التوفيق بين أمن إسرائيل والدولة الفلسطين
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
تفي القضيتان المعتمدتان على بعضهما البعض واللتان تحومان فوق كلّ جانب ٍ من مفاوضات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة بمتطلبات الأمن القومي لإسرائيل وتلبيّان في نفس الوقت المطلب الفلسطيني بإنهاء الإحتلال الإسرائيلي. وفي حين يجب على الفلسطينيين أن يفهموا بأنّه ما لم تشعر إسرائيل بالأمن، فلن يكون هناك دولة فلسطينيّة مستقلّة. وبالمقابل، يجب على إسرائيل أن تدرك بأن حلّ الدّولتين يعني نهاية الإحتلال الإسرائيلي بأيّ شكل ٍ من الأشكال. وللوصول إلى هذين الهدفين يجب على كلّ من الجانبين أن يأخذ جيّدا ً بعين الإعتبار ليس فقط متطلبات بعضهما البعض، بل وأيضا ً إظهار حسَاً لعقليّة الطرف الآخر الراسخة منذ عقود والمستمرّة في إشعال مواقفهما المتباينة.
وتدلّ نظرة سريعة على الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني بأنّ لإسرائيل مخاوف شرعيّة من وجهة نظر أمنها القومي، ويجب تخفيف أو تسكين هذه المخاوف للوصول إلى اتفاقيّة يتمّ التفاوض حولها بخصوص إقامة دولة فلسطينيّة. وبصرف النّظر أنّه ما زال هناك مجموعات فلسطينيّة عديدة تسعى علنا ً وبإصرار لدمار إسرائيل، ومهما كانت طبيعة الجدل لربط إسرائيل ما بين أمنها القومي واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينيّة، غير أنّه يبقى هناك شيء واحد لا يقبل الجدل وهو: أنّ انسحاب إسرائيل من جزء ٍ من الأراضي المحتلّة في الماضي لم يخلق الأسس لبناء السّلام. لا بل عكس ذلك، فالمناطق التي أخليت تمّ استخدامها كأرضيّة لانطلاق المزيد من الهجمات العنيفة المسلّحة ضد إسرائيل. فالإنسحاب من أجزاء ٍ من أراضي الضفّة الغربيّة في أواخر تسعينات القرن الماضي لم يمنع اشتعال الإنتفاضة الثانية، والإنسحاب من جنوب لبنان في عام 2000 لم يوقف تبادل النيران مع حزب الله الذي أدّى إلى حرب عام 2006. وكذلك خلق الإنسحاب من غزّة في عام 2005 قاعدة ً لإطلاق الصواريخ بدون تمييز من طرف حماس ومجموعات أخرى، الأمر الذي أدّى لعمليّة "الرّصاص المصبوب" الإسرائيليّة أواخر عام 2008 وبداية عام 2009. فبدلا ً من الإستفادة من الإنسحابات الجزئيّة كأساس لتحسين العلاقات مع الإسرائيليين وتشجيع المزيد من عمليّات الإنسحاب الإسرائيلي وإنهاء الإحتلال، اعتبر الفلسطينيّون خطأ ً الإنسحابات الإسرائيليّة على أنها ردود فعل لأعمال العنف المستمرة من طرفهم. غير أنّ العمليّات الإنتقاميّة الإسرائيلية الموجعة ضد استفزازات الفلسطينيين المتكررة قد أقنعت السلطة الفلسطينيّة أخيرا ً في الضفّة الغربيّة بأن استمرار العنف ضد إسرائيل لا يقود إلاّ للدمار الذاتي. ونتيجة لذلك فقد قرّرت السلطة الفلسطينيّة إنشاء بنية تحتيّة لدولة فلسطينيّة بوضع "خطّة سلام فيّاض" حيّز التنفيذ والدّفع في المفاوضات إلى الأمام بدلا ً من المقاومة المسلّحة.
ونظرا ً لهذه الخبرات السابقة والفكرة التي نشأت عن هذه الخبرات فإن الإسرائيليين متشكّكون للغاية حول نوايا الفلسطينيين الحقيقيّة في صنع سلام ٍ دائم معهم. ولهذه الأسباب، ستصرّ إسرائيل على معالجة أربعة قضايا أمنيّة رئيسيّة قبل الشّروع بأيّ انسحاب ٍ جذري من الضفة الغربيّة: أ) أن تكون السلطة الفلسطينيّة قادرة ً على منع الإستيلاء على الأراضي من قبل أية مجموعات إرهابيّة والعمل بحزم ضد أية استفزازات مسلّحة. ب) ألاّ يكون هناك أيّة عمليات لتهريب أسلحة، وبالأخصّ الصواريخ، إلى الضفة الغربيّة، الأمر الذي قد يشكّل خطرا ً أمنيّا ً غير مقبولا ً على المدن الإسرائيليّة. ج) ألاّ تدخل السلطة الفلسطينيّة في أيّ تحالف ٍ عسكريّ مع دولة أجنبيّة، وأخيرا ً د) أن تكون الدولة الفلسطينيّة حديثة الولادة منزوعة السّلاح باستثناء قوات أمن داخليّة رادعة. وتعتقد المخابرات الإسرائيليّة والمؤسسات الدفاعيّة بشدّة بأنّه لا يمكن معالجة هذه القضايا إلاّ بالإبقاء على قوّات إسرائيليّة على طول الحدود الأردنيّة لأن السلطة الفلسطينيّة غير جاهزة بعد لاستيفاء متطلبات أمن حدودها. وتقول إسرائيل بأن هذه القوات لن تتعامل فقط بقوّة وفعّاليّة مع قضايا ومخاوف البلد الأمنيّة، بل وستؤمّن أيضا ً بقاء السلطة الفلسطينيّة حيث أنها ستردع العناصر الداخليّة والخارجيّة من قيامها بتقويض السّلام.
ومن الناحية الأخرى، يرفض الفلسطينيّون أن تقوم إسرائيل بالإبقاء على قواتها في غور الأردن لأنّ وجود مثل هذه القوات على الأراضي الفلسطينيّة سيعني استمرار الإحتلال. زد على ذلك، تدافع السلطة الفلسطينيّة عن هذا الموقف بقولها أنّ الإبقاء على بعض القوات العسكريّة الإسرائيليّة على الأراضي الفلسطينيّة سيمسّ بسيادة الدولة وستثير – حتّى ولو لم تؤثّر هذه القوات على حياة الفلسطينيين اليوميّة – مقاومة ً عنيفة وتزوّد الجماعات الفلسطينيّة الرافضة لأية اتفاقية مع إسرائيل الذخيرة التي يحتاجونها لتقويض السّلام، بما في ذلك شنّ عمليات مسلّحة. علاوة ً على ذلك، فإن أربعة وأربعون عاما ً من الشوق الفلسطيني لإنهاء الإحتلال قد خلق عقليّة ترفض تماما ً ليس فقط وجود أيّ جندي إسرائيلي، بل أيضا ً رموز الإحتلال وتأثيراته النفسيّة المذلّة على اعتزازهم وكرامتهم الوطنيّة. يريد الفلسطينيّون أن يشعروا بأنهم فازوا أخيراً باستقلالهم ولو أنّ ذلك لم يكن بالمقاومة المسلّحة، ولكن بالتأكيد بمنأى عن ظلّ العبوديّة. هم يفضّلون الإبقاء على الوضع الحالي الغير مستقرّ والمحفوف بالمخاطر على الخضوع للمطالب والإملاءات الإسرائيليّة، لأن هذه – من وجهة نظرهم – تعادل التخلّي عن طموحاتهم الوطنية في إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة.
وللتوفيق بين هذه المواقف المتضاربة، على كلا الطرفين الأخذ بعين الإعتبار المتطلبات الأساسيّة للطرف الآخر. وهناك أربعة إجراءات أمنيّة ممكن وضعها كبديل بمساعدة المجتمع الدولي وهذه من شأنها أن تخفّف من مخاوف إسرائيل الأمنيّة بدون الإحتفاظ بقوات عسكريّة في منطقة غور الأردن.
أوّلاً: بالرغم أن إسرائيل متشكّكة من أنّ قوات متعددة الجنسيات ستكون قادرة ً على حماية مصالحها الأمنيّة ( فعدم فعاليّة قوات حفظ السّلام الدوليّة في لبنان خير مثال ٍ على ذلك ) غير أنّه من الممكن حشد قوّة فعّالة بالإستناد إلى عاملين أساسيين هما: تركيبة سليمة لهذه القوة وتفويض ٍ واضح وواسع النطاق لها. وقد تحتوي هذه القوّة الدوليّة التي ستتمركز على طول الحدود الأردنيّة – الإسرائيليّة عناصر من عدد ٍ من البلدان العربيّة القياديّة، وبالأخصّ المملكة العربيّة السعوديّة، مصر والأردن، حيث أنّ لكلّ من هذه الدول مصلحة حيويّة في الحفاظ على السّلام. هذا إضافة إلى وحدات عسكريّة من وحدات حفظ السّلام من بعض الدول الأعضاء في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) تحت قيادة أمريكيّة. هذه سيكون لها بالتأكيد تأثير فوق العادة. هذه القوّة، مفوّضة بالتدخل فورا ً لمنع تسرّب عناصر إرهابيّة وتهريب السّلاح، قد تهدّىء من مخاوف إسرائيل الأمنيّة بشرط أن تكون مدعومة ً باحتياطات أمنيّة أخرى.
ثانياً: وبالرغم من أنّ السلطة الفلسطينيّة قد أثبتت جدارة ً ملفتة ً للنظر في مجال حفظ السّلام خلال العامين المنصرمين ومنع العمليّات المسلحة ضد إسرائيل، غير أنّ عليها الموافقة على انسحاب مرحلي للقوات الإسرائيليّة على مدى ثلاث أو أربع سنوات. وخلال هذه الفترة الزمنيّة تكون قوات الأمن الداخلي الفلسطينيّة قد زادت بنحو ثلاثة أضعاف عمّا هي عليه الآن وذلك لضمان استلام ٍ مأمون لجميع المسئوليات الأمنيّة من إسرائيل عند انسحابها من المناطق (ب) وأخيرا ً (ج) وتسمح لإسرائيل بالتحضير لإعادة توطين العديد من المستوطنين. لقد قام الأردن – بدعم ٍ مادي أمريكي – بعمل ٍ مثير للإعجاب من تدريب ٍ لقوات أمن ٍ فلسطينيّة وبإمكان هذا البلد الإستفادة من هذه الفترة الزمنيّة لزيادة جهوده في تدريب عناصر فلسطينيّة على نطاق ٍ أوسع. ويجب على السلطة الفلسطينيّة خلال هذه الفترة الإنتقاليّة وما بعدها أن تدرك بأن حمل المسئوليّة على جوّ خال ٍ من العنف يقع كلّيا ً على عاتقها. وعلى الفلسطينيين أن يعلموا بأن استقلالهم يعتمد على أمن إسرائيل القومي وأنّ انتفاضة جديدة على غرار الإنتفاضة الثانية أو إطلاق صواريخ على مناطق إسرائيليّة مأهولة بالسكان بعد انسحاب إسرائيل من الضفة الغربيّة سيكون بمثابة قبلة الموت لآمال الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينيّة على أراضي الضفة الغربيّة وقطاع غزة.
ثالثاً: يجب أن تبقى الدولة الفلسطينيّة منزوعة السّلاح، ليس فقط لتلبية احتياجات إسرائيل بل أيضا ً للحفاظ على الموارد الماليّة لهذه الدولة والسماح بالإستثمارات في مجال البنية التحتيّة والمشاريع الإقتصاديّة، معزّزة بذلك المصالح والإهتمامات في حفظ السّلام. ولم لا وهناك (17) دولة في العالم منزوعة السّلاح ليس لها في الواقع جيوش ولا تحتاج لأي منها لأنها وبكلّ بساطة غير مهددة من قبل جيرانها ولا تريد أن تستثمر في المعدات العسكريّة. وبطريقة مماثلة، فالدولة الفلسطينيّة الجديدة لن تكون مهدّدة من قبل أيّ من جيرانها، أكانت الأردن أم إسرائيل أم مصر. وحتّى لو استثمر الفلسطينيّون مليارات الدولارات لب