هل ما زالت مبادرة السلام العربية قابلة للح
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
لقد قال وزير خارجية إسرائيل السابق أبا إيبان في عام 1973 كلمته المشهورة: "لا يترك العرب أبداً فرصةً في تفويت فرصة." واليوم ينطبق هذا القول على أية حال على الإسرائيليين أكثر منه على الفلسطينيين. يبدو أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبالأخص الحالية، تعتقد بأنّ تبديد الفرص عمداً لتحقيق السلام يعزّز نوعاً ما موقفها وذلك بالإبقاء على الوضع الراهن وإجبار الفلسطينيين على تسوية النزاع أخيراً بثمنٍ أقل بكثير مما يطالبون به. وقد يطول الجدل حول من هو المُلام على الإخفاقات العديدة لجهود التفاوض السلمية الماضية ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن من الواضح أنّ إسرائيل تفوّت الآن فرصة تاريخية للاستفادة، على الأقلّ من حيث المبدأ، من مضمون مبادرة السلام العربية التي تعرض عليها علاقات طبيعية كاملة مع العالم العربي بأكمله مقابل المناطق التي احتلت في عام 1967 وحلّ لدولتين يتم التفاوض عليه. ويجب بالأخصّ في هذه الفترة في منتصف زوبعة مستقبلٍ مجهول وخضم عاصفة التغيير في المنطقة أن يتم التّقدم بمبادرة السلام العربية إلى الأمام كسندٍ قوي وثمين لتحويل علاقات إسرائيل مع جيرانها الفلسطينيين ودول الشرق الأوسط.
لقد دخلت إسرائيل في مفاوضات جادّة مع الفلسطينين والسوريين في عامي 2000 و2008 . ورغم كلّ الظروف فقد تمّ التوصل في هذه المفاوضات لتقدّم كبير، الأمر الذي كان يبشّر بقوة بأنّ كلا الجانبين كانا على وشك توقيع اتفاقية سلام بينهما. ويلوم الإسرائيليون والفلسطينيون كلّ منهما الطرف الآخر لفشل هذه المفاوضات أخيراً. فقد بيّنت "المستندات الفلسطينية" التي نشرتها قناة الجزيرة المسافة التي كان ينوي الفلسطينيون اجتيازها
-2-
للتوصل إلى اتفاقية. وتأكيداً على ذلك، فقد صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت بأنّ المفاوضات التي أجراها مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس كانت "أقرب من أي وقت مضى لإتمام إتفاقية على أسس كانت قد تؤدي إلى نهاية الصراع بيننا وبين الفلسطينيين." ولكن الحكومة الإسرائيلية رفضت الكشف عن مدى التقدم الذي تمّ إحرازه في تلك المفاوضات حاجبةً بذلك عن المجتمع الدولي معرفة المدى الذي كانت إسرائيل راغبةً في الذهاب إليه ولم تحدّد بذلك الفاصل لاستئناف المفاوضات فيه من حيث فُضّت. وقيام نتنياهو بوضع الّلوم مضاعفةً على عاتق الفلسطينيين هو أمر ليس صحيحاً وليس عادلاً في نفس الوقت. لقد اعتمد كلّ عنصر من المفاوضات التي أجريت حتى الآن ما بين إسرائيل وخصومها، الفلسطينيين والسوريين، على أساس مبادرة السلام العربية. هذا ويجب أن تستند أيضاً أية مفاوضات سلام مستقبلاً على أسس هذه المبادرة لأنّها تقدّم الإطار الحيوي الوحيد لسلامٍ شامل لم تصل إليه أية خطة سلام أخرى في الماضي حتى الآن.
لقد وضعت الدول العربية لأوّل مرّة في تاريخها مبادرة سلام لديها القدرة على إحداث تغيير ثوري في العلاقات العربية – الإسرائيلية.هذه المبادرة التي وضعت لأول مرّة في عام 2002 ثمّ أعيد تأكيدها في عام 2007 تمثّل بحد ذاتها رفضا ً تاريخيا ًللّاءات الثلاثة المشهورة التي صدرت عن مؤتمر القمة العربية المنعقد في الخرطوم في عام 1967 والتي أعلنت من خلاله الجامعة العربية: "لا اعتراف، لا تفاوض ولا سلام مع إسرائيل." وقيام الدول العربية وبالإجماع بوضع صيغة هذه المبادرة يُعتبر حدث غير مسبوق من حيث المدى والتبعيات. ومهما كان الإعتراض على بعض النصوص اللغوية من طرف الإسرائيليين وبالأخصّ فيما يتعلّق بقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم (194) الغير ملزم والذي يؤكّد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم الأصليّة، فقد قدّمت مبادرة السلام العربية العديد من القواسم المشتركة العامة والمركزية لكلا الطرفين العربي والإسرائيلي مثل: الأمن، التطبيع والسلام الذي بإمكان كلّ أطراف الصراع العامّة السعي من أجله، وبالأخصّ إسرائيل، وترجمته إلى تحركات ملموسة تجاه اتفاقية دائمة.
-3-
وخلافاً لرأي الكثير من الإسرائيليين الذين ينتقدون المبادرة، فإن المبادرة لم تقدّم للإسرائيليين على أساس إمّا أخذها ككلّ أو تركها. ولكن حتّى لو كان الأمر كذلك، كان على إسرائيل أن تركّز على العناصر الإيجابية من المبادرة. كان بمقدورها أن تعبّر عن تحفظاتها وعن رغباتها أيضاً في الدخول في مفاوضات طالما أنّ المباحثات قد تؤدي لحلّ دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلامٍ وأمان. وهنا كان على إسرائيل – وما زال بمقدورها الآن – أن تركّز على المبادىء الأساسية التي تدعم التّقدم بمبادرة السلام العربية إلى الأمام والتي تعتبر ليس فقط مقبولة لإسرائيل بل وتمثّل دعائم تاريخية للتقدم بالسّلام. وتشمل هذه المبادىء قبول العرب بفكرة السلام الشامل الذي يعترف بوجود دولة إسرائيل وقضاياها الأمنية المشروعة. ولكن بتجاهلها مبادرة السلام العربية كلياً بيّنت إسرائيل جوهرياً بأنها غير مهتمّة لا بالسلام ولا بتطبيع العلاقات مع العالم العربي الذي صوّر إسرائيل وما يزال بأنّها عائق للسلام. وبذلك فقد أعطت إسرائيل الفرصة والحجج لنزع الشرعية عنها، وتزيد في نفس الوقت بصورة جوهرية من التعاطف الدولي تجاه الفلسطينيين.
لقد وضع رفض مبادرة السلام العربية كأساس للمفاوضات إسرائيل في خطوة دفاعية متقدمة. أضف إلى ذلك، فإنّ إخفاق إسرائيل حتّى الآن في تقديم صياغة معقولة ومقبولة كبديل للمبادرة للتوصل لسلام قد زاد من عزلتها عن المجتمع الدولي. إنّ عدد الدول التي تُشير لإسرائيل بإصبع الاتهام في ازدياد مستمر، ملقين عليها اللوم للتوتر الإقليمي المتنامي في المنطقة وكسبب لعدم الاستقرار الذي يقوّض المصالح الاستراتيجية القومية لأقرب حلفاء إسرائيل، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. هذا هو الأساس الذي انطلق منه مئير داغان، رئيس المخابرات الإسرائيلية "الموساد" الذي أخلى حديثاً منصبه والذي أحدث ضجة هائلة في إسرائيل عندما قال في منتصف الشهر الماضي أمام جمهورٍ بجامعة تل أبيب: "علينا تبنّي المبادرة السعودية. ليس أمامنا طريق آخر وليس لأن الفلسطينيين يمثلون صدارة أولوياتي بل لأنني قلق حول رخاء إسرائيل ولأنني أريد أن أعمل ما بوسعي لضمان وجود إسرائيل. فإذا لم نقدّم اقتراحات بديلة وإذا لم نتبنى المبادرة سنجد أنفسنا في نهاية المطاف في الزاوية." لا حاجة لنا أن نذكر بأن لا أحد يتوقّع أن تقوم إسرائيل بإرضاء
-4-
المجتمع الدولي على حساب أمنها القومي، غير أنّ مبادرة السلام العربية تقدّم الأساس لحلّ لا يتوقعه حتّى معظم الإسرائيليين في الحلم. وعلمت ومن خلال مباحثاتي مع مسئولين عرب كبار بأنّه لا تتوقع أية دولة عربية أن تقوم إسرائيل ببساطة بقبول المبادرة بمعناها الإسمي أو الظاهري، ولا هم بشروط ثقيلة لأنهم أرادوا أن ترفضها إسرائيل. يستمر السعوديون في اهتمامهم الحقيقي بالسلام مع إسرائيل لعلمهم جيداً بأنّ إسرائيل خلقت هنا لتبقى. أضف إلى ذلك، فإن العدو اللدود للسعوديين هي إيران وليس إسرائيل ولن يغيّر شيء طبيعة هذه العلاقات بسبب التنافس المتأصل بين الدولتين، إن لم يكن العداء الحقيقي ما بين إيران الشيعية والمملكة العربية السنيّة. وبالفعل تنظر المملكة العربية السعودية لإسرائيل كشريك لها في معركتها ضد إيران ولذا فهناك إلحاح أكبر للتقدم بالمبادرة العربية للسلام أكثر من أي وقت مضى، وبالأخصّ بالنسبة للملكة العربية السعودية. وحيث أنّ الربيع العربي قد أطلق العنان لتيّار جارف من الثورات الديمقراطية عبر جميع أرجاء الشرق الأوسط، فالمملكة العربية السعودية بنظامها اللاديمقراطي مضطرة أن تبيّن بأنّ ما زال بإمكانها لعب دورٍ قيادي في الشرق الأوسط العربي، وبالأخصّ مقارنةً بمنافسيها في طهران.
إلى جانب ملاحظات مئير داغان الأخيرة (الرئيس السابق للموساد)، هناك ما يقارب سبعون موظفاً إسرائيلياً من المستوى الرفيع ممّن عملوا سابقاً في مجالات الدفاع والاستخبارات ومن الأكاديميين وصنّاع القرار قد عبّروا عن مساندتهم لمبادرة السلام السعودية من خلال جهد مشترك أطلقوا عليه عنوان "مبادرة إسرائيل للسّلام". ويصف هذا التّجمع مبادرة السلام العربية "كمجهود تاريخي قامت به الدول العربية للتوصل إلى اختراق وتحقيق تقدم على أساس إقليمي." وتؤكد على إحساسٍ مشترك يكمن قي المبادرة العربية وهو أنّ "حل عسكري للصراع لن يحقق السلام أو يوفر الأمن للطرفين." ولذا حان الوقت للحكومة الإسرائيلية أو أكبر حزب إسرائيلي معارض وهو حزب "كاديما" أن يذكر ذلك في بلاغ رسمي وأن يناضل من أجله على أية جبهة سياسية. وعلى المجتمع الدولي تشجيعهم على فعل ذلك. لقد أحرزت الرباعية الدولية تقدماً في خارطة الطريق، غير أنّها لم تحتضن رسمياً مبادرة السلام العربية، هذا بالرّغم من أنّ كل بند في خارطة الطريق متوافق مع
-5-
المبادرة العربية. أضف إلى ذلك، ففي خطابه الأخير حول "الربيع العربي" والصراع الإسرائلي – الفلسطيني تبنى الرئيس باراك أوباما موقفاً متماشياً تمتماً مع مبادرة السلام
العربية، غير أنّه وللأسف أخفق في احتضان روح مبادرة السلام العربية بصورة رسمية أو حتى ذكرها. ولذا فإن هذه المبادرة الواعدة التي وهنت على مدى ما يقرب (10) سنوات تبقى مهجورة على الرف يهدّدها خطر الاضمحلال.
يقول بعض المحلّلين بأن الوقت الحالي المضطرب الذي يسود المنطقة والذي يخلق ظرفاً غير مسبوقاً من التشكك والخوف من المستقبل المجهول ليس الوقت الصحيح للسعي وراء مبادرة السلام العربية. وأنا أعارضهم في ذلك القول كلياً. إن إنهيار الأنظمة الحالية يدعو الآن أكثر من أي وقت مضى لاختراقٍ جذري. قد تتمكن إسرائيل – بإعطاء إشارة لاستعدادها بإشراك الدول العربية في مفاوضات تعتمد على أساس المبادرة العربية للسلام – من إحباط خطط الفلسطينيين للسعي من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة للإعتراف بدولتهم. حان الوقت لحلّ هذا النزاع المزمن بحيث تتمكن دول الشرق الأوسط من الاستجابة لمطالب شعوبها التي تحتجّ في الشوارع بدلاً من استخدام الصراع العربي – الإسرائيلي لصرف النظر عن الفساد والإخفاقات المحلية كما فعل طغاة المنطقة الذين أطيح بهم على مدى عقود طويلة. زد على ذلك، ليس هناك مطلقاً وقتاً معيّناً أو محدوداً لصنع سلامٍ مع الأعداء، لكن هناك فرص للسلام تأتي مع الأزمات. سيعمّق استمرار الوضع الراهن فقط من الشكوك
الراسخة بين الإسرائيليين أنفسهم وكذلك من مخاوف الفلسطينيين.وسيصبح مع الوقت حلّ هذا النزاع أمراً مستعصياً.
ليس هناك وقت أفضل من الآن، وليس هناك قاعدة للإنطلاق منها أفضل من مبادرة السلام العربية. عدم القيام بشيء اليوم لا يعرّض فقط مبادرة السلام العربية لخطر إضافتها لقائمة الفرص المفوّتة، بل أيضاً إلى تجديد سفك الدماء وتعميق الصراع ونكسة أخرى للجماهير الغفيرة التي تتوق للعيش بسلامٍ وأمنٍ في المنطقة.
_______________________________________________________