الربيع العربي: عصرٌ جديد في عالم يتحوّل
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
يجب أن يُنظر إلى الإنتفاضة الشعبيّة العربيّة كجزْ لا يتجزّأ من عالم ٍ في مرحلة تحوّل. والثورات التكنولوجيّة والمعلوماتيّة التي عزّزت -ولا تزال- العولمة والترابط بين الثقافات تجعل من المستحيل على الحكّام المستبدين أن يحكموا طيلة فترة حياتهم ويخضعوا شعوبهم بدون رحمة لحياة ٍ من العبوديّة دون أمل لتذوّق المعنى الحقيقي للحريّة.
هناك العديد من يقول، ومن بينهم العالم المشهور جورج فريدمان، بأنّ الربيع العربي نوع ٌ من التضليل الجماهيري الذي يعادل "التظاهر فقط المصحوب بالقتل ومراقبين بلهاء بشكل غير عادي". وعندما تحوّل خريج الجامعة، محمد بوعزيزي، إلى بائع متجوّل أشعل النار بنفسه أمام مبنى حكومي في بلدة سيدي بوزيد بتونس وحرّر بذلك سيلا ً جارفا ً من التعبير السياسي المكبوت منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط. لقد أرسل بوعزيزي من خلال التضحية بنفسه رسالة ً واضحة لأبناء جيله تقول: الموت بكرامة أفضل من الإستمرار بالعيش مع تحمّل ألم المعانات اليوميّة. أجل، إنها تلك الرسالة التي شجّعت ومكّنت المصريين واليمنيين والليبيين والسّوريين وغيرهم من التظاهر والموت على أمل أن تضع تضحياتهم نهاية للظلم والجور الذي يعيشونه يوميّا ً.
وللتأكيد، بدأت روح الإحتجاجات تنمو في العالم العربي منذ عدّة سنوات مضت. ففي مقالهما بعنوان: "المصلحة الوطنيّة" عام 2007 لاحظ ناثان براون وعمرو حمزاوي بأن الإحتجاجات الغير عاديّة في شوارع الشرق الأوسط من 2005 لغاية 2007 قد دلّت فقط بأن
"أحلام الإنفتاحات الديمقراطيّة والإنتخابات التنافسيّة وحكم القانون والحريّات السياسيّة الواسعة قد استولت على خيال أغلبيات واضحة في العالم العربي".
هذا الجيل الجديد من الشباب العربي ليس نفس شباب الجيل الماضي لأنّ هذا الجيل قد "تعرّض" للعالم على نطاق ٍ واسع وثار ضدّ القمع والحرمان والجمود ولا يريد بعد الآن أن يعيش خاضعا ً لحكّام وحكومات فاسدة. والإفتراض بأن الشباب العربي سيبقى الى الأبد خاضعا ً لنزوات الطغاة ليس بأقلّ من الغفول عن حلول عصر ٍ جديد للدول العربيّة في وسط تحوّل دولي لا يستطيع استثناء الشباب العربي من التّوق إلى حياة كريمة. لن تستطيع أيّة حكومة عربيّة مهما كانت قمعيّة أن تغلق على الشباب نافذة الإتصال بالعالم الخارجي وإخماد ظمأهم للحريّة.
لم يتمّ التحريض على انتفاضات عام 2011 لا من قوى خارجيّة ولا من عصابات أو مجموعات إجراميّة كما لمّح لذلك بعض القادة العرب، كما ولم يحتاج الثوار إلى وضع اللوم لمشاكلهم على كيانات خارجيّة أو جهات أجنبيّة. لقد رفض الشباب العربي طلب التدخّل الخارجي إلاّ إذا واجهوا أنظمة مصمّمة على اقتراف مجازر ضدّهم للبقاء في السلطة كما في حال ليبيا القذافي أو حاليّا ً سوريا الأسد، ولم يَلُم هؤلاء الشباب إسرائيل أو الولايات المتحدة على أخطاء وتقصير بلدانهم. لقد تحوّل انتباههم بالأحرى إلى إخفاقات قادتهم وحكوماتهم الديكتاتوريّة.
لقد حاولت أنظمة مبارك والأسد والقذافي وصالح بشكل ٍ منهجي تصوير الإنتفاضة الشعبيّة في بلدانهم على أنّها مؤامرة مُحاكة من الخارج وتقوم بتنفيذها عناصر محليّة، غير أنها فشلت جميعها في ذلك. الشباب الثائر يرفض أن يلهيه أو يستغفله أحد أو أن يصرف انتباهه عن الواقع بشعارات قديمة جوفاء أو أن يخدعهم أحد في السلطة بالإدّعاء بأن الفوضى ستعمّ البلاد في حالة تنحيهم عن السلطة أو الإطاحة بهم. لقد ذهبت تلك الأيام دون رجعة التي استطاع فيها الحكّام العرب "ركوب" موجات السخط الشعبي بلومهم إسرائيل أو الولايات المتحدة أو القوى الإستعماريّة القديمة على حياتهم الشقيّة.
لقد نُظّمت انتفاضات الأمس واليوم عن طريق مواقع الإنترنت الإجتماعيّة "أون لاين" مثل "الفيسبوك" و "التويتر" و "اليو تيوب" حيث أصبحت هذه الرّسائل تظهر على الشاشة التلفازيّة بسرعة البرق كصورة أو نصّ . لقد همّشت قناة الجزيرة العربيّة – وهي قناة اكتسبت شعبيّة ومصداقيّة بين الجماهير العربيّة خلال العقد المنصرم – تغطية وسائل الإعلام الرّسميّة لسهولة الحصول عليها والدّخول اليها وحيادها الواضح. ومن الجليّ بأن هذه الشبكات وأدوات تقنية وسائل الإعلام لم تعمل على إحداث الثورات السياسيّة بل كانت بالأحرى الخطوط الأماميّة للثورات بحيث لم تعد هناك حاجة إلى القيادة الإيديولوجيّة لتوجيه الثورات من خلالها. ومحاولات الأنظمة الحاكمة فصل شعوبها عن باقي العالم بقطع هواتف مواطنيها وإغلاق خدمات الإنترنت أثبتت بأنها محاولات فاشلة وتأتي بنتائج عكسيّة حيث أظهرت بوضوح حقيقة أنّ الحكام يحاولون فقط بذلك تغطية غضب شعوبهم مع التأكيد للعالم افتقار هذه الأنظمة للمسئوليّة تجاه شعوبها.
مكّنت وسائل الإعلام الجديدة الثورات من الإنتشار محليّا ً وخارج حدود الوطن. وإن كانت الأنظمة العربيّة قد حققت نجاحا ً بارزا ً في إحباط محاولة إيران تصدير ثورتها الإسلاميّة غير أنّها فشلت فشلا ً ذريعا ً في إخماد ثورات الربيع العربي لأن "هذه النوعيّة من التعبئة الجماهيريّة التي لا قيادة لها إطلاقا ً" كما قال ف. غريغوري غاوس "هي التي جعلتها مصادر للإيحاء"، هذا إضافة ً على أنها قد جعلت التعبئة منيعة لا تطالها بسهولة أجهزة الأمن. هذا ما جعل موجة الإحتجاج – التي بدأت بسبب البطالة العالية والفساد المتفشّي في تونس مطيحة ً بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي – تشعل فتيلة احتجاجات ٍ عنيفة في جميع أرجاء العالم العربي، من الجزائر حتّى اليمن، بشعار ٍ موحّد وهو "الشعب يريد إسقاط النظام" أي أن يلحق زعماؤهم ببن علي في منفاه القسري في المملكة العربيّة السعوديّة. والثورة التالية التي انتشرت في مصر تغلغل صداها حتّى عمّ جميع أرجاء الشرق الأوسط من ليبيا إلى سوريا إلى البحرين.
