All Writings
مارس 28, 2011

أعمى يقود الأعمى

بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

إنه لمن الصعب أن تكون الآن منظمة أمريكية – يهودية تدعو إلى مساندة إسرائيل. فهناك من ناحية الاعتقاد المتين بأنه يجب الدفاع عن إسرائيل بأي ثمن وأن أي انقسام سيظهر ضعفاً في الجبهة اليهودية المتحدة. ومن الناحية الأخرى، يدعو اليهود الأمريكيون تقليديّاً إلى سياسات تقدمية في الشئون المحلية والدولية والتي على ما يبدو تتعارض مع مواقفهم المتشددة في تأييد حكومة إسرائيلية ميّالة إلى رفض مثل هذه الليبرالية. وفي وقتٍ تقاد فيه إسرائيل من طرف حكومة توجّه البلد إلى نزاعٍ لا نهاية له وأفعالها تهدّد الطبيعة اليهودية والديمقراطية لدولة إسرائيل، فإن الكثير من الجالية الأمريكية اليهودية اليوم يحاكي ما تقوله حكومة نتنياهو. وفي الوقت الذي أبقت فيه الوحدة العالم اليهودي قوياً في جميع أرجاء الشتات، فإذا دامت هذه الوحدة من خلال التأييد الأعمى لسياسات مضلّلة قد تقوّض هذه وبشدّة أمن إسرائيل القومي باسم مفهوم الوحدة الذي ليس في مكانه.

إنّ غريزة الإتحاد صفة متأصلة في اليهود في جميع أنحاء العالم. هذا التراث في الوحدة لا يعود لأجيال فقط، بل لآلاف السنين. فالإنقسامات بين الإسرائيليين الأوائل كانت عوامل أساسية أدّت إلى تدمير الهيكلين الأول والثاني في القدس القديمة. وطرد العبرانيين من الأراضي المقدسة وتشتتهم في جميع أرجاء الشرق الأوسط وأوروبا قدّم القوة الدافعة والزخم للأهمية الرفيعة للمجتمع اليهودي لعقود طويلة من الزمن. لقد ارتبطت المجتمعات والجاليات اليهودية بعضها ببعض، أكان طوعاً أو قسراً، للبقاء على قيد الحياة خلال فترة محاكم التفتيش الإسبانية ومذابح أوروبا الشرقية وبالطبع المحرقة (الهولوكوست) والمجتمع اليهودي ما قبل الصهيونية. والأعياد اليهودية مثل "الحانوكا" و"بوريم" مناسبات يحتفل فيها الشعب اليهودي لنجاته من خطر الدمار، فيما يتذكّر اليهود مناسبات أخرى مثل "تيشابآف" و "يوم هايشوا" كانت فترات صعبة عليهم.
-2-

إنّ نفسية شعب بتاريخ كان تقريباً دائماً تحت حصارٍ متواصل قد خدمت بمثابة عامل توحيد رئيسي ما بين إسرائيل والجالية اليهودية الأمريكية. فالتاريخ القصصي للشعب اليهودي المحاصر بأعداء حاقدين عليه ويتربصون به وحاجته إلى دعم مستمرّ وثابت وحذر إخوانه ويقظتهم ليبقى على قيد الحياة هو بالفعل عامل قوي. واليوم عند مواجهة الشعب اليهودي تهديد إيران النووية تجد القادة الإسرائيليين واليهود الأمريكيين قد التفوا بسرعة حول بعضهم البعض يقارنون الفترة الحالية بعام 1939 في محاولة لإظهار الحاجة الماسة لحماية الشعب اليهودي من خطر الإبادة.

من المفترض بالطبع لدولة إسرائيل أن تغيّر كل هذا. وقد خُلقت الإيديولوجية الصهيونية ليس ليهود يرتعدون من خوفٍ من قد يهددهم، بل لتماسكهم بالقوة لخلق أمة عظيمة قادرة على حماية الشعب اليهودي والدفاع عنه. وبالفعل بنوا هذه الأمة العظيمة. والآن وبعد حوالي 63 عاماً على إنشاء الدولة اليهودية العصرية تتمتع إسرائيل بجيش من أقوى وأكبر جيوش العالم وباقتصادٍ قوي (بالرّغم من الركود الاقتصادي العالمي) وتقدم تكنولوجي ضخم وشراكة غير مسبوقة مع القوة العالمية العظمى، وهي الولايات المتحدة. وباختصار بإمكان الشعب اليهودي اليوم أن يكون أكثر أمناً ورخاءً من أي وقتٍ مضى.

ولكن الشعور بإمكانيّة الهزيمة والسقوط بيد الأعداء داخل إسرائيل نفسها وبين اليهود في جميع أنحاء العالم قد أصبح متأصلاً بعمق في النفس بحيث من الصّعب الآن الشفاء منه. حتى معارضة السياسات الإسرائيلية التي تهدّد بوضع نهاية لإنجازات إسرائيل الغير عادية أصبحت لا تُحتمل. من يفعل ذلك غالباً ما يتم إبعاده أو تجنبه. فبدلاً من مواجهة مثل هذا العزل أو الحرمان، يختار الكثير من اليهود الصمت عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. ولكن صمتهم ُيفسّر بدوره على أنّه قبول وحتى تأييد. لقد أصبحت هذه الدورة من حينٍ لآخر خارجة عن السيطرة بحيث تجاوز المدافعون اليهود عن إسرائيل المتشددين الإسرائيليين أنفسهم في دفاعهم عن الدولة اليهودية وتأييدهم لسياساتها المضللة. لقد تبرّع اليهود الأمريكيون في العقد الأخير ما

-3-

يزيد عن 200 مليون دولار لمستوطنات الضفة الغربية التي أصبح سكانها اللذين يزيدون عن 500.000 نسمة – العديد منهم بجوازات سفر أمريكية – معوّقات رئيسية لحلّ الدولتين الذي قد يضمن ديمقراطية إسرائيل كدولة يهودية. ومن المعروف أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي المغدور إسحق رابين قد سأل مرّة إذا كان بمقدوره أن يحصل على دعم من القادة اليهود الأمريكيين في الانطلاق بعملية أوسلو السلمية في عام 1993. وفي منتصف انطلاقته بعملية سلمية مع الرئيس محمود عباس في عام 2008 قوبل رئيس الوزراء إيهود أولمرت باقتراحٍ من المؤتمر اليهودي العالمي الذي طالبه بضرورة أن تقوم الجالية اليهودية في الشتات بالتصديق على أية مفاوضات حول القدس. وفي حين أن لليهود الأمريكيين قدراً معيّناً من النفوذ والتأثير في الكونغرس الأمريكي، ينكر المدافعون عن الدولة اليهودية بشدّة مدى نفوذهم المبالغ فيه أحياناً كثيرة، هذا في الوقت الذي يستخدمون فيه شبح مثل هذه القوة للتقدّم بأجندتهم.

هذه الاستراتيجية تضرّ بمصلحة إسرائيل والولايات المتحدة وتعطي عكس النتائج المرجوّة لها. خذ مثلاً فيتو الولايات المتحدة الأخير على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية. لقد اعتبرت إسرائيل والجالية اليهودية الفيتو الأمريكي نصراً كبيراً لإسرائيل وللعلاقة الأمريكية – الإسرائلية، ولكن في الواقع كان هزيمة. فلو كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ملتزماً فعلاً بحلّ الدولتين لكان استعمل القرار كغطاء للضغط باتجاه أجندة سلام جديدة بمساندة الولايات المتحدة، أو أنه كان بمقدور اليهود الأمريكان التشجيع على قيام الولايات المتحدة بتأييد القرار من ناحية بطريقة تضمن إشرافها على تنفيذه كخطوة باتجاه تحفيز البدء بالعملية السلمية الخامدة. ولكن بدلاً من ذلك أصبحت إسرائيل والولايات المتحدة حتّى أكثر عزلة من ذي قبل ووساطة الولايات المتحدة ونفوذها على إسرائيل باعتبارها أهم حليف ومتبرّع لها – أصبحت محلّ شك أكثر من أي وقت مضى. بل وأكثر من ذلك، فقد وصلت أفكار القوى اليهودية وتآمرها نتيجة الفيتو الأمريكي إلى ذروةٍ جديدة من الحمى والانفعال مؤججةً بذلك المشاعر المعادية لإسرائيل وللسامية.

-4-

لقد قرّرت الولايات المتحدة في الواقع استعمال حق الفيتو على القرار لأسبابٍ خاصة بها. فإدارة أوباما تدرك أن إسرائيل في موقف دفاعي من غير المحتمل أن تتخذ خطوات شجاعة نحو السلام. ومن الصحيح أيضاً بأنّ الولايات المتحدة أبطلت القرار بالفيتو لاعتبارات سياسية داخلية. وعلى أية حال يخطىء من يشير إلى أنّ اللوبي اليهودي ذو النفوذ الفائق حسب الاعتقاد هو المصدر الرئيسي لمتاعب ومخاوف الإدارة. ففي استطلاعٍ حديث لغالوب صرّح 63% من الشعب الأمريكي بأنّهم متعاطفون مع إسرائيل أكثر من الفلسطينيين وهي أعلى التقديرات لتأييد إسرائيل منذ عام 1991، هذا مع العلم بأنّ اليهود الأمريكيين لا يعادلون سوى 2.2% من الشعب الأمريكي. إذن مساندة إسرائيل هي مصلحة أمريكية وليست بالتأكيد مصلحة يهودية فقط.

مع ذلك، فلليهود الأمريكيين صوت مبهم لا يحسنون استخدامه بصورة فعالة. وللتأكيد، ففي الوقت الذي يتّضح فيه بأن وحدة الشعب اليهودي أمر مهم وحتى أمر حيوي لاستمرار بقاء ونمو الشعب اليهودي على مستوى العالم وكذلك تجاه علاقته مع إسرائيل. ولكن يجب أن تكون هذه العلاقة على أساس رؤية مشتركة للمستقبل، لا على أساس المخاوف التي تميّز الماضي بها. يجب على اليهود الأمريكيين استخدام صوتهم اليوم لخلق مسار جديد ومختلف لمستقبل علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة ويهود الشتات، وليس هناك وقت للشروع في ذلك أفضل من الوقت الحاضر.

ومع انتفاضة الشعوب العربية في الشرق الأوسط ضد حكامها الديكتاتوريين الفاسدين، مطالبين بالحرية وبمزيد ٍ من الفرص، سيصبح العالم العربي أكثر ثقة وتطلعاً للمستقبل من أي وقتٍ مضى. سيبقى جيران إسرائيل بلا شك متخلفين بوضوح عن الدولة اليهودية على مدى المستقبل المنظور، ولكن متى استعادوا منزلتهم الوطيدة سيعيدوا النظر من جديد في الصراع المستمرّ مع إسرائيل. ولهذا السبب على إسرائيل وعلى إخوتها في الشتات ألاّ يبقوا متمسكين وبإصرار بتحديات الماضي في الوقت الذي بإمكانهم فيه انتهاز الفرصة المعروضة عليهم اليوم من خلال التغييرات التي تحدث في محيطهم.
-5-

على اليهود الأمريكيين أن يفتحوا أعينهم جيداً وأن يساعدوا إسرائيل لكي تفتح أعينها هي الأخرى وذلك لتشاهد جلياً الحقائق الغير سارة في المنطقة وفي الدولة ولتدرك بأنّ هذه الحقائق لن تختفي بمجرّد تمنّي اختفائها. إنّ إسرائيل والشعب اليهودي في العالم اليوم يتصرفون كلاعب قمار متهوّر، معرّضةً المستقبل دون ضرورة للخطر، علماً بأنّ لدى إسرائيل "الفيشات" التي تحتاجها لتحقيق جميع أحلامها، هذا إذا قام كلا الطرفين فقط بفتح أعينهما والمسك بها.
__________________________________________________________

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE