التحريض الفلسطيني ضد إسرائيل
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
لا شيء يضرّ بقضية الفلسطينيين أكثر من استمرارهم بتحريض ونشر الكراهية ضد إسرائيل، وبالأخصّ بين الشبيبة
إنّ قيام السلطة الفلسطينية بتبني وسائل اللاعنف للدّفع بالقضية الفلسطينية إلى الأمام لهو أمرٌ يستحق الإعجاب ويمثّل أكبر استراتيجية واعدة لإحداث تغيير إيجابي. ولكن لكي تخدم حركة اللاعنف الهدف المرجو منها في الدفع بالعملية السلمية إلى الأمام،يجب أن تكون هذه الحركة متلازمة مع روايات شعبية مساندة للاستراتيجية ولواقع إسرائيل في آن واحد. والتحريض المستمر ضد إسرائيل الناشيء من المؤسسات الفلسطينية الخاصة ووسائل الإعلام والمدارس ومخيمات اللاجئين يحبط استراتيجية اللاعنف ويقوي بدلاً من ذلك أصوات المتطرفين على كلا جانبي الخط الأخضر. فبدلاً من أن ُيدفع بالإستقلال الفلسطيني إلى الأمام، يساهم هذا النقد اللاذع في تثبيت وتوطيد الاحتلال الإسرائيلي باسم الأمن. لقد حان الوقت للفلسطينين أن يدركوا هذه الحقيقة لأن استمرارهم في الهجمات اللفظية والكتابية التي تؤيد استعمال العنف وتخلّد الأقاويل السياسية المتطرفة تضرّ بقضيتهم ويجب إيقافها.
لقد تمّ التركيز من جديد في الآونة الأخيرة على قضية التحريض الفلسطيني وذلك مع عودة العنف الغير مُميّزالذي يساعد على خلق التحريض. فبعد القتل المروّع لأربعة أشخاص من عائلة فوجل أشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للتحريض الفلسطيني على أنه السبب الجذري. وبناءً عليه أرسل (27) سيناتورأمريكي خطاباً لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يذكرون فيه "بأن على السلطة الفلسطينية اتخاذ خطوات واضحة لا لبس فيها لاستنكار الحادث وإيقاف السماح بالتحريض الذي يؤدي إلى مثل هذه الجرائم…. تثقيف الناس نحو السلام أمر مهم جداً لتهيئة الظروف لسلامٍ آمن ٍ ودائم". وسترسل صورة من هذه الرسالة في الحال إلى الرئيس أوباما. والنواب على حقّ.
لقد أدان رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض والرئيس محمود عباس جريمة قتل عائلة فوجل والهجوم الإرهابي اللاحق على محطة حافلات في القدس. ولقد عمل الإثنان أيضاً على تفكيك أكبر قدر ممكن من بنية حماس التحتية في الضفة الغربية التي عملت على نطاق ٍ واسع على نشر خطابات وأفكار عنيفة ضد إسرائيل. وحتى أكثر من ذلك، فقد قامت السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة ببناء جهاز أمن خفّض بصورة جذرية من عدد العمليات الإرهابية وأدّى إلى مجالٍ أوسع لحرية الفلسطينيين وتبعاً لذلك إلى نمو اقتصادي أفضل. وقد كسبت إبان ذلك خطة سلام فياض لبناء أسس الدولة الفلسطينية أبعاد تاريخية من التعاطف الدولي والتأييد للإستقلال الفلسطيني.
أما تسمية الشوارع والميادين ومرافق أخرى للبنية التحتية العامّة بأسماء انتحاريين والجهات المنظمة لهم وتقديم المساعدات المالية لعائلات "الشهداء" اللذين قتلوا خلال التخطيط أو القيام بنشاطات إرهابيّة وتكريمهم أو حتى تمجيدهم في المناسبات العامة ووصف الإسرائيليين في البرامج التلفازية كقتلة بدون رحمة، كلّ هذا يهدد بإخراج عملية الإستقلال الفلسطيني عن مسارها. أن تشاهد هذا النوع من التحريض في غزة التي تصرّح فيها حماس علناً عن رغبتها في تدمير إسرائيل شيء، وأن تشاهده في الضفة الغربية التي تنادي فيها السلطة الفلسطينية بحلّ الدولتين جنباً إلى جنب مع إسرائيل هو شيء آخر مختلف تماماً. أضف إلى ذلك، فإن إسرائيل غير مقتنعة تماماً بأن السلطة الفلسطينية قد تنصّلت كلّياً من العنف كما بيّنت ذلك حديثاً وثائق ويكيليكس التي كشفت على أنّ قوات الأمن الفلسطينية المدعومة من الولايات المتحدة كانت متردّدة في جمع الأسلحة من عناصر كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح والقبض عليهم، علماً بأنّ أولئك قد نفذوا عمليات إرهابية عديدة ضد الإسرائيليين.
ويدرك العديد من مسئولي السلطة الفلسطينية الكبار صعوبة وخطورة المشكلة في آنٍ واحد. ولكن بدلاً من معالجتها فهم غالباً ما يشيرون إلى عمليات إسرائيلية تقوّض صوت المعتدلين لصالح المتطرفين ويقولون بأنّ هذه العمليات تجعل من الصعب جداً من الناحية السياسية معارضة أو مقاومة التصريحات الحاقدة ضد المحتلّ وقد ُيتّهمون بالعمالة لإسرائيل. ونظراً لأن السلطة الفلسطينية بصورة خاصة الآن في مباحثات وحدة مع حماس، فإن المسئولين مترددون في الضغط على التحريض والظهور بأنهم " ليّنون" مع إسرائيل. وللتأكيد، فإن البناء الاستيطاني الإسرائيلي في مناطق متنازع عليها والحملات الليلية المستمرة التي تقوم بها قوّات الدفاع الإسرائيلي في الضفة الغربية تضيف فعلاً وقوداً على نار التحريض. يجب خلق بيئة مساعدة على إحلال السلام أولاً إذا كان المطلوب التوصل إلى حلّ دائم لدولتين. وحتى أكثر من ذلك، ما يبدو من الناحية السياسية غير ملائم سيبرهن في النهاية على أنه عكس ذلك تماماً. فخلق جوّ يشجّع على صنع السلام بدلاً من التحريض سيؤدي إلى تأييد ودعم أكبر من المجتمع الدولي وإلى ضغوطات أكبر على إسرائيل للقيام بتنازلات. والسلام قبل كلّ شيء يجب أن يبدأ من أساسه. فالرسالة التي تدخل اليوم بيوت العديد من الفلسطينيين والإسرائيليين هي الصراع الدائم بين الطرفين مسوّقة بإيديولوجية المتطرفين في مخيمات اللاجئين من ناحية والمستوطنين الراديكاليين من الناحية الأخرى. ومعالجة هذه المشاكل تحتاج لقيادة نحن اليوم بحاجة ماسّة لها.
يعتبر إبّان ذلك الضرر النفسي المسبّب من تطرّف المواقف الوطنية لكلا الجانبين ضرراً عظيماً. فالفلسطينيون ينجبون الآن الجيل الرابع من الأطفال اللذين لا يعرفون شيئاً سوى الاحتلال البغيض والصراع العنيف المستمرّ. والجيل ما قبله مسمّم بتمجيد ضالّ للعنف "والمقاومة " المسلحة. وتقع المسئولية الآن على عاتق السلطة الفلسطينية والمعلمين الفلسطينيين والأهالي وقادة المجتمع لضمان بأنّ الجيل القادم يركّز على قدرات مستقبله كشعب بدلاً من تصوير عدوّ بأنه شيطان، عدوّ لا يستطيع هزمه لا الآن ولا في المستقبل.
أضف إلى ذلك، وبالرّغم من أنّ الثقة بين الجانبين لا تستطيع لوحدها تقديم الأساس لأية اتفاقية سلام دائمة، غير أنّ التحريض يقوّض بناء الثقة نفسها. فبدون حدّ معيّن من الثقة لن يكون هناك مجال حتّى لقياس المخاطر، وبالأخصّ في قضايا الأمن القومي وصنع السلام. ومراجعة للأسباب التي تكمن خلف انهيارات المفاوضات الثنائية التي أجريت في العامين 2000 و 2008 تبيّن بأن عدم وجود الثقة كان سبباً رئيسياً جعل الجانب الإسرائيلي يعيد النظر في موقفه حيث أن الفجوة بين سرد التاريخ الشعبي الفلسطيني والتنازلات الإسرائيلية المطلوبة كانت بكل بساطة غير قابلة للجسر. وفي حين لدى السلطة الفلسطينية شكاوي ومظالم مشروعة ضد إسرائيل، بما في ذلك مطالبات أراضي، عليها بالرّغم من ذلك أن تعترف على الأقلّ لفظياً للشعب الفلسطيني بوجود دولة إسرائيل. لن يكون هناك قبولاً للواقع والتعايش السلمي مع إسرائيل، وبالأخصّ بين الشبيبة، ما دامت الحقيقة المركزية على أرض الواقع مرفوضة. وهذا بالضبط هو السبب الذي يفسّر مواجهة السلطة الفلسطينية لصعوبات ٍ كبيرة في القيام بتنازلات حيث أنّ التنازلات في عقلية العديد من الفلسطينيين غير ضرورية لكيان تعلّموا منذ الصغر بأنّ ليس لديه الشرعية في الوجود، أو ما هو حتى أسوأ من ذلك، ممكن هزيمته بالقوّة.
وأخيراً، ومع وجود السلطة الفلسطينية الآن في مباحثات مع حماس بخصوص الوحدة الفلسطينية، فإن موضوع التحريض يصبح حتى أكثر تأزماً وخطورة. فلكي تنجح حكومة وحدة وطنية بهدفها المعلن – وهو التّقدم بقضية الإستقلال الفلسطيني – يجب على حماس أيضاً أن تنهي استفزازاتها المسلحة المدمرة ذاتياً لها ضد إسرائيل وأن تنبذ العنف بشكل دائم وتضع حداً للتحريض بدلاً من السعي وراء هدنة أخرى. ستقدّم هذه الخطوة السياسية الأولى قفزة هائلة نحو دولة فلسطينية ذات سيادة، بما في ذلك الشروع في بناء الثقة، بين الإسرائيليين والفلسطينيين. عدا ذلك، وحتى باعتراف دولي بدولةٍ فلسطينية مستقلة بحدود عام 1967 – على النحو الذي قد تقرره الجمعية العمومية للأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) القادم – لن يغيّر هذا شيئاً يذكر على أرض الواقع لأن لإسرائيل كل الحقّ للدفاع عن قضاياها الأمنية الوطنية المشروعة.
ويعود أيضاً الكثير لضعف القيادة الفلسطينية والانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني، غير أن خطة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فيّاض قد بيّنت بأنّ السلطة الفلسطينية قادرة على جذب انتباه وتصوّر المجتمع الدولي لتأييد القضية الفلسطينية من خلال بناء مؤسّسات الدولة ونبذ العنف. ليس من مصلحة الفلسطينيين السماح بالتحريض لأنّ هذا سيعرّض طموحاتهم الوطنية للخطر وذلك بتقديمهم مبرّر واضح وشرعي لإسرائيل لكي تبقى متحفظة حول القيام بمفاوضات باتجاه إطار محتمل لحلّ الدولتين.
بمقدور السلطة الفلسطينية، لا بل عليها أن تبيّن بأنها مستعدة لبناء حكومة مسئولة وذلك بإنهاء التحريض بكل أشكاله. هذا سيترك تأثيراً ثابتاً وعميقاً على كلا المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي على حدّ سواء وذلك بما يخدم الدفع بالإستقلال الفلسطيني والإعتراف الإسرائيلي في نفس الوقت إلى الأمام.
__________________________________________________________