وخلافا ً لما قاله بعض المعلّقين، فإنّ الإنتفاضات العربيّة ليست ظواهر منفصلة عن الإحتجاجات والمظاهرات التي عمّت أجزاء عديدة من العالم الغربي نتيجة استمرار الأزمة الإقتصاديّة. فبالرغم من أنّ لكلّ بلد ٍ خصائصه وظروفه المميّزة، غير أنّ الدافع أو السبب المشترك للمظاهرات في العالم العربي وفي الغرب أيضا ً قد خلقته وشكّلته إلى حدّ كبير الأزمة الإقتصاديّة العالميّة المستمرّة والتباين الإقتصادي الشاسع مقترنا ً بالظلم الإجتماعي المتزايد. لقد أدّت التخفيضات والإستقطاعات الضخمة في ميزانيّات الدول مع الإرتفاع في الضّرائب إلى احتجاجات عنيفة في بريطانيا وإسبانيا وايطاليا واليونان وأنحاء أخرى في أوروبا.
وترى حركة "احتلوا وول ستريت !" (شارع مقرّ البورصة في نيويورك) أنّ السبب الجذري في التفاوت الإجتماعي والإقتصادي في العالم يكمن في جشع الشركات العالميّة الكبرى التي لديها روابط مشبوهة مع مسئولين حكوميين ولذا توجّه جام غضبها نحو المؤسسات الماليّة التي سببّت قوتها ونفوذها الأزمة الحاليّة. لقد أشار العرب والأوروبيون والإسرائيليّون والأمريكان جميعهم بأصابعهم إلى أولئك اللذين يعتقدون بأنهم مسئولين عن مشاكلهم.
تطالب الإحتجاجات الأوروبيّة والأمريكيّة تغييرا ً في السياسات، لا في الحكومات المنتخبة ديمقراطيّا ً. فمن وجهة نظر المحتجين استُغلّت الديمقراطيّة والمقاولات الملتزمة النزيهة على حساب الشخص العادي ولذا أصبح النظام ببساطة لا يعمل بصورة جيّدة. هذا هو السبب الذي يدفع المحتجين إلى المطالبة بإصلاحات وحتّى بإجراءات أكثر حزما ً وقساوة ً، بما في ذلك إصلاح ٍ شامل للنظام القائم حاليّا ً. وعلى العكس من ذلك يرى الشباب العربي الذين يقولون بأنّهم يمثّلون ال "99 %" من مطالب شعوبهم بأنّ السبب الجذري لشقائهم الإقتصادي – الإجتماعي ولافتقار الحريّة وانتشار الظلم والفساد في مجتمعاتهم هي الحكومات المستبدّة التي خلقت هذه الظروف المؤدية لمشاكلهم وبؤسهم. لم يختبر هؤلاء الشباب الحريّة والديمقراطيّة ولا يرون أي أمل في تغيير جذري من أنظمتهم الحاليّة ولذا يسعون للإطاحة بالنظام.
وبصرف النظر عن كيفيّة تفاوت انتفاضات الشباب في حدّتها، فهي ليست ظاهرة عابرة. ستبقى هذه الإنتفاضات على مدى سنوات ٍ طويلة ولن تخمد إلاّ اذا التزمت الأنظمة العربيّة الجديدة أو الحاليّة بوعود ٍ للقيام بإصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة بنّاءة والعمل على تنفيذها، بصرف النظر عمّا قد تستغرقه من وقت. وعلى الدول العربيّة التي لم تمرّ حتى الآن باحتجاجات ٍ شعبيّة على نطاق ٍ واسع أن تلتفت إلى ما يحدث الآن وأن تسارع منذ الساعة إلى العمل بمنتهى الحزم والجديّة لمعالجة مشاكل شعوبها العويصة ومظالمهم.