خيــار بوتيــــــــــــــــــــــن
لقد دارت العلاقة ما بين روسيا والغرب منذ نهاية الحرب الباردة حول عملية "إعادة صياغة علاقة" بشكل مستمرّ لا نهاية له، ويبدو أنّ هذه العمليّة لن تصل لمرامها ومحاولات القيام بذلك حتّى الآن أفشلها الشكّ المتبادل بين الطرفين وبالطبع المصلحة الشخصيّة.
لقد شهدت روسيا خلال العقد الأخير نموّا ً ملحوظا ً تحت حكم الرئيس ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين الذي قدّم نفسه كشخصيّة ثابتة توفّر للروس العاديين مستوى ً عال ٍ من المعيشة. ويستمرّ ابتلاء روسيا –على أية حال- بالمشاكل الداخليّة والخارجيّة، بما في ذلك: الفساد المتأصّل والمستوطن في البلاد، مؤسسة سياسيّة قصيرة النظر، ضعيفة التبصّر، بنية تحتيّة منهارة، تجارة محدودة خارج مجال النفط والغاز، سياسة خارجيّة غريبة الأطوار في الغالب وحرمان شرائح معيّنة من الشعب الروسي من ممارسة الحقوق المدنيّة والسياسيّة. وبالكيفيّة التي سيطأ بها بوتين الطريق الغدّارة التي أمامه سيتحدّد دور روسيا ونفوذها على الساحة الدوليّة على مدى السنوات القادمة.
وردّا ً على الإنتخابات التشريعيّة التي جرت في أواخر 2011 والتي شوّهتها العديد من الأحداث الشاذّة، فقد هدّدت سلسلة من المظاهرات الغير مسبوقة شرعيّة حكم بوتين وكذلك الدولة الأوليغاركيّة التي عانت تحت رقابته. كان ردّ الفعل الرّسمي على الإحتجاجات قاسيا ً كما كان متوقعا ً حيث أنّ طول عمر بوتين في الحكم كان موضوع فحص ٍ مكثّف من قبل المراقبين المحليين والأجانب. لقد أصبح بوتين الآن أكثر حزما ً في جهوده لترسيخ سلطته بعد نتيجة الإنتخابات المشبوهة. كان هناك أمل ضعيف للإصلاحات عندما استبدل بوتين معظم أعضاء وزارته التي "عبّأها" الآن بالموالين له ضامنا ً بذلك استمرار أسلوب حكمه الشبه ديكتاتوري عند بداية دورة حكمه الثالثة.
لم تقم أجهزة أمن بوتين بقمع ٍ شامل للإحتجاجات، بل سمحت ببعض ٍ منها أن يستمرّ بدون قيود نسبيّا ً، غير أنّه يوجد الآن إشارات لرقابة محتملة وعداء حكومي تجاه حريّة التعبير والحقوق الفرديّة المدنيّة والسياسيّة. ويناقش البرلمان حاليّا ً قانونا ً يرفع درجة العقوبات بصورة جذريّة ضد أولئك المتورّطين في احتجاجات غير مرخّصة في محاولة ٍ لوقف الزّخم الحالي للمظاهرات الغير تقليديّة (واللاعنفيّة) التي تسعى للإبقاء على مدّ الموجة العريضة من الإحتجاجات التي حدثت العام الماضي. وما هو واضح من الإحتجاجات وردّ فعل بوتين على ذلك هو حاجة روسيا "لإعادة ترتيب" علاقتها مع شعبها باحترام حقّه في حريّة التجمّع والتعبير والعمل على تشكيل نظام سياسي أكثر شموليّة وشفافيّة.
إضافة ً إلى الخلل السياسي فالمجتمع الروسي مبليّ بالفساد المتفشّي. فقد صنّفت منظمة "بيت الحريّة" (Freedom House ) روسيا ب "ليست حرّة" وموقع روسيا على قائمة منظمة الشفافيّة الدوليّة لإدراك الفساد (Transparency International’s Corruption Perception) في مرتبة متدنّية تدعو للشفقة. ليس للشعب خيار آخر سوى الإستسلام ولكن بعداءٍ عميق وخيبة شديدة من النظام الفاسد الذي يتحكّم بالعديد من نواحي حياتهم. لقد أفاد (70 %) من أصحاب الأعمال التجاريّة الصغيرة بأنهم يدفعون رشاوي و (17 %) فقط يعتقدون بأن النظام القضائي يعامل الجميع بالتساوي. وبالرغم من الثروة الهائلة التي نمت في البلاد، فإن وضع البنية التحتيّة الروسيّة يذكّر بصورة مخزية كيف يسلب الفساد الشعب الروسي حقوقهم وخيراتهم. وما لم يعالج الفساد المتفشّي بصورة جذريّة ملموسة ستبقى روسيا وراء القوى الدوليّة الأخرى في وضع ٍ هزيل بينما تلتجىء في أغلب الأحيان لاستعراض عضلاتها محليّا ً بدلا ً من الإنخراط في إصلاحات حقيقيّة وخلق مجتمع أكثر ديمقراطيّة ً وعدلا ً.
ومن الناحية الإقتصادية فقد حقّقت روسيا نجاحا ً ملحوظا ً في العقد الأخير، فقد ارتفع الناتج المحلّي الإجمالي بشكل ٍ مذهل وأصبحت الدولة قادرة ً على الإستفادة بشكل ٍ فعّال من ايراداتها المتزايدة الناتجة من تصدير النفط والغاز. وخلافا ً لعدم استقرار سنوات حكم يلتسين، فقد تمكّن بوتين من ركوب موجة من التنمية الإقتصاديّة القويّة وصقل صورة ٍ لزعيم قويّ يُحترم، أو على الأقلّ يتحمّله عامة الشعب. لقد فشل – تحت السطح – نجاح روسيا الإقتصادي المزعوم في الوصول إلى عامة الشعب. ففي انعطاف ٍ يدعو للسخرية كان لفقراء روسيا في التسعينات من القرن الماضي قوّة شرائيّة أكبر مما هي عليه الآن. وفي الوقت الذي انخفض فيه دخلهم الحقيقي، تضاعفت ثروة الشريحة الرقيقة جدّا ً من المجتمع الروسي التي تتبوّأ قمة الهرم. أضف إلى ذلك، اعتماد روسيا المفرط على نطاق ٍ ضيّق من الصادرات التي تشمل بشكل ٍ رئيسي النفط، الغاز الطبيعي، الكيماويات والعتاد العسكري لا يعوّل عليه على ضوء تقلبات أسواق النفط والغاز بشكل ٍ خاصّ. وبالنسبة لبلد ٍ يتمتّع باقتصاد ٍ نام ٍ، فإن أمكانيّة النموّ المستقبلي في روسيا لن تتحقّق إلاّ إذا تشعّب وتنوّع الإقتصاد الروسي وشرع بتنظيف ٍ منهجي لممارساته الإقتصاديّة الفاسدة بإعطاء أصحاب العمل الصغار فرصة عادلة في بيئة سليمة من النموّ الإقتصادي. وبالفعل، ليس هناك سببا ً يمنع روسيا من أن تصبح قوّة صناعيّة كبرى. فمن الممكن تخيّله تماما ً تدفّق البضائع التجاريّة التي تحمل علامة "صنع في روسيا" – التي تعتبر نادرة في أيامنا هذه - من المصانع الروسيّة للإستهلاك الغربي.
وكما أشرت سابقا ً، السياسة الخارجيّة الروسية كانت في أغلب الأحيان تهزم ذاتها وتذكّر بأساليب الحرب الباردة التي هجرها العالم في العلاقات الدوليّة. وأسلوب روسيا في إظهار عضلاتها في السياسة الخارجيّة نابع من المخزون الهائل للأسلحة النوويّة الذي يفوق كثيرا ً من الناحية العدديّة مخزون الولايات المتحدة ولو أنّه أقلّ منه تقنية ً بدرجة كبيرة، وكذلك ثرواتها من النفط والغاز الطبيعي التي تخضع أسعارها للعرض والطلب. وعدا ذلك، تتمتّع روسيا بمركز ٍ فريد في القضايا الدوليّة، فهي: عضو اللجنة الرباعيّة التي تتعامل مع الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وعضو في الفريق الدولي المكوّن من الخمسة أعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي + ألمانيا والذي يشار اليه برمز (P 5 + 1 ) الذي يتفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، وهي أيضا ً بالطبع عضو دائم في مجلس الأمن الدولي تتمتّع بحقّ النقض (الفيتو) وعضو في نادي أكبر الدول الصناعية الثمانية (G-8).
تمكّن هذه الميزات روسيا من ممارسة نفوذ دوبلماسي هائل على مسار العديد من الشئون الدوليّة. خذ مثلا ً موقفها من الصراع السوري الذي يضع موسكو في ضوء ٍ مزعج جدّا في أعين العالم العربي وعلى نقيض ٍ مع المجتمع الدولي. فبالرّغم أنّه من المفهوم أن تريد روسيا الحفاظ على نفوذها الإقليمي وتعزّز ذلك بالإبقاء على قاعدتها البحريّة في سوريا التي تعتبر آخر معقل ٍ لها في الشرق الأوسط من الحقبة السوفيتيّة، غير أنّه لا يوجد عذر لدعمها الأعمى للرئيس بشّار الأسد، الأمر الذي يجعل الكرملين شريكا ً في المجازر الجارية ضد الشعب السّوري. وبالفعل، معارضة روسيا الشديدة لإجبار الرئيس الأسد على التنحّي قد تؤدي بالفعل إلى حرب ٍ أهليّة يحاول الكرملين تجنبها. قد تحافظ روسيا على نفوذها في المنطقة بالعمل مع المعارضة السوريّة. ليس هناك أدنى شكّ بأنّ علاقات روسيا الخارجيّة المعاصرة تعتمد على منهج ٍ غير ثابت وغير مدعوم، ولذا محكوم عليه بالفشل. هذا ما تؤكّده التطورات المأساويّة في سوريا.
والإعلان الذي صدر في اجتماع قمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو) الأخير الذي نوّه بأن برنامج الدّرع الصاروخي الأوروبي "قائم وجار ٍ" قد تمّ تفسيره من قبل روسيا على أنّه استفزاز واضح لا غموض فيه وإشارة بأن حلف "الناتو" يسعى لتقويض الطموحات الروسيّة. وردّ بوتين على ذلك باجراء تجربة ناجحة لصاروخ بالستي جديد عابر للقارات، وسبق ذلك بيان صدر عن جنرال روسي مسئول قال فيه بأنه من الممكن القيام بضربة ٍ وقائيّة ضد مواقع إطلاق الصّواريخ التابعة للحلف الشمال الأطلسي (الناتو) إذا لم يتمّ التوصّل إلى اتفاقيّة حول الدفاع الصاروخي. لهذا النوع من التصريحات نغمات سياسيّة وجيو-استراتيجيّة خطيرة وقد ترتدّ على صاحبها وتعطي عكس النتائج المرجوّة منها. إنّ موسكو تعلم بأن توسّع الناتو يضع مزيدا ً من القيود على قدرتها في خلق مناطق نفوذ تأمل من خلالها إقامة "اتحاد أوروبي – آسيوي" يضمن الهيمنة الإقليميّة الروسيّة.
قد تكون الحرب الباردة قد انتهت منذ عشرين عاما ً، ولكن لم يتغيّر الشيء الكثير منذ ذلك الحين في مضمون السياسة الروسيّة. بإمكان بوتين، لو أخذ بعين الإعتبار كلّ الثروات الروسيّة ومصادرها الهائلة وقدرة أهلها على التحمّل ودور روسيا الدوبلماسي والفريد على الساحة الدوليّة، أن يرفع من قوّة وتعزيز المكانة العالميّة لروسيا بتغيير مساره الآن بدلا ً من الإستمرار في الإنزلاق إلى الخلف. وما لم تعيد روسيا "ترتيب نفسها من جديد" ستفوّت عليها فرصة ً نادرة ً في أن تصبح زعيمة دوليّة مسئولة ومحترمة.