لا يوجد إستراتيجية نصر
بقلم: أ.د. ألون بن مئيـــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الشئون الدولية بجامعة نيويورك
ويلقي محاضرات حول المفاوضات الدولية ودراسات الشرق الأوسط
بعد حوالي أربعة أعوام من المصائب والنكبات المتتالية في العراق التي أطلقت عنان حرب أهلية وركّعت البلد على ركبتيه, ناهيك عن الخسائر الأمريكية التي وصلت أرقاماً خيالية, ما زال هناك أولئك الحالمون, بما فيهم الرئيس, الذين يتكلمون عن النصر. وعلماً منّا بالوضع المأساوي الحالي في العراق, لا يمكننا بعد الآن أن نشاطر مثل هذا التفكير المتهور.
وفي الوقت الذي يعيد فيه السيد بوش الآن النظر في خياراته في صحوة تقرير مجموعة الدراسة حول العراق, عليه أن يظهر بوضوح سبب وتأثير كل وجه من أوجه "إستراتيجية النصر" التي يراها قبل البدء في مغامرة أخرى محفوفة بالخطر. الشيء المحزن أنّ الواقع في العراق يحول دون إحراز أي نصر بأي مفهوم كلاسيكي, والحلّ الواقعي الوحيد يكمن في تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء بحكم ذاتي على نمط الجزء الكردي الموجود فعلاً الآن, يضاف إليه الجزء الشيعي الذي هو حالياً "قيد الإنشاء" والجزء السنّي الذي يجب أن ينشأ.
هناك بعض الأصوات التي تتمتع بنفوذ في أمريكا, بما فيهم السيناتور جون ماك كين وريتشارد بيرل, أحد المحافظين الجدد البارزين, تنادي بزيادة القوات العسكرية الأمريكية لمدّة محدّدة وذلك لإعادة القانون والنظام إلى العاصمة بغداد وسحق الثورة. ليس هناك مغالطة أكبر من التفكير بأنه من الإمكان سحق الثورة. من المفروض أن يعرف السيد ماك كين بخبرته العسكرية الغنيّة هذا الأمر أفضل. كان منتظرا منه أن يعلم بأنه لا يمكن التغلّب على ثورة عاقدة العزم على البقاء, إن لم يكن النصر, خصوصاً عندما تكون راسخة بعمق في مجتمعات مؤيدة توفّر لها التغطية اللازمة وموارد غير محدودة. علاوة على ذلك, يتحرّك الثوار السنيون في العراق في منتهى المهارة من خلال هذه البيئة. إنهم صبورون ولديهم عدد هائل من مخابئ الأسلحة والذخيرة ويختارون أهدافهم بعناية ويأخذون وقتهم اللازم للضرب كما يريدون. وعندما يواجهون قوّة ساحقة ينغمسون داخل مجتمعاتهم حيث بإمكانهم هناك أن ينتظروا أسابيع وأشهر أو حتى سنوات للظهور ثانية "على السطح" ولكن بكثافة أكبر كما بيّن لنا الطالبان في أفغانستان مقدرة الثوار عندما يعملون داخل بلدهم. قد تبيّن زيادة القوات الأمريكية في البداية بعض ملامح النجاح في محاربة الثورة, ولكن هذا النجاح سيكون قصير الأمد. لا بل عكس ذلك، ستبرهن فقط على أنّها "وصفة" لإصابات وخسائر أمريكية إضافية وتفكك كامل للعراق.
علاوة على ذلك, إن فكرة زيادة المدربين الأمريكيين بعدّة آلاف أخرى كما توصي بذلك وبشدّة مجموعة دراسة العراق, وهي فكرة تبنّاها أيضاً الساعون وراء النّصر, لن تعمل بحد ذاتها. أجل, من الضروري الإسراع في تدريب قوات عراقية موحّدة لتوسيع نطاق وظائفهم الأمنية ولتقليص، ولربّما يوماً ما إلغاء، الوجود الأمريكي كقوة عسكرية في العراق, ولكن يجب أن ينتقل التركيز هذه المرّة على السنّة. وفي حين يبدو ظاهرياً أنّه من البديهي أن تقوم قوات أمن عراقية أفضل تدريباً بمهام أفضل, غير أن الواقع هو أن الجيش والشرطة العراقية مخترقة بالمليشيات الشيعيّة الذي قوّض ولاؤها المشكوك فيه بدرجة كبيرة حيادها. وبالرّغم من أنّ العراق من الناحية التاريخية كان منقسماً على أسس طائفية, غير أن الحرب قد كثّفت هذا الانقسام والفرقة, ويبقى الولاء الأكبر لأفراد وقوات الأمن للقبيلة أو الطائفة التي يتبعونها بدلاً من الوطن والأمة. أضف إلى ذلك, ما دامت الحكومة الحالية والحكومات القادمة تحت سيطرة الشيعة, فإن هذه الحكومات ستبقى متمسكة بمليشياتها التي تعتمد عليها في تقوية قاعدة حكمها وحماية المصالح الشيعيّة قبل أي شيء آخر.
وبالرّغم من ذلك, وخلافاً لكثير من السياسيين الجمهوريين المحافظين الذين لم يوفروا كلمة في انتقاد تقرير مجموعة الدراسة, أجد شخصياً أنه يحتوي على عدد من النقاط الجيدة التي يتعيّن على البيت ألبيض احتضانها, بما في ذلك التوصية بانسحاب القوات الأمريكية المقاتلة مطلع عام 2008. ولكن لتحقيق شيء يقدم للولايات المتحدة أية وسيلة لخروج يحفظ ماء الوجه وفي نفس الوقت يترك أوضاعا تضمن استقرار البلد, على الإدارة أن تدعم الحكم الذاتي للسنة في محافظاتهم الثلاث مع الإبقاء على روابط فيدرالية مرنة مع المجموعات الرئيسية الأخرى. لقد فشلت مجموعة الدراسة لسوء الحظ في معالجة الحاجة المطلقة للسنّة في حكم أنفسهم حيث أنّ هذا أمر أساسي لتحقيق شيئاً من حالة الاستقرار في العراق. وما دام السنّة يخشون على حياتهم لن يكون هناك أمل بانتهاء القتل الطائفي والثورة. وللتخفيف من مخاوفهم, بمقدور السنّة أن تشكّل قوات أمن خاصّة بها بتدريب أمريكي أو الأفضل أوروبي لحمايتهم الآن ومستقبلاً بشكل مشابه كالبشمرغة الكردية. بالإمكان تسهيل هذا الأمر ي الوقت الحاضر خصوصاً وإن الحكومة العراقية تقترب من التوصل لاتفاقية حول توزيع عوائد النفط, وهو شيء يجب على السنّة ضمانه لإقامة كيان اقتصادي حيوي لهم. ولهذا الغرض يجب على الولايات المتحدة أن تصرّ بأن يصبح التوزيع العادل لعوائد النفط قانوناً أساسياً للبلاد تقوم بإدارته وكالة فيدرالية.
يجب الآن إقناع السنّة الذين خسروا السلطة بأن حكم كل العراق لم يعد ممكناً وأن البديل الواقعي الذي يمكنهم فقط تحقيقه هو الحكم الذاتي مع حصّة عادلة من عائدات بيع النفط. فإذا تمّ إقناعهم بذلك, فإن ذلك قد يشكّل نصراً جزئياً للسنّة ويؤدي إلى خروج فيه بعض الكرامة للأمريكيين.
وعلى ضوء هذه الحقائق والمعطيات, يجب وضع أولئك الذين ينادون بنصر تام على الثورة بالوسائل العسكرية في قائمة الخطيرين المتهورين القريبين من المجرمين. إنهم يقامرون بأرواح آلاف الأمريكيين وبالمكانة المستقبلية لأمريكا دون تقديم أية حجة أو بيّنة تدل على أن إستراتيجيتهم لما يدّعونه "نصراً" ليست سوى هلوسة.