مصيــر إسرائيـــــــــــــــــل
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــــــــــر أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية. رسالة مفتوحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة، السيد ايهود أولمرت ستقررّ في أقلّ من شهر الانتخابات في إسرائيل أي حزب سيفوز بأغلبية نسبية في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست). أعتقد بأن حزب "كاديما" ( إلى الإمام) تحت قيادتك سيفوز بالانتخابات وستصبح رئيسا للوزراء. والحاجة تدعو الآن أكثر من أي وقت مضى في تاريخ إسرائيل إلى قيادة تتحلى بالشجاعة والجرأة وبعد النظر لتحرير شعبك من قيود الاحتلال وقيادة إسرائيل إلى مصيرها المأمول. سيكون فوز "كاديما" انعكاسا لرغبة شعبك في فك الارتباط عن الفلسطينيين والعيش بسلام معهم. وهذا هو الهدف الذي تأسّس من أجله حزب "كاديما" في المقام الأول. سيتعارض أي ضمّ جوهري لمناطق فلسطينية مع المبدأ الأساسي لفك الارتباط عنهم وسيؤدي إلى تفويت إسرائيل لفرصة تاريخية أخرى لإنهاء وصمة عار الاحتلال. لقد كان احتلال الأراضي الفلسطينية خلال هذه الفترة الطويلة خطأ فادحا. وتفاقم الخطأ وعظم بالسير وراء سياسة الاستيطان المضلّلة والربط الذي لا أساس له إلى حد بعيد ما بين الأمن الوطني الإسرائيلي والمستوطنات. دولة رئيس الوزراء ! لقد كنت على حق تماما في اعتقادك بأن الفلسطينيين كانوا دائما ألدّ أعداء أنفسهم وذلك بإفلات فرص عديدة لاستعادة جميع أراضيهم المحتلة وإقامة دولتهم الخاصة بهم. وبإمكانك الآن وبسهولة أن تقول بأن سلطة فلسطينية بقيادة حماس التي تهدف إلى القضاء على إسرائيل لا تترك لك أي بديل آخر سوى أن تقلّص، إن لم تكن تنهي، أية تنازلات إقليمية أخرى بعد الانسحاب من غزة. لم يكن فكّ الارتباط سوى أحادي الجانب من طرف إسرائيل وهي سياسة أراد رئيس الوزراء شارون السير بها قدما بتعاون أو بدون تعاون الفلسطينيين. وهذا ما يجب أن تكون عليه سياستك في الوقت الحاضر! أجل، يجب إنهاء الاحتلال ليس فقط لان الاحتلال قد أصبح عبئا كبيرا على إسرائيل من جميع النواحي بحيث لم يعد تحمله أو الإبقاء عليه ليس فقط لأسباب ديموغرافية – كما سبق وقلت أنت ذلك مرارا وتكرارا – بل وأيضا لأسباب أخلاقية وإنسانية ولدوافع الأمن الوطني الإسرائيلي. أرجو، دولة رئيس الوزراء، أن تسمح لي وإياك بإلقاء نظرة تاريخية قصيرة على المنطقة: لقد كان الفلسطينيون خلال فترة ال 500 سنة الماضية تحت حكم عدد من الشعوب هم بالترتيب: العثمانيون، الانجليز، الأردنيون والمصريون، وأخيرا الإسرائيليون. لم يعرف الشعب الفلسطيني حتى الآن يوما واحدا بدون احتلال أجنبي. وحيث أن الفلسطينيين قد عانوا كشعب ما يفوق نصيبهم من البؤس والشقاء واليأس ولم يسبقهم شعب على مر التاريخ في ذلك، لا أحد يجبرهم على القبول بأكثر من ذلك. لا كرامة في احتلال ولا شرف في الخضوع له ولا أمل لمستقبل أفضل في ظله. الاحتلال في أحسن الظروف أمر لا يطاق، وعلى الفلسطينيين كشعب محتل واجب مقاومته ونبذه وتحدي محتليهم بكل الوسائل المتاحة لهم. الشباب الفلسطيني يغلي من الغيظ والقهر وهم لا يتصوّرون كيف وصلت بهم هذه الأمور إلى هذا الحد. لماذا عليهم الاستمرار في تحمل معاملة الاحتلال المهينة ؟ فهل من العجب بعد ذلك إذا أن يحل الحقد محلّ المودة، والارتياب والتشكك محل التعاون والأخذ بالثأر محل العقلانية والتعصب الأعمى محل الواقعيــة ؟ إسرائيل لم تخلق لتحكم شعوبا أخرى ضد إرادتها ! بل عكس ذلك، فلقد قامت إسرائيل لتكون ملاذا لشعب يهودي تبعثر وتناثر في الفترة ما بعد المحرقة ("الهولوكوست"). لقد تأسست الدولة الجديدة، دولة إسرائيل، لتكون وطنا يعود إليه اليهود من جميع أنحاء العالم بعد ألفي سنة من التشرد والمذابح والطرد الجماعي ومحاولات الإبادة لشعب بأكمله، وذلك ليتمكن الشعب اليهودي في هذا الوطن من أن يكون مضيافا للغير ونورا تستضيء به في الظلمة الأمم التي تكافح من أجل حريتها. أجل، هذا كان الأمل والرجاء من قيام دولة إسرائيل. أما الحقيقة الآن فهي أن الاحتلال يخلق سلوكيات إسرائيلية جديدة بعيدة عن جوهر الشعب اليهودي، مثل الشك والارتياب والسخرية والانهماك في الشئون الذاتية. ترى الجنود الإسرائيليين الآن، وهم من تدربوا للدفاع عن وطنهم ضد عدو من الخارج، يتراكضون باسم الأمن الوطني الإسرائيلي لمحاربة الأطفال الفلسطينيين في الشوارع ونسف منازل أهالي لا حول لهم ولا قوة أمام أعين أطفالهم. ترى أحياء سكنية بأكملها تجبر على الخضوع لعمليات التفتيش والاعتقال المهينة، ناهيك عن فرض القيود اليومية على حركة الناس والبضائع. لا شكّ أن لإسرائيل مخاوفها الأمنية المشروعة، خصوصا في ظل صعود المجموعات الفلسطينية المسلحة التي لا تقبل حق إسرائيل حتى في الوجود. ولكن وبعد حوالي أربعين سنة من الاحتلال لم يتحسن الوضع الأمني لإسرائيل ببناء المستوطنات، بل بالعكس أصبح محفوفا أكثر بالمخاطر. لقد تم تخصيص عشرات الآلاف من الجنود في الخدمة النظامية لحماية المستوطنين وتشغيل المنشآت العسكرية اللازمة لذلك، وهذا كله بتكاليف باهظة ! لقد أصبحت المستوطنات – التي كان الغرض منها أصلا تحصين الإسرائيليين في الضفة الغربية وتعزيز أمنهم – عبئا ثقيلا على كاهل الدولة وعوائق أمنية بدلا من أن تكون قواعد أمنية. وتمثل أغلبية المستوطنات ليس فقط احتلالا ماديا ملموسا للأرض، بل تجسّد أيضا احتلالا نفسيا وانغلاقا ذهنيا يحول دون القيام بأي حوار مفيد ومفتوح حول أية قضايا أخرى. لقد فقدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بانشغالها المفرط بسياسة الاستيطان كل نظرة وإحساس لمغزى وجود الأمة. ومهما تكن نظرتنا للوضع، ستبقى المستوطنات ومسألة حسم أمرها أو التخلص منها القضية المركزية لأي حوار إسرائيلي – فلسطيني. أي شيء آخر، بما في ذلك العنف والإرهاب، لا يمثل إلا دالة للنزاع على الأرض وتعقيداته النفسية العميقة. ودعني أكون واضحا تماما معك، دولة رئيس الوزراء: لن يكون هناك أي أمل لنجاح أي حوار مع الفلسطينيين حول أي موضوع له علاقة بالاتفاقيات المستقبلية ما لم يكن مقترنا بتخلّ واضح لا لبس فيه عن سياسة الاستيطان التي سيطرت على جميع المفاوضات السابقة وكانت سببا في فشلها. ستكون دعوة قيادتكم الجريئة وبعيدة النظر للجمهور الإسرائيلي لفتح أعينه على حماقة سياسة الاستيطان الباهظة التكلفة. وبالرغم من أن السور من وجهة النظر الأمنية قد أثبت فائدته في تقليص عدد حوادث العنف، خصوصا العمليات الانتحارية الموجهة داخل إسرائيل، غير أن وجوده في الواقع اعتراف مأساوي بالفشل. يجب النظر إلى السور كإجراء وقائي مؤقت، ويجب بناؤه بقدر الإمكان على خط حدود عام 1967 ليكون فعلا ذو فائدة بدلا من أن يتحوّل إلى مصدر لاحتكاكات جديدة. يجب ألا يزحف السور باسم الأمن على أراض فلسطينية عندما لا تكون هناك حقيقة مخاوف أو اعتبارات أمنية كما قررت المحكمة الإسرائيلية العليا في حكمين لها. غير أن العامل الحساس الذي أحدثه بناء السور على أرض الواقع هو المعاناة الشديدة للأحياء والتجمعات السكانية الفلسطينية القريبة منه أو المتأثرة به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بحيث أصبح من المستحيل على هؤلاء السكان تصريف أمور حياتهم اليومية العادية. أنا متأكد، دولة رئيس الوزراء، أنك تدرك بأن أمن إسرائيل في النهاية لا يعتمد على السور بل على السلام. ما دامت إسرائيل قوة محتلة، لا تستطيع أن تستشهد بالدافع الأخلاقي السامي في الدفاع عن نفسها ودحر التهديدات مستقبلا، أكان ذلك بوجود السور أو بدونه. ليس احتلال الأرض ما سيجلب لمواطني دولة إسرائيل في النهاية الأمن المنشود، بل تمسك هذه الدولة بالدرجة الأولى بالمثل الأخلاقية. إن السياسات التي تعتمد على افتراض أن الفلسطينيين لن يقبلوا في منتهى الأمر بالضفة الغربية وقطاع غزة وأنه لن يهدأ لهم بال إلا بمحو إسرائيل قد تحولت إلى خداع لا بل إلى هزيمة الذات. لقد قامت هذه السياسات بتربية عقلية "حصار وطني" وأصبحت لعبة في أيدي جماعات اليمين المتطرف القصير النظر واللذين لا يحلو لهم سوى رؤية المنطقة في صراع رهيب مستمر بعواقبه المدمرة المجردة من السمات الإنسانية. أجل، لقد أفسد الاحتلال حساسيات الإسرائيليين وقضى على إحساس التناسب لديهم وعلى أحكامهم الأخلاقية وقوّض إحساسهم بأنهم أصحاب رسالة سماوية عليا. لا يمكن لخلاص شعب إسرائيل أن يتوافق مع الاحتلال ومع إخضاع أغلبية السكان الفلسطينيين لظروف وأوضاع تنكر عليهم أية تطلعات للحصول على الحرية والكرامة. وإسرائيل – في النهاية – هي التعبير السياسي للحق القديم لجميع اليهود في العودة إلى وطنهم. وكون الفلسطينيون قد "احتلوا" جزءا لا بأس به من نفس الأرض لا يبطل حق أي من الشعبين في الأرض. يستطيع الفلسطينيون واليهود أن يعيشوا في وطنهم، غير أن التاريخ والواقع قد قررا أن لا حق لأي منهما الاستحواذ على كل الأرض. هؤلاء الإسرائيليون اللذين ما زالوا يحلمون بإسرائيل الكبرى مثل زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو وأتباعه المضللون ويطوقون في سبيل ذلك جزءا كبيرا من الضفة الغربية يدفنون أحلامهم في رمال منطقة متنازع عليها. لقد فشلوا في استيعاب أن الفلسطينيين يطالبون أيضا بنفس الأرض، ومطالبتهم – كمطالبة الإسرائيليين – لها ما يبررها من جذور في دينهم وحضارتهم وتاريخهم. وهذه راسخة حتى العظم لدى كل رجل وامرأة وطفل. والأرض، مثخنة بالجراح العميقة التي سببتها لها أجيال الإسرائيليين والفلسطينيين وشعوب من قام على ظهرانيها على ممر التاريخ، تصرخ :" أريـــد حــلا !". ماذا لو تمكنت الحجارة "الصامتة" في المقامات المقدسة، اليهودية والإسلامية، في القدس من التكلــم ؟؟ ماذا ستقول لك يا دولة رئيس الوزراء، وما عساها أيضا أن تقول لنا ؟ أعتقد بأن الحجارة ستتساءل لماذا تستمر شعوبها في المعاناة ما دام هناك فرصة لتخفيف هذه المعاناة، إن لم يكن وضع نهاية لها !! فإذا كان قدرك قيادة شعب إسرائيل، عليك أن تدرك بأن هذا القدر يحتّم عليك إنهاء الاحتلال، لأنه حينها فقط ستحيى إسرائيل في ظل الوعد التوراتي. وبعد أن تصبح بالفعل حرة من جميع القيود، سيضيء نورها على أمم أخرى.