إسرائيل وحماس في صحوة صفقة تبادل الأسرى
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
إنّ عملية تبادل الأسرى التي أطلقت من خلالها حماس سراح الجندي الإسرائيلي المخطوف جلعاد شاليط مقابل إطلاق سراح 1.000 أسير فلسطيني و27 أسيرة فلسطينية من السجون الإسرائيلية تدل بأن إسرائيل وحماس تعترفان بحقيقة وجود وامتيازات بعضهما البعض الكاملة. كان أحد حوافز الصفقة بدون شك الحسابات السياسية ذات المنفعة المتبادلة على كلا الجانبين، بما في ذلك الرغبة في إلقاء الظلال على جهود الرئيس الفلسطيني محمود عباس في سعيه لاعتراف الأمم المتحدة بدولةٍ فلسطينية وهو سعي ترفضه حماس وإسرائيل. وبالرغم من ذلك، فبدون نبذ صريح للإرهاب والاعتراف بأنه لا يمكن تدمير إسرائيل، فإنّ نمو حماس كقوة سياسية سيبقى محدوداً ومهدّداً بالفشل. وبالمقابل، بدون اعتراف إسرائيل بأن الأمن الدائم غير محتمل إلاّ إذا تمّ إدخال حماس في العملية السياسية، والجهود للتقدم بحلّ الدولتين كذلك ستبقى غير مثمرة.
إنّ التأثير المتزايد لمصر وتركيا على حماس، إضافةً إلى الربيع العربي ومبادرة السلام العربية تقدّم جميعها سبلاً لجسر الهوّات بين إسرائيل وحماس. وللقيام بذلك، على الرباعية الدولية إعادة النظر في مطالباتها الثلاث لحماس وهي: نبذ العنف، القبول بوجود إسرائيل والموافقة على الاتفاقيات السابقة، حيث أنّ هذه المطالبات ستبقي الجانبين غارزين في وضعٍ ٍ راهنٍ خطير. والتغلّب على هذه العقبات يتطلب تفكيراً جديداً لإيجاد صيغة تمكن كلّ جانب من الحفاظ على ماء وجهه بتغيير مواقفهما للتقدم إلى الأمام تجاه عملية سياسية.
إنّ مفاوضات إسرائيل – حتى لو كانت بوساطة مصرية – هي المؤشر العلني الأوّل بأنّ إسرائيل تدرك عجزها عن إنهاء حماس عسكرياً، فإسرائيل لم تستطع إنقاذ شاليط من خلال عملية عسكرية رغم اجتياحها المدمّر لقطاع غزة في شتاء 2008/2009. وبالنسبة لحماس، فقد خرجت أكثر جرأة وقوة من ذي قبل نتيجة صفقة تبادل الأسرى، فقد أظهر استطلاع أجرته جامعة النجاح في نابلس بعد الإعلان مباشرةً عن صفقة تبادل الأسرى بأن 67% من الفلسطينيين يعتقدون بأن "الصفقة ستزيد من تأييد الفلسطينيين لحماس".
لقد تقوّت حماس أيضاً بفضل عمليات العودة إلى مباحثات الوحدة الفلسطينية التي دخلتها قبل عدة أشهر ثم توقفت ثم عادت إليها ثانية وهكذا…. دون أن تتخلّى عن أي من مواقفها المعلنة في معارضة السلام مع إسرائيل. لقد أخبر زعيم حماس، خالد مشعل، في الماضي بعض مراسلي الصحف بأنه قد يكون راغباً في قبول حلّ الدولتين على طول حدود عام 1967 ولكن دون العمل على أساسه للوصول إلى حلّ للصراع. إبان ذلك شوّه أعضاء حماس الجهود الدولية للحصول على دولة فلسطينية في الأمم المتحدة وبقوا معارضين بشدة لوجود إسرائيل.
هذه المواقف المتقلبة بما في ذلك اتفاقيات وقف إطلاق النار المفروضة بصورة عامة ذاتياً من قبل حماس نفسها خلال فترة الثلاثة أعوام الماضية قد مكّنت حماس من خوض دوائر دولية مع إعطاء الشعور باحتمالية أن تصبح شريكاً للسلام حتى بدون تبني موقف واضح وموحّد أو التخفيف من حدة تطرّفها "كحركة مقاومة" ضد إسرائيل. هذا الوضع يجبر إسرائيل على صرف مبالغ لا تتناسب مع وضعها الاقتصادي لأغراض الدفاع والإبقاء على حالة من الاستعداد مهما كلّف الثمن ماديّاً وبشرياّ.
قد يصل صعود حماس إلى ذروةٍ جديدة، فاستناداً إلى استطلاع جامعة النجاح يعتقد 77% من الفلسطينيين بأنّ الظروف العربية والدولية المحيطة تتطلّب ضرورة إبرام اتفاقية مصالحة وطنية بين حماس وفتح. وقامت نسبة مماثلة من الفلسطينيين بتأييد الطلب الفلسطيني للحصول على اعترافٍ بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. ولكن مع وصف رئيس وزراء حماس، إسماعيل هنية، المسعى الفلسطيني للأمم المتحدة على أنه "سراب" قد تُلام حماس بالفعل لفشل هذا الطلب وكذلك لفشل مباحثات المصالحة. أضف إلى ذلك، وحيث أنّ 57% من الشعب الفلسطيني يتوقع انتفاضة ثالثة، فإن نفس النسبة أيضاً تعارض استعمال العنف، وهنا قد يُقوَّض كيان حماس السياسي إذا ما أصبحت مُلامةً على جولة جديدة من العنف قد تعيد بصورة جذرية القضية الفلسطينية إلى الوراء. لقد أصبح وضع حماس أكثر صعوبة نتيجة الثورة في سوريا التي دفعت نصيرها بشار الأسد إلى قتالٍ عنيف للإبقاء على نظامه.
من المهم جداً أن تعلم حماس بأنّ نموها يعتمد على مفهومين أو إدراكين. الأول أنّ حماس لا تستطيع تحت أية ظروف كانت أن تدمّر إسرائيل، فحماس تعلم أنه في حالة دخولها ثانية حملة إرهاب جديدة ضد إسرائيل وتهديدها إسرائيل بشكلٍ جاد، فإن إسرائيل لن تتوانى في الرد عليها باغتيال قيادتها، بصرف النظر عن الاستنكار الدولي الذي قد يتبع ذلك.
المفهوم أو الإدراك الثاني هو أنّ حماس تعلم أنّه لا يمكن تدميرها. وبالرّغم من أنّ التأييد الشعبي لحماس قد انخفض بصورة متواصلة في السنوات الأخيرة، غير أنها تبقى منظمة شعبية قوية. وبغض النظر أكان من خلال حكومة وحدة وطنية أو انتخابات حرّة ونزيهة ستبقى حماس وإيديولوجية المقاومة قوّة فعالة في الجسم السياسي الفلسطيني. والسؤال الذي يواجه حماس اليوم هو كيفية التوفيق ما بين هاتين الحقيقتين المتضاربتين أي: بقاء الحركة من جهة ولكن عدم القدرة أبداً على تنفيذ هدفها النهائي وهو تدمير إسرائيل من الناحية الأخرى.
ويواجه إسرائيل سؤال مماثل بخصوص حماس. ففي حين أن الحكومات الإسرائيلية السابقة والحالية تدرك بأن بإمكانها مسح قيادة حماس من الوجود، غير أنها لا تستطيع تدمير إيديولوجيتها. وطالما بقيت حماس خارج العملية السياسية بإمكانها إفساد أية جهود إسرائيلية للتقدّم بالمفاوضات مع منافستها فتح. لقد نجحت إسرائيل بفضل قوة الرّدع المعتبرة لديها في احتواء نشاط حماس العسكري، بما في ذلك الهجمات الصاروخية، ولكنها ما زالت على الأقل جزئياً مقيّدة أو مرتبكة بسبب الانتقادات الدولية الناتجة عن حصارها لقطاع غزة والذي بدوره خدم تقوية موقف حماس على الساحة الدولية.
إن المأزق السياسي الذي يسيطر على كلا الجانبين يصلّد الوضع الراهن. وفي نفس الوقت، لا إسرائيل ولا حماس مستعدّة للإعتراف بهذه الحقيقة علناً وتعديل سياساتهما طبقاً لذلك. يحاول كلّ طرف منهما تجنب الغرق بالحفاظ على هذه المواقف المتضاربة. والمطلوب هنا طريقة تحفظ ماء وجه كلّ منهما للخروج من هذا المأزق. لن يجلب الوضع الراهن السلام أو الأمن. فإذا أرادت إسرائيل السلام مع الفلسطينيين على أساس حلّ الدولتين، لن تستطيع بكل بساطة ترك غزة خارج المعادلة. وإذا تمّ التوصل إبان ذلك لحكومة وحدة وطنية – والمباحثات بهذا الخصوص جارية بين فتح وحماس – فإن البعض في المجتمع الدولي يفكر بسحب المساعدة عن الفلسطينيين معلّلين ذلك بأن حماس لم تستوفِ شروط الرباعية الدولية الثلاثة.
على إسرائيل وحماس تبني استراتيجية جديدة لخلق صيغة تحفظ ماء الوجه وتمكّن كلاّ من الطرفين من تعديل مواقفه. إذن، ما العمل؟
أولاً، وكما تشهد على ذلك صفقة تبادل الأسرى. قد يخدم تأثير مصر المتنامي في شئون وحسابات حماس الداخلية تخفيف الأعمال العدائية المباشرة ما بين حماس وإسرائيل. ولإسرائيل مصلحة استراتيجية للحفاظ على روابطها مع السلطات المصرية، وبالأخص في المؤسسة العسكرية. ولحماس، بالنظر لمستقبل بشار الأسد المجهول، مصالح هامة في الحفاظ على روابط قوية ومتينة مع جيرانها المصريين. وبالإمكان توسيع دور مصر ليشمل قضايا تتعلق بالمسائل الأمنية والإقتصادية على طول الحدود غزة – إسرائيل ومصر – غزة، وكذلك على طول ساحل غزة.
ثانياً، في الوقت الذي عمّقت فيه مصر علاقاتها مع حماس أصبحت علاقاتها مع إسرائيل موضع الشك بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك. وفي الوقت الذي تدهورت فيه أيضاً علاقات تركيا مع إسرائيل تقوّت فيه روابط تركيا مع حماس. قد تستطيع إسرائيل إرسال إشارة لتركيا لتلعب دور الوساطة بينها وبين حماس حيث اعترف الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس بأن تركيا لعبت هذا الدور في صفقة تبادل الأسرى، الأمر الذي يدعم العملية الجارية لتحسين العلاقات بين البلدين. فتركيا كانت لاعباً صامتاً ولكن لاعباً رئيسياً في عملية إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط ووافقت على قبول عددٍ من الأسرى الفلسطينيين المحرّرين في تركيا كمنفى لهم. ومساعدة تركيا في دعم إسرائيل وحماس للوصول إلى ترتيبات أمنية واقتصادية وسياسيّة ثابتة سيشكل عاملاً أساسياً في البدء بعملية إصلاح الروابط بين القدس وأنقرة.
ثالثاً، لقد أجبر الربيع العربي إسرائيل للإصغاء لمطالب الشارع الفلسطيني. ليس من المرجّح أن يبقى الفلسطينيون في غزة وفي الضفة الغربية صامتين في منطقة تمر في تحوّل تاريخي لم يسبق له مثيل. لن يبقَ الشارع الفلسطيني خارج هذه الموجة الثورية المطالبة بالحرية والانعتاق والتي ستجتاح على ما يبدو جميع أرجاء الشرق الأوسط. وإنه لمن مصلحة إسرائيل الإستراتيجية والأمنية – ومن مصلحة حماس السياسية – أن تبقى احتجاجات الفلسطينيين سلمية.
ورابعاً، قد تمكّن مبادرة السلام العربية الساكنة منذ وقتٍ طويل حماس لتليين موقفها تجاه العملية السلمية مع إسرائيل باصطفافها إلى جانب الموقف المعلن لجميع الدول العربية. وبالمقابل، على المجتمع الإسرائيلي – بالرّغم من اعتراضات حكومة نتنياهو – أن يتشجّع لقبول مركزية مبادرة السلام العربية التي تعتبر من حيث المبدأ أمراً لا غنى عنه كأساس لاستئناف المفاوضات مع الدول العربية وإطاراً للمباحثات. وعلى مصر لقربها ولموقعها المركزي في الشئون العربية والمصالح الأمنية وكذلك على المملكة العربية السعودية لكونها حارسة الإسلام السنّي أن تضغطا على حماس لنبذ العنف وقبول مبادىء مبادرة السلام العربية.
وأخيراً، على الرباعية الدولية إعادة النظر في صيغتها المتعلقة بإشراك حماس في العملية السياسية، وبالأخصّ فيما يتعلق بالإعتراف بإسرائيل وقبول الاتفاقيات السابقة المبرمة معها. هناك أعضاء في مجلس الوزراء الإسرائيلي اللذين لا ينبذون العنف ولكنهم يعترفون بحق وجود فلسطين أو قبول الاتفاقيات السابقة التي تمّ التفاوض حولها. وطلب ذلك من حماس هو بكل بساطة حيلة لتجنب ما لا مفرّ منه، وهو التفاوض معها. فبدلاً من الشروط الغير واقعية، على الرباعية أن تعلن جهاراً شرطاً واحداً وواضحاً يقبله المجتمع الدولي وهو: على حماس نبذ العنف بكلّ أشكاله، وهو شرط قبلت به حماس في الواقع. وتحدي حماس للإرتقاء إلى مستوى الحدث قد يحثّ نوع التغير الضروري لكسر الجمود الذي يسيطر حالياً على عملية السلام في الشرق الأوسط.
منذ حرب غزة وإسرائيل وحماس تلعبان لعبة شطرنج. كلّ منهما يحرز مكاسب هامشية ويخسر قطعاً مهمة في علاقاته مع الطرف الآخر. وهما الآن في مأزق، في طريق ٍ مسدودة ولا يستطيع أي من اللاعبين إيصال الآخر إلى خطوة تميت الشاه، غير أنه بإمكان مصر وتركيا بمساعدة الرباعية الدولية مساعدة الطرفين على إيجاد قاسم مشترك بينهما والإستفادة من زخم الربيع العربي ووعود مبادرة السلام العربية. والآن هو وقت القيام بمجهودات متناسقة لإحداث تغيير في اللعبة، وبدون ذلك قد تتجه المنطقة نحو انفجار ٍ خطير وعنيف.