All Writings
ديسمبر 13, 2010

الأسس السيكولوجية للخلاف التركي – الإسرائ&#16

  بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر

أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية

بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط

بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

 

          يبيّن تقييم للأهداف الاستراتيجية القومية لكلا البلدين تركيا وإسرائيل بأنّ عدم التجانس الظاهر في السياسة بين البلدين غير نابع فقط من أهدافهما في السلام والاستقرار الإقليميين بل وبالدرجة الأولى في تقييمهما لثلاثة عوامل استراتيجية – طبيعيّة وهي 1) دور وأهداف "لاعبين" إقليمين آخرين مثل إيران. 2) الشروط التي بالإمكان أن تضمن السلام والاستقرار الإقليميين و3) الطريقة التي تسعى بموجبها تركيا وإسرائيل لضمان مصالحهما الوطنية مع بقائهما في وضعٍ غير قابل للتحدي من قبل دولة أخرى في المنطقة.ولفهم وجهات النظر التركية والإسرائيلية بصورة أفضل، علينا أوّلاً تفحُّص عقليتهما الوطنية.

 

صعود تركيا وعقليتها الوطنية

          إنّ صعود تركيا لدولة بارزة، خصوصاً في العقد الأخير، مؤثّر لدرجة كبيرة. لقد صمّمت أنقرة على تحرير نفسها من قيود الماضي وتتابع مبادرات سياسية محليّة وأجنبية تتفق مع حجم سكانها وموقعها الاستراتيجي – الطبيعي وتوجهها الغربي وقدرتها على التطور والتنمية. ومن أولى العوامل التي تقف وراء سلوك تركيا "الصاخب" هو مكانتها الصاعدة في الحلبة الدوليّة في العالم ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. لقد استفادت تركيا بشكلٍ كبيرٍ من وضعها كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) متمتّعة بقوة عسكرية معتبرة ومن ضمن قائمة أكبر الاقتصاديات العالمية. لقد وسّعت تركيا في فترة زمنيّة قصيرة نسبياً تجارتها بشكل جوهري مع الدول المجاورة. أضف إلى ذلك، فموقع تركيا كدولة حدودية لأوروبا والعراق وإيران ومكانتها إيضاً كالدولة الديمقراطية الكبرى الوحيدة في المنطقة بجانب إسرائيل قد سمحت لها بنجاحٍ مرموق اتباع سياسة خارجية طموحة ومستقلة.

 

-2-

 

          لقد صمّمت تركيا منذ عام 2002 على كسب منطقة نفوذها بكل جدّ واجتهاد، حتّى بمخاطرة تحدي الولايات المتحدة، الأمر الذي يفسّر رفض تركيا لنقل القوات والإمدادات الأمريكيّة الموجّهة إلى العراق في بداية الحرب في عام 2003 وتأييدها جهات حزبية مثل حماس وحزب الله وإدانتها علناً اجتياح إسرائيل لقطاع غزة. زد على ذلك، لقد عارضت تركيا قرار مجلس الأمن الدولي الذي يفرض مجموعة رابعة من العقوبات ضد إيران، هذا في الوقت الذي تسعى فيه بكثافة إلى تحسين العلاقات السياسية والتجارية مع طهران.

 

          لقد كان لصوت الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية  صدىً جيداً خصوصاً في الشارع العربي وهو عامل يعود بالفائدة إلى نوعيّة جديدة من الشعبية التركية وهدف وطني جديد وهو قيادة العالم العربي السنّي. إنّ سياسة "لا مشاكل مع الجيران" وهي مبدأ مثالي وضعه وزير خارجية تركيا الحالي أحمد دافتوغلو، قد تمّ تنفيذه بشكل منهجي بقوة ومهارة جديرة بالاعتبار. لقد حوّلت أنقرة الأعداء إلى أصدقاء مثل سوريا وسوّت خلافاتها مع العراق وخلقت تحالفاً أقوى مع لبنان. أضف إلى ذلك، فقد مدّت تركيا يدها لمعظم البلدان العربية وكذلك دول البلقان والقوقاز، وهذا كلّه في الوقت الذي تحاول فيه تعزيز آمال عضويتها في الإتحاد الأوروبي.

