادية جسيمة بسبب هجرة الأدمغة وارتفاع رهيب في عدد العائلات المتدينة التي تتلقى مساعدات حكومية مع ازدياد مستمرّ للنفقات العسكرية لحراسة المستوطنين والإبقاء في نفس الوقت على حالة الاستعداد العسكري. والصورة من الناحية السياسية قاتمة أيضاً: فمستقبل إسرائيل يبدو متوجهاً في اضطراد نحو الجناح اليميني المتطرّف مع انخفاض في القيم الديمقراطية وزيادة عزلة البلد على الساحة الدولية.

     فماذا يفعل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حيال ذلك؟ فبالرّغم من أن هذا الاتجاه  الخطير قد بدأ أثناء فترات حكم أسلافه، غير أنّه يجعل الوضع أكثر سوءاً بصورة جوهرية. فهو من ناحية يطالب بأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية في حين يصبّ من الناحية الأخرى الزيت على النار المتمثلة بهجرة الإسرائيليين العلمانيين والمثقفين من البلد وذلك بدعم سياسات اليمين المتصلب إيديولوجياً ودينيّاً. ونتيجة لذلك، فهو يقوّض فعليّاً المستقبل اليهودي لدولة إسرائيل بدلاً من حمايته. ومن حيث النتيجة، فمطالبته بأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية ليس إلاّ حيلة يستخدمها لتبريرسياساته المفلسة التي تعرّض للخطر مستقبل البلاد كملجأ مضمون وآمن لجميع الشعب اليهودي. وبالفعل، لا يمكن الحفاظ على الهوية القومية اليهودية للدولة بمجرّد اعتراف فلسطيني بها، بل فقط من خلال أغلبيّة يهودية ثابتة. فبدلاً من خلق رؤية لمستقبل إسرائيل تُحارب من خلالها الاتجاهات الخاطئة والمقلقة التي ذكرت آنفاً، فإن نتنياهو يصعّد من مفاقمتها . ونتيجة لذلك فإن اليأس يدبّ في نفوس مواطنيه بسبب الصراع المستمر وهم يبحثون عن أية فرصة ممكنة للهروب من هذا الوضع، هذا في حين يستغل نتنياهو مخاوف إسرائيل الأمنية المشروعة للدّفع بإيديولوجية الاستحواذ على الأراضي في الضفة الغربية التي تقوّض بدورها إمكانيّات أمن إسرائيل القومي بدلاً من تعزيزها.

     تعزّز سياسات نتنياهو نتيجة لذلك فكرة دولة إسرائيل العصرية "كغيتو". لم تعد إسرائيل بعد الآن تلعب دور الملجأ الوحيد الآمن للشعب اليهودي. يسعى الإسرائيليون اليوم بعد كلّ ذلك وللأسباب المذكورة أعلاه بصورة تدعو للسخرية  للعودة إلى ألمانيا وغيرها من البلدان الحرة. بالطبع كانت فكرة الملجأ حجة رائدة من حيث الحاجة لدولة يهودية، دولة تكون "منارة للأمم" وتشجّع ديمقراطية نابضة بالحياة يتمتّع بها جميع مواطنيها. اليوم أصبحت فكرة الدولة اليهودية وللأسف الشديد ليس الانضمام أو الشمول، بل بالأحرى الإبعاد والإستثناء  . أكثر من نصف الإسرائيليين اليهود اللذين تمّ استطلاع آراءهم من قبل "معهد إسرائيل للديمقراطية" العام الماضي قالوا بأن على الحكومة تشجيع العرب الإسرائيليين على الهجرة ونسبة أكثر من ذلك قالت حتّى على الأحياء العربية أن تتقاضى موارد مالية أقلّ من الأحياء اليهودية. لم تعد الدولة اليهودية موضوع مستقبل مضمون زاهر وآمن للشعب اليهودي يعيش في دولة ديمقراطية متنوعة، فقد ولّت فكرة إسرائيل كدولة تتمتّع بروح قيادية رائدة وديمقراطية.

     ولكن على أية حال يجب ألاّ تستسلم إسرائيل لهذا المصير، فما زال بمقدور قيادة جديدة أن تغيّر اتجاه البلد. لقد نزعت الحكومة الحالية عن نفسها المصداقية  كديمقراطية شاملة. ومن غير المحتمل أن يقوم نتنياهو بتغيير مسار سياسته والشروع بجهود للخوض في مستقبل إسرائيلي يعتمد على ديمقراطية نابضة وواعية ومستغلاً الفرص الاقتصادية التي قد تنشأ عن معاهدات سلام حقيقية ودائمة مع جيران إسرائيل. فبدلاً من فتح بوابات "الغيتو" الجديد الذي آلت إليه إسرائيل، يغلق نتنياهو وحكومته هذه البوابات. وفي ظلّ هذه القيادة المضلّلة تصبح إسرائيل دولة عسكريّة تقفل نفسها داخل تطرّف ديني وعقائدي وعزلة دولية ومستقبل يسيطر عليه صراع دائم أبدي.

     قد تستطيع إسرائيل إستخدام روح المنطقة المتطورة لخلق رؤية وصفها الرئيس شمعون بيرس بِ "شرق أوسط جديد". وبمقدور هذه السياسات أن تقدم هذا النوع من المستقبل الذي يسعى إليه المهاجرون الإسرائيليون الذي يتمكنون من خلاله توسيع آفاقهم والسعي وراء فرصٍ غير محدودة عبر جميع أنحاء المنطقة، هذا في الوقت الذي يرسون فيه مرساتهم في إسرائيل بدلاً من تركها وراءهم.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE