حتمية للعيش معا
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
إنّ التعايش السلمي ما بين إسرائيل والفلسطينيين أمرٌ لا مفر منه وقد كُتب على الشعبين، وهما الآن على شفة تطورات كارثية، أن يتعايشا مع بعضهما البعض في منطقة محصورة ما بين المتوسط ونهر الأردن. عليهما الآن أن يفكرا بنوعيّة هذا التعايش. هل يريدان أن يعيشا بكراهية متبادلة وخوفٍ – وفي نفس الوقت "شيطنة" بعضهما البعض- أو أنهما يريدان أن يعيشا بسلامٍ وأمان وأن يدركا بأنّ النبوءة التوراتية التي تقول بأن الأرض التي يتقاسمانها هي الأرض التي تدرّ لبناً وعسلاً ؟. لن يكون هناك أي سلامٍ دائم ما لم يفهم ويقدّر كلّ من الجانبين مخاوف الطرف الآخر وآماله وأحلامه والقضايا التي تهمّه بالدرجة الأولى. ولن يتغلبا على نظرات كلّ منهما الهدامة للطرف الآخر إلاّ عن طريق الاتصالات الاجتماعية المباشرة والحوار المتبادل من شعبٍ لشعب.
إن فهم الفلسطينيين للإسرائيليين بأنهم شعب متسلّط وغير مكترث ومصمّم على رفض واستنكار حقوقهم الأساسية هو أمرٌ راسخ من خلال تجاربهم اليومية. فهم يرون بأن استمرار الاحتلال وإغلاق الطرق وأساليب الإذلال واغتصاب أرضهم تزيد من تقليص أية طموحات أو آمال لهم في التعايش السلمي. يُنظر للإسرائيليين على أنهم عدوّ يجب إضمار الكراهية والحقد له ولذا عليهم كفلسطينيين مقاومته وتقويضه. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة – كما يرون – لم تعرض عليهم أي مبرّر لتغيير فكرتهم أو عقليتهم عن الإسرائيليين أو أي دافع ليأملوا مستقبلاً أفضل. ومع وجود رأي عام إسرائيلي راض ٍ عما يحدث، فأيّ أمل هذا للفلسطينيين العاديين في تغيير نظرتهم لإسرائيل عن أنّها دولة محتلة قامعة مستمرّة في التحصّن قي أرضهم؟ ولكن ماذا فعل الفلسطينيون للتواصل مع جيرانهم الإسرائيليين ومحاولة فهم وتقدير همومهم الشخصية وأفكارهم التي تستمرّ في تغذيتهم بشعور الريبة والخوف وعدم الأمان.
وبالمقابل، شعور الإسرائيليين نحو الفلسطينيين ليس بأفضل. إنهم ينظرون إليهم كشعب عنيف، لا يرحم ولا يريد التسوية بأي ثمن أقلّ من تدمير إسرائيل بالكامل، وبالأخص عندما يُظهر مثل هذا الشعور بالحقد والكراهيّة مجموعات فلسطينية متطرفة مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهم. تجارب الإسرائيليين معهم لا تعطيهم أي مبرر للوثوق بالفلسطينيين. إنهم ينظرون للفلسطينيين نظرة استخفاف واحتقار كشعبٍ متخلف مرتبط بعادات وتقاليد تمنعهم من الارتقاء لمدنيين يستحقون مصيراً أفضل. هذا ولم يقدّر الإسرائيليون تماماً في جميع الأحوال بصورة فعلية نكبات الشعب الفلسطيني وقمعه وإهاناته اليومية وكيف أنّ هذه المشاعر تترسّخ وتزداد في كلّ يوم يصحو فيه كل فلسطيني في الأراضي المحتلة ليعيش حياة كلّها قمع وإذلال على أرضه.
فإذا كان التعايش السلمي محتوماً يصبح تغيير أفكار ومفاهيم كلّ طرف عن الآخرأمرا ً لا بدّ منه. إنّ الحاجة لسماع قصص وخبرات وتجارب حياة الطرف الآخر وخلق اتصالات إنسانية بينهما هي أمور لا يُستغنى عنها لخلق علاقات طبيعية. من شأن فقط اللقاءات اليومية المتواصلة بين الطرفين في شتى المجالات المختلفة أن تبيّن الطابع الإنساني الذي يتحلّى به كلّ من الطرفين. فالاستماع إلى وجهات النظر المختلفة وفهم كل طرف آلام ونزاع الطرف الآخر وتقدير ما يمرّ به هذا الطرف ستسمح بتغيير النظرة للطرف الآخر. وبالفعل، فالشعور الإنفعالي لأي من الطرفين وبحق حول قضية ما لا يمنع احترامه قضية الطرف الآخر. على كلا الجانبين أن يعملا بسلامٍ لتخفيف خلافاتهما، فحتمية تعايشهما السلمي تتطلّب ذلك. ما يجسر الفجوة بينهما ليس من الضروري أن تكون اتفاقية شاملة، بل على الأقل تبادل الاحترام. وبالفعل، لا يحتاج المرء إلى تغيير هويته أو تراثه الحضاري أو ديانته لكي يعيش بسلام ما دام هناك قبول واحترام متبادل. وإدراك أن الطرف الآخر هو مجرد إنسان عادي بمشاعره وآماله وطموحاته يخلق هذا الارتباط الإنساني الذي يحتاج إليه الطرفان بصورة باعثة لليأس.
لقد فشلت الحكومات الإسرائيلية والسلطات الفلسطينية المتعاقبة خلال مدة الثلاثة والستين عاماً الماضية في دفع عملية السلام إلى الأمام. لقد كانوا منشغلين في تجريم بعضهم البعض بدلاً من مواجهة ما لا بدّ منه وشق طريق إلى الأمام لإنهاء الصراع المزمن الذي سمّم حتّى الآن ثلاثة أجيال من الإسرائيليين والفلسطينيين. إنهم مستمرون في تشككهم لنوايا بعضهم البعض الشريرة ، فالفسطينيون يتهمون إسرائيل بأنّ لديها تصميماً قوياً على احتلال جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن بصورة دائمة ويتهم الإسرائيليون الفلسطينيين بالتآمر على تدمير إسرائيل على مراحل.
وبغض النظر عن المناورات السياسية الحالية وعواقبها، على الجيل القادم من الإسرائيليين والفلسطينيين أن يحرّروا أنفسهم من هذه الأحكام المسبّقة والإجحافات الراسخة التي يغذيها الصراع المستمرّ بينهما. عليهم الآن البدء في بناء روابط لمنع رجوع دورة العنف من جديد. كيف يمكن بناء الثقة غير ذلك وإلى أية نهاية يمكن الإستمرار في محاربة هؤلاء الناس اللذين حُتّم العيش معهم إلى الأبد ؟ أجل، يجب الإطاحة بالجدران المنظورة والغير منظورة بين الشعبين، ولكن الأمر يحتاج إلى شعبٍ مصمّم على كلا الجانبين للقيام بذلك. تقع على كلا الجانبين المسئولية لترك الماضي جانباً ولديهما القدرة على القيام بذلك، فالشعب هو الوحيد القادر على صياغة وتشكيل الحاضر لخلق المستقبل الذي يريده. ولن يكون هناك خيار آخر لحكوماتهم التي خذلتهم مراراً وتكراراً بزرع الخوف المتبادل في نفوسهم سوى الإستجابة لدعوتهم. يجب أن يكون السلام والصلح أولاً العقيدة الراسخة في قلوب وعقول الشعب لأنهما يأتيان فقط من الشعب. يجب أن تنهض الشعوب وتطالب بالتغيير. الشعوب فقط هي القادرة على إنهاء التجرّد من الإنسانيّة والتجريم المتبادل والفهم الخاطىء المزمن بينهما.
إنّ ما مضى من إجراءات وحقبات ظالمة ومآسي إنسانية وخسائر بشرية لا يمكن تسويتها بأعمال ثأر جديدة – التي لن تؤدي بدورها سوى لاستمرار دائرة العنف - بل بالحوار وفهم وتقدير مشاعر الطرف الآخر الباطنية ومخاوفه وقضاياه الحساسة. للدكتور عزالدين – الطبيب الفلسطيني الذي فقد بناته الثلاثة في قصفٍ إسرائيلي على غزة – كلّ سبب ليشعر بالغضب والحقد والكراهية تجاه كل إسرائيلي والبحث عن الثأر، ولكنه رفض ذلك
بقوله: "توقّع مني أناس كثيرون أن أحقد، ولكن جوابي لهم: لن أحقد، فدعونا نترجّى المستقبل!" كذلك فعل إسحاق فرانكنثال، وهو أب إسرائيلى خطفت حماس ابنه، شاب في عمر الورود، ابن 19 ربيعاً، ثم قتلته. لم يبحث هذا الرجل أيضاً عن ثأر بل أسّس بدلاً من ذلك ما يسمّى "دائرة الأهالي" وهي منظمة من أهالي إسرائيليين وفلسطينيين فقدوا أعزاءً لهم في هذا الصراع الدامي الذي لا معنى له. قال:"لقد أدركت تدريجياً بأنّ الأمل الوحيد للتقدّم – أي لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني - هو إدراك وجه الصراع". هذا ويجب إنشاء المزيد من هذه المنظمات والتجمعات أمثال واحة السلام، نيفي شالوم، يختار فيها إسرئيليون وفلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية العيش طواعية جنباً إلى جنب وتبقى نيفي شالوم المكان الوحيد الذي يعيش فيه أطفال الجانبين ويترعرعون معاً ويرسخون علاقة يشيّد على أساسها مستقبل جديد.
يجب على الفلسطينيين والإسرائيليين أن يتعلموا التغلب على عقودٍ من الخوف المتبادل وعدم الثقة وأن يبحثوا معاً على آفاقٍ جديدة. عليهم تحدي الظروف الحالية التي تعمّق الإبتعاد والنفور والشروع في التواصل فيما بينهم اجتماعياً وعلنياً. من السّخف واللامعقول أن يتمكّن اليهود الإسرائيليون من التحرك في أي مكان ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن في حين تحرم الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين من نفس الامتيازات هذه. يجب على كلّ إسرائيلي يريد العيش بسلام أن يطالب بإلغاء هذا القانون العنصري التمييزي الذي يمنع الفلسطينيين من دخول إسرائيل. فبالرغم من قضايا ومخاوف إسرائيل الأمنية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، بإمكان مئات الألوف من الفلسطينيين وبسهولة استلام تصاريح – بعد الكشف عليهم أمنياً – لزيارة إسرائيل والإختلاط مع "العدو" ليدركوا فقط بأنّهم إسرائيليون عاديون، ليس أعداء ً لهم بل أناس بسطاء يتوقون للعيش بسلام. ونفس الشيء يجب أن يطبّق أيضا ً على الإسرائيليين الذين يفترض أن يأتوا بمجموعات ٍ كبيرة إلى الضفة الغربية على النحو الذي اعتادوا عليه قبل الانتفاضة الثانية والتواصل ثانية مع الشعب الفلسطيني الذي كُتب عليهم التعايش معه بسلام. لقد قال يوماً جين كنورسن هوفمان وهو من نشطاء السلام:"العدو شخص لم تسمع قصته بعد!". فإذا لم يأخذ الإسرائيليون زمام أمورهم بأنفسهم، من سيفعل ذلك؟ من سينهي هذا الوضع المزري الذي لا يأتي منه شيئاً سوى تغذية المزيد من الكراهية والازدراء؟
لقد حان الوقت للشعب على كلا الجانبين أن يطيح بالسياجات والأسوار المخزية ويطالب بنهاية هذا الجنون الفظيع. بإمكان الشعبين فقط، الإسرائيلي والفلسطيني على حدّ سواء، الشروع في التوفيق ما بين روايتهما الوطنية واحتضان حتمية التعايش السلمي لبناء مستقبل يبشّر بالخير والسلام لكلّ منهما.