 

          ولكن لا بدّ أن يكون لهذه المبادرات الطموحة في السياسة الخارجيّة بعض النكسات. لقد فشلت تركيا في تسوية صراع ٍ مع أرمينيا عمره قرن من الزمن ولم تجد حلاًّ للوضع في جزيرة قبرص وفشلت كذلك في التعامل بصورة واقعيّة مع قضيّة الأكراد ووتّرت علاقاتها مع حليفتها المهمّة، وهي الولايات المتحدة. ويعتقد الكثير من الإسرائيليين بأن لا تقصير مما ذكر أعلاه أكثر وضوحا ً من تردّي علاقات تركيا مع إسرائيل.    فمبدأ " لا مشاكل مع الجيران" قد تمّ التخلّي عنه في حالة إسرائيل التي كان لتركيا معها علاقة استراتيجيّة مهمّة لفترة تزيد عن ستّة عقود.

 

-3-

 

عقليّة إسرائيل الوطنيّة وكيف ترى إسرائيل نفسها

          لقد مرّت إسرائيل هي الإخرى بتطورات هامّة، هذا على الرّغم من أنّ أمنها القومي قد بقي قضيّة مركزيّة في حساباتها الإستراتيجيّة. لقد حقّقت إسرائيل معجزة تقريبا ً خلال الستة عقود من وجودها حيث أصبحت إحدى أكثر الدول تقدّما ً في العالم باقتصاد ٍ كامل وتطوّر تكنولوجي متفوّق وروح ملتزمة. ونظرا ً لسمعتها كرائدة في قطاع التكنولوجيا العالية فقد دعى الكثيرون لتسمية إسرائيل "وادي سيليكون الشرق الأوسط" (لأن عنصر السيليكون هو المادة التي تُصنع منها شرائح تخزين المعلومات). أضف إلى ذلك، تعود صفتها المميّزة وهي " أنها لا تقهر" إلى قوتها العسكريّة التي تعتبر من أقوى وأكثر الجيوش تدريبا ً في العالم. وتملك إسرائيل حسب التقارير رابع أكبر مخزون من الأسلحة النوويّة في العالم حيث يقدّر ما بين 150 إلى 200 رأس نووي حربي.

 

          لقد كانت تركيا، وهي دولة ذات أغلبيّة مسلمة، في منتهى الأهميّة لإسرائيل. وكان الإسرائيليون يعتبرون العلاقة الإسرائيليّة – التركيّة ثاني أقوى العلاقات أهميّة ً بعد الولايات المتحدة. وهذا يفسّر سبب شعور الإسرائيليين بالإنزعاج والقلق العميقين مع انقلاب الأحداث بتركيا التي احتضنت – من وجهة النظر الإسرائيليّة – بدون ارتباك ٍ أو خجل أعداء إسرائيل اللدودين، وبالأخص إيران ووكلائها،  حماس وحزب الله. وخبرة إسرائيل بالدول العربيّة – من وجهة النظر الإسرائيليّة – وبالأخص بحماس أكثر تعقيدا ً مما تريد أنقرة الإعتراف به. ويجادل الإسرائيليون بأن الإنسحاب من لبنان وغزّة والهجمات الصاروخيّة اللاحقة والحروب التي تلتها تثبت عدم جدوى فكرة الأرض مقابل السّلام بعد الآن. وأصبحت إسرائيل بهذه العقليّة حساسة فوق العادة فيما يتعلّق بعلاقاتها مع العالم الخارجي، وبالأخصّ مع بلدان مثل تركيا التي كانت إسرائيل تعتبرها في الماضي حليفا ً يُركن اليه. والأهم من ذلك، فإن قناعة الإسرائيليين تزداد يوماً بعد يوم بأن تركيا قد قامت بتغيير استراتيجي محسوب لكسب نفوذاً في المنطقة على حساب إسرائيل. ويجادل الإسرائيليون بقولهم أنّ تركيا قد تكون تخلّت عن جهودها لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي لصالح "تجريب حظها" مع الشرق في أن تصبح قوّة

 

-4-

 

إقليمية مسيطرة بينما تنظر لإسرائيل كعائق أمام طموحاتها الإقليمية. وتصرّ إسرائيل على ضرورة أن تدرك تركيا التهديد الحقيقي للمنطقة الناشيء من إيران وأنّ التحسين الحالي في العلاقات ما بين أنقرة وطهران سيكون قصير الأجل.

 

تركيا وإسرائيل – تبادل سوء فهم

          لقد فشلت تركيا وإسرائيل – ولربّما يكونا بذلك قد أخذا بنجاحهما الهائل – في التعامل مع بعضهما البعض حسب مسئولية تحالفهما الاستراتيجي الذي يغطي بطبيعته منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وبناءً عليه، ليس كافياً أن يكون هناك علاقات تجارية وتعاون عسكري فقط بدون فهم حقيقي للمشاكل والطموحات الوطنية لبعضهما البعض.

 

فمن وجهة النظر التركية، قامت إسرائيل بالكاد بمد يدها لأنقرة بطريقة شاملة في موضوع إيران، ليس فقط بمشاركتها الإستخباراتية، بل أيضاً بالأخذ بعين الاعتبار بأنّ لتركيا مصلحة راسخة في المشاركة – وبالأخصّ في الإيرادات النفطية – بدلاً من المواجهة مع جارتها الإيرانية. وفي الوقت الذي تبرز إسرائيل حلفها الاستراتيجي مع تركيا، فقد قامت إسرائيل بقليلٍ من الجهد لتسكين القلق التركي حول عملية السلام العربية – الإسرائيلية المتوقفة ولم تكترث كثيراً لرغبة أنقرة في لعب دورٍ بناء لتوطيد الاستقرار الإقليمي. وقامت إسرائيل أيضاً بإهانة تركيا عندما دعي السفير التركي في إسرائيل لتوضيح مسلسل تلفازي تركي يصوّر الجنود الإسرائيليين كقتلة الأطفال الفلسطينيين. وقد أٌجلس السفير عمداً على مقعد أخفض من مقعد مضيفه الإسرائيلي، نائب وزير الخارجية داني أيالون، بينما كان العلم الإسرائيلي فقط على الطاولة، وهوحدث كان مُذلاًّ جداً لتركيا. زد على ذلك، تشعر تركيا بأن إسرائيل قد ضلّلتها عمداً وبالأخصّ فيما يتعلّق بالمفاوضات الإسرائيلية – السورية بوساطة تركية وذلك بتقصيرها في مشاركة تركيا خطط شنّ حملة "الرصاص المصبوب". وحادثة الأسطول التي قتل فيها ثمانية أتراك ومواطن أمريكي كانت من الجانب الإسرائيلي عملية متهورة وفشلت في الأخذ بعين الاعتبار حساسية الأتراك أو القضايا الإنسانية الفعلية.

-5-

 

          وبالمقابل، يشعر الإسرائيليون أنّ قرب تركيا من إيران يمثّل نقطة رئيسية للافتراق حيث أنّ تركيا وضعت نفسها في قائمة أعداء إسرائيل. الإسرائيليون مقتنعون بأنّ تركيا جعلت من إسرائيل هدفاً لحملاتها الكلامية، وبالأخصّ من طرف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردوغان الذي استهدفت هجوماته السياسية الضارة رفع شعبية تركيا في الشارع العربي. وقد أصبحت إسرائيل متنبهة بشكل خاصّ عندما تبيّن بأن مجلس الأمن القومي التركي عدّل وثيقة سياسيّة ترسم السياسة المحلية والخارجية للسنوات الخمس القادمة وتصف إسرائيل كتهديد رئيسي لتركيا في حين أزالت الوثيقة بصيغة تهكمية إيران وروسيا وسوريا والعراق من لائحة التهديدات. ويصرّ المسئولون الإسرائيليون بأنّ عملية "الرصاص المصبوب" الإسرائيلية وحادثة الأسطول (سفينة مرمرة) ما هي سوى أعذار للعلاقات المتردية وليست الأسباب الفعليّة لذلك. ويجادل الإسرائيليون بقولهم أنّ المرء لا يحتاج أكثر من أن يقرأ كتاب وزير الخارجية التركي دافوتوغلو بعنوان: "البعد الاستراتيجي" الذي يكشف فيه ضرورة أن تصبح تركيا لاعباً إقليمياً ودولياً. وتركيا، كما يراها الإسرائيليون الآن، قد تركت جرعتها الصحية للتكافؤ المعنوي الضروري لموازنة تنفيذ مثل هذه السياسة الخارجية المختلفة والطموحة.

