أسباب جذرية من المأزق الإسرائيلي–الفلسطي
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
يبدو المأزق الحالي في العملية السلمية الإسرائيلية – الفلسطينية ظاهرياً بأنه غير منطقي. فكل طرف يعلم بعد ذلك كلّه الإطار الأساسي لتسوية تفاوضية وهو: حل دولتين يعتمد على أساس حدود عام 1967 مع عمليات تبادل للأراضي تجعل التجمعات الرئيسية للمستوطنات داخل إسرائيل وبقاء القدس عاصمةً موحّدة لكلا الدولتين وتعويض الأغلبيات العظمى من اللاجئين الفلسطينيين مع بقائهم في الدول التي يقيمون فيها حاليّاً أو توطينهم من جديد في أراضي الدولة الفلسطينية التي ستنشأ حديثاً في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تمثّل هذه العوامل الأساسية مقترنةً مع ضمانات أمنية مناسبة لإسرائيل ما كان على طاولة المفاوضات عند نهاية الجولات العديدة من المفاوضات التي أُجريت خلال العقود الماضية، وتقترب كلّ جولة أكثر فأكثر من إتمام الاتفاقية، ولكن تفشل في الساعات الأخيرة. ولكن لماذا؟ ولماذا أيضاً التردد العميق الآن لكلّ من الطرفين في العودة إلى طاولة المفاوضات إذا كانت الأسس واضحةً بهذا الشكل؟ الجواب على ذلك بكلّ بساطة أنّه وقبل التوصل إلى اتفاق حول ترتيبات مناسبة يجب على كلا الطرفين الأخذ بعين الإعتبار الأبعاد السيكولوجية (النفسية) المتأصّلة بعمق والمثيرة للصراع بين الطرفين وكذلك الاعتقادات الدينية والقصص التاريخية الوطنية. يجب الاعتراف بكل هذه العوامل وفهمها ومعالجتها إذا كان مقدّراً التوصل لنهاية حقيقية للصراع.
البعد السيكولوجي (النفسي) يكمن تحت الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الندبات أو الجروح التي يحملها كلّ جانب من
-2-
ماضٍ مفعم بالجروح والإصابات. فالخبرة اليهودية من التشتت في جميع أنحاء العالم كانت مليئة بالتمييز والاضطهاد والطرد ووصلت ذروتها بالمحرقة التي سعت دولة من خلالها إلى إبادة الشعب اليهودي الأعزل. فجرح الإبادة الجماعيّة التي اقترفها النازيّون لا يمكن مضاهاتها حجماً وبعداً بأية إبادة جماعيّة أخرى على مدار التاريخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ اليهود حملوا معهم ندب هذا الماضي إلى فلسطين. أضف إلى ذلك، فقد نجا الكثير من اليهود من معسكرات الموت بهجرتهم إلى فلسطين، الأمر الذي أضاف طبقة أخرى من الخبرة المرعبة بالنسبة للشعب اليهودي. بهذا الماضي وحال قيام دولة إسرائيل أخذ يُنظر لهذه الدولة ليس فقط كمجرد استيفاء لكلا الرسالتين العلمانية والصهيونية، بل أيضاً وفاءً بالوعد التوراتي بعودة اليهود إلى وطنهم الأصلي القديم، ملجأهم الأخير الذي يجب حمايته بحماسٍ مطلق.
لم يعطِ الفلسطينيون أبداً التعقيدات السيكولوجية لهذه الخبرة التاريخية حقها الكامل من التقدير. فبدلاً من فهم العقليّة الإسرائيلية التي تكوّنت من هذه الخبرة المرعبة وارتباط اليهود بالأرض، قام الفلسطينيون إمّا بإنكار المذبحة ضد اليهود أو جادلوا بحقّ أنّه حتّى لو حدثت، لماذا عليهم هم كفلسطينيين أن يدفعوا الثمن؟ فبالنسبة للفلسطينيين، كانت النكبة التي مرّوا بها خلال حرب عام 1948 كارثة بالفعل. فمن وجهة نظرهم كانوا يعيشون في وطنهم – ولو تحت الحكم العثماني ثمّ البريطاني – لقرون طويلة. وخلال حرب عام 1948 تمّ إجبار العديد منهم من قِبل الإسرائيليين على ترك أوطانهم أو شجّعهم إخوانهم العرب على تركها في سياق الحرب فوجدوا أنفسهم في كلتا الحالتين لاجئين، وهي خبرة مُرّة دامت حتى الآن عقوداً طويلة. لم يفهم الإسرائيليون أبداً وبالكامل الأهمية البالغة لهذه المأساة ولا الدور الذي لعبته لربط الفلسطينيين مع بعضهم البعض بنفس الطريقة التي توحّد بها اليهود بعد المحرقة.
ويجادل الإسرائيليون غالباً بقولهم أنّه ما دام اليهود تركوا بيوتهم في جميع بلدان الشرق الأوسط العربي ليمكثوا في إسرائيل، إذن يجب اعتبار اللاجئين الفلسطينيين في الواقع بمثابة تبادل ما بين اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين اليهود. هذه النظرة لا تنكر فقط المأساة
-3-
التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، بل وتحتقر أيضاً طموحاتهم الوطنية في بناء دولةٍ خاصةٍ بهم. هذا هو البعد السيكولوجي، ضمن عوامل أخرى، الذي منع كلّ من الجانبين من إدراك حتمية التعايش السلمي بينهما.
انعدام الثقة:
إنّ المآسي التي مرّ بها الطرفان قبل تأسيس إسرائيل ونتيجة لتأسيسها قد تعاظمت وتقوّت بالحروب وبالأعمال والعمليات التي قام بها كلّ من الطرفين ضد الآخر، وهذه جميعها قد زرعت وبعمق ثقافة عدم الثقة بين الشعبين. ورفض الدول العربية لقبول خارطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947 كانت الرسالة الأولى الموجهة للإسرائيليين بأن العرب غير راغبين في السلام معهم. والحروب التي تلت ذلك والمعرّفة بالسنوات التي جرت فيها وهي بالترتيب 1948، 1956، 1967 و1973 قد رسّخت فقط اعتقاد الإسرائيليين بأنّ العرب لا يسعون سوى لتدمير دولة إسرائيل لا لإجراء سلامٍ معها. ومؤتمر القمة العربية المنعقد في الخرطوم في عام 1967 قد أكّد بلاءاته الثلاثة المشهورة على هذه النظرة: "لا تفاوض، لا اعتراف ولا سلام مع إسرائيل". وأخيراً، وبانطلاق العملية السلمية في أوسلو في عام 1993 بدأ الإسرائيليون والفلسطينيون بالتحدث مع بعضهم البعض في محاولة منهم لإيجاد نهاية دائمة للصراع بينهما، ولكن مع مآسي الصراع الكامنة خلف مباحثاتهما، والإفتقار الكلّي للثقة فيما بينهما، كلّ ذلك لم يدع مجالاً لأي طرفٍ منهما من الوثوق بكلمات الطرف الآخر. فمن وجهة النظر الإسرائيلية، كانوا يتفاوضون في الوقت الذي كانت فيه حماس وفصائل فلسطينية متطرّفة أخرى تكتسب قوّة وترتكب حملات همجيّة من العمليات التفجيرية الانتحارية ضد إسرائيل وتكثفت هذه العمليات بصورة جسيمة أثناء الانتفاضة الثانية عند انهيار محادثات أوسلو.
لقد اكتسبت النظرة الإسرائيلية بأنّ الفلسطينيين لا يريدون فعلاً السلام مزيداً من الرّواج والقبول بعد عمليات انسحاب إسرائيل من لبنان وقطاع غزة. فبدلاً من القيام
-4-
بالاستفادة من هذه المناطق التي تمّ إخلاؤها من طرف الإسرائليين كانفتاح لتحسين العلاقات، أصبحت هذه المناطق أرضية لإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية. ومن وجهة النظر الفلسطينية، فقد فاوض الفلسطينيون في الوقت الذي كانت فيه المستعمرات الإسرائيلية تنمو بسرعة مذهلة في الضفة الغربية في ظلّ عمليات سطو سريعة على الأراضي التي يتخيلها الفلسطينيون جزءاً من دولتهم. ويصرّ الفلسطينيون على أن إسرائيل غير قادرة على التفاوض معهم بنيّة سليمة ما دامت مستمرة في تعميق جذور الاحتلال وقيامها في نفس الوقت بتقويض أية فرص حقيقية لإقامة الدولة الفلسطينية.
في الحقيقة كلا الطرفين محقّ في شعوره بأنه خُدع، ولكن المسألة لم تعد مسألة خطأ أو صواب، أو من هو الخادع ومن هو المخدوع. يجب التغلب على إحساس كلّ من الطرفين بأنّ الطرف الآخر غير جادّ إذا كان للسلام أن يتحقق بينهما. والقيادة على الجانبين لم تقم على أية حال حتى الآن بأي مجهود حقيقي لتصحيح هذه المشاعر أو الأحاسيس بل تعمل خلافاً لذلك على تصعيد الحماس الوطني والتخوّف من الطرف الآخر بدلاً من التحرك إلى الأمام باتجاه اتفاقية سلام بنيّة حسنة.
الاعتقاد الديني:
يُنظر إلى الصراع العربي – الإسرائيلي على أنّه عادةً صراع سياسي إقليمي، غير أنّ العامل الديني هو من يُزوّد الصراع بالوقود ويجعل من الصعب للغاية إيجاد حلّ له. فالمرجعية الإسرائيلية التاريخية تعتمد على أساس الارتباط التوراتي للشعب اليهودي بأرض أجدادهم. وكما ناشد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الكونغرس الأمريكي في خطابه يوم 24 أيار (مايو) قائلا ً:"هذه أرض أجدادنا، أرض إسرائيل التي أدخل إبراهيم إليها فكرة إله واحد والتي واجه فيها داود جوليات الجبّار والتي وجد فيها إشعياء رؤية السلام الأبدي. لا يستطيع أي تشويه أو تحريف في التاريخ أن ينكر رابطة الأربعة آلاف عام ما بين الشعب اليهودي والأرض اليهودية". فمن المؤلم للغاية بالنسبة للكثير من الإسرائيليين أن يتنازلوا
-5-
عن سيطرتهم عن الضفة الغربية المعروفة لديهم تاريخياً في التوراة كمنطقتي يهودا والسامرة، وممّا لا يستطيعون تصوره هو التنازل عن حائط المبكى وجعل القدس تحت ولاية أية جهة أخرى.
وبالمقابل، لا يستطيع أيّ حاكم عربي أن يساوم على القدس بسبب اعتقادهم الديني بأن في القدس ثالث أقدس مقدّسات الإسلام وهو المسجد الأقصى وقبة الصخرة في ساحة الحرم الشريف. أضف إلى ذلك، يعتقد الكثير من العلماء المسلمين بأنّ النبي محمد قد قام برحلته من مكة إلى المسجد الأق