 

          والحجة القائلة بأنّ تركيا قد قامت بتحوّل استراتيجي نحو الشرق على حساب إسرائيل هو سيناريو غير محتمل لأنّ أنقرة تعلم بأنّه بدون تعاون إسرائيل التام سيبقى السّلام والاستقرار الإقليميّان في أحسن الأحوال أمراً محيّراً. أضف إلى ذلك، تركيا ليست بحاجة للتخلي عن علاقاتها الثنائية مع إسرائيل لتصبح قوّة إقليمية قيادية، فالعكس في الواقع هو الصحيح. لقد أجمعت الدول العربية منذ وقتٍ طويل على قبول حقيقة إسرائيل، فهي تدرك بأنّ السلام العربي – الإسرائيلي هو الخيار الحقيقي الوحيد وأنّ باستطاعة تركيا أن تلعب دوراً للدفع به إلى الأمام، الأمر الذي سيزيد فقط من تعزيز قيادتها الإقليمية.

 

                    لقد ارتكبت تركيا وإسرائيل عدداً من الأخطاء التي لا تخدم المصالح الوطنية

 

-6-

 

لأي من الدولتين. وللخروج من هذا المأزق على كلا البلدين أن يظهرا بوضوح بأنّ رغبتهما الصريحة في إعادة علاقاتهما الحميمة مع بعضهما البعض مترجمة لأفعال وفي نفس الوقت إيجاد طريقة للخروج من هذا المأزق تحفظ ماء وجه كلا الطرفين. لن يكون بهذا الخصوص السيد أوردوغان قادراً على التراجع بالكامل عن متطلباته بأن تقوم إسرائيل بالاعتذار لتركيا عن حادث الأسطول وتقدّم تعويضاً مالياً لعائلات الضحايا. وإن فعل ذلك سيكون عرضةً لنقد حادّ وسخرية من طرف أحزاب المعارضة في الانتخابات الوطنية التركية العام القادم. هذا يعني بأنّه في موقفٍ لا يسمح بإظهار زعامة إلاّ بالقدر الذي يقوم فيه بتسوية ما تستطيع إسرائيل أن تقدمه. وبطريقة مماثلة، لا يستطيع السيد نتنياهو أن يعتذر بصفةٍ مفرطة، ليس لأنّ ذلك سيكون معادلاً للاعتراف بالذنب، بل لأنّه هو الآخر تحت ضغطٍ سياسي لإظهار الحزم في وجه ديناميكية التغيير الظاهرة في العلاقات الإسرائيلية – التركية.

 

          وللتحرك قدماً إلى الأمام، على كلا الطرفين الموافقة على التعامل بصورة بنّاءة مع اللجنة المشكلة من طرف الأمم المتحدة للتحقيق في حادث الأسطول وذلك بتوفير جميع البيانات والمعلومات اللازمة وتجنّب تحت أية ظروف الاتهامات والاتهامات المضادّة اللاذعة عند الإعلان عن النتيجة. وأثناء ذلك، يجب على تركيا وإسرائيل أن تتعهدا بفتح حوار بنّاء لتقليص التوتر عبر توافق ما بين مجموعة من القنوات الخاصّة والرسمية ولو أنه سيكون حواراً هادءاً. ولبدء عملية المصالحة، على إسرائيل الموافقة على دفع تعويض كإيماءة إنسانية لعائلات اللذين قتلوا على ظهر الباخرة مرمرة وأن تعتذر فقط للأخطاء التشغيليّة. هذا قد يلبي المطلب التركي دون التسليم بارتكاب عملٍ خاطىء وقد تخطو خطوة كبيرة على طريق تحسين العلاقات المتوترة ما بين الدولتين. وعلى تركيا بالمقابل السماح لدبلوماسيها في عواصم البلدان العربيّة الرئيسية بالتحدث بصورة غير رسميّة لنظرائهم الإسرائيليين. سيكون لمثل هذه الحوارات التي تعقد في جو هادىء تأثيراً ملموساً على إزالة سوء الفهم المتنامي حول نوايا كلّ من الطرفين تجاه الآخر.

 

 

-7-

 

          تحتاج إسرائيل للتحرّر من فكرة أنّ "الميول الإسلامية" لحزب العدالة والتنمية &#15

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE