هل ضلّلت إسرائيل تركيا
بقلم: : أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة
إنّ انهيار محادثات السلام الإسرائيلية – السورية التي كانت قريبة جداً من إبرام اتفاقية سلام بين الطرفين كان أكبر حدث مزعج عمّق الصّراع المتزايد ما بين تركيا وإسرائيل حول إيران.
لربّما يكون السبب الرئيسي وراء التدهور السريع للعلاقات الإسرائيلية – التركية قبل الأزمة مع إيران هو خيبة أمل تركيا من فشل رئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود أولمرت في إبرام اتفاقية سلام إسرائيلية – سورية، الأمر الذي يعتبر قضية مركزية في الصّدع بينهما. لقد شعرت تركيا بأن أولمرت خدعها لتقصيره في إبرام اتفاقية سلام مع سوريا التي توسّطت تركيا بشأنها باذلةً كلّ جهد. كان يتوقع رئيس الوزراء التركي أوردوغان – الذي وضع شخصياً ثقله السياسي للتوسط ما بين سوريا وإسرائيل – أن يشهد على توقيع معاهدة السلام بين البلدين، غير أنّه فوجىء بدلاً من ذلك بأخبار اجتياح إسرائيل لقطاع غزة. قد يغيّر سلام إسرائيلي – سوري من وجهة النظر التركية وبشكل جذري الأوضاع الجيوسياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط ويؤدي إلى حلّ خلافات وصراعات أخرى وفي نفس الوقت يقوّي على المدى البعيد الإستقرار الإقليمي. لقد كانت من حيث الجوهر فرصة تاريخية بدّدتها إسرائيل.
لم يكن هناك بالنسبة لتركيا كقوّة إقليمية صاعدة شيء أهم من التوسط لسلام ما بين إسرائيل وسوريا وهو أمرٌ لم تتمكن الولايات المتحدة تحقيقه على مدى عقود من الزمن. وقد فرضت هذه الفرصة نفسها في مطلع شهر أكتوبر (تشرين أول) عام 2007 عندما بيّنت سوريا عبر قنوات دبلوماسية سرّية بأنها كانت مستعدّة وراغبة وقادرة على إبرام معاهدة سلام دائمة مع إسرائيل وأنّ دمشق كانت مستعدة للقيام بتنازلات مهمّة لطمأنة أمن إسرائيل
-2-
ومخاوفها المائيّة. ومن المهم جداً أن يُلاحظ هنا بأن تعبير سوريا عن رغبتها في الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل قد جاء فقط بعد ثلاثة أسابيع من قيام إسرائيل بتدمير موقع كان يُشتبه فيه بأنّه مفاعل نووي سوري. لقد كانت سوريا مهتمة بصورة خاصة في توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في تلك المرحلة بالذات نتيجة ازدياد عزلتها الدولية ومحنتها الاقتصادية وبالأخصّ التأكيد على أنه مهما كانت علاقاتها الثنائية مهمّة مع إيران فإنّ لديها مسئوليتها ونظرتها الخاصة وحدودها كذلك، وبالأخصّ على المدى الطويل. والسؤال الذي كان مطروحاً آنذاك بالنسبة لسوريا هو قبول تركيا أو إسبانيا كوسيط ملائم حيث أنّ سوريا أصرّت على أنها تريد التفاوض على اتفاقية سلام مع إسرائيل عبر طرفٍ ثالث. وقد بيّنت دمشق آنذاك وبصورة مقنعة بأنها تريد التحرك للمفاوضات المباشرة عند وضع البارامترات،أي الضوابط الأساسية، للاتفاقية وذلك ما دامت إسرائيل قابلةً بمبدأ أن تكون أية اتفاقية سلام قائمةً على مبدأ مبادلة الأراضي بالسلام وأنّ خطوط هدنة الرابع من حزيران (يونيو) 1967 ستكون المرجع. وقد كشفت دمشق بالفعل عن رغبتها الحقيقية في التوصل لاتفاقية سلام مع إسرائيل في الفترة اللاحقة عبر مراحل جميع المفاوضات بوساطة تركيا.
إنّ قرب تركيا وعلاقاتها المحسّنة مع سوريا وروابطها الممتازة مع إسرائيل في ذلك الوقت استثنت على السّريع اسبانيا كوسيط محتمل. واتفقت الأقطار الثلاثة خلال بضعة أسابيع على شروط وشكليات المفاوضات التي بدأت بجدية في مطلع عام 2008. وبالرّغم من أنّ تفاصيل المفاوضات ما بين إسرائيل وسوريا بواسطة تركيا قد بقيت سريّة، إلاّ أن المفاوضات بحد ذاتها لم تبق سريّة. واستثمرت الحكومة التركية لفترة تزيد عن سنة الوقت الضروري والنفوذ السياسي للتقدم بالمفاوضات بصورة جوهرية. واستناداً إلى مراجع موثوق بها إلى حدٍّ بعيد، فقد تمكنت سوريا وإسرائيل بحلول شهر ديسمبر (كانون أوّل) 2008 من حلّ (95%) تقريباً من خلافاتهما. لقد استطاعت سوريا أن تلبي متطلبات إسرائيل المتشدّدة من ناحية الأمن التي تضمّنت تجريد منطقة الجولان من السلاح وتمركز قوات حفظ سلام على أراضٍ سورية ونظام مراقبة لمنع أي خرقٍ للاتفاقية. أضف إلى ذلك، فقد اتفق الطرفان على انسحابٍ مرحلي للقوات الإسرائيلية لضمان التحوّل والوقت اللازمين لإعادة توطين جميع
-3-
المستوطنين. وعلاوة على كلّ ذلك، فقد وافقت سوريا على توزيعٍ عادل للثروة المائية وتطوير منتزه مشترك وتوفير تراخيص خاصّة للمستوطنين لزيارة الجولان. ومما يثير الاهتمام أيضاً استعداد سوريا للنظر في تنمية منطقة تجارية حرّة في الجولان مفتوحة لجميع الدول في المنطقة وهو مشروع قد يحوّل العلاقات بين إسرائيل وجميع جيرانها إلى الأفضل.
لقد تمّ الاحتفال بالمناسبة بين رئيس الوزراء التركي أوردوغان ونظيره الإسرائيلي أولمرت بعشاءٍ في أنقرة استمرّ خمس ساعات. وكان من المنتظر أن يؤكد السيد أولمرت لنظيره التركي على الاتفاقية الوشيكة خلال الأيام القليلة القادمة بعد استشارة حكومته فور عودته إلى إسرائيل. ولكن عوضاً عن ذلك، ولدهشة الحكومة التركية وفزعها الشديد، شرعت إسرائيل بعد خمسة أيّام من عودة أولمرت إلى القدس في اجتياحها الواسع لقطاع غزة، فشعرت تركيا بأنّها ضُلّلت بهذه الحملة الإسرائيلية وخُدعت لتقصير أولمرت في إعلام رئيس الوزراء التركي بهذه العمليّة الإسرائيلية المبيّتة التي كان بحكم منصبه كرئيسٍ للوزراء على علمٍ تامٍّ بها وكان بإمكانه أن يبوح بها لنظيره التركي خلال تواجده في أنقرة. وبالنسبة للسيد الطيب أوردوغان تعقّدت المشكلة ليس لأنه لم يسمع فقط من أولمرت رسالة السّلام التي كان ينتظرها بشوق، ولكن أيضاً "إعلان" حرب بجميع عواقبه الإقليمية المحتملة.
من الصعب وصف عمق خيبة أمل الأتراك، ليس لأنّهم "تُركوا في الظلام" بل لضياع فرصة اختراقٍ مهمة ذات أبعاد تاريخية في عملية السلام العربي – الإسرائيلي. فبالنسبة لتركيا في صعودها كقوة إقليمية لو نجحت في التوسط لاتفاقية سلام بين إسرائيل وسوريا بعد ستين عاماً من الصراع لوضعت تركيا في مقدّمة لا بل بؤرة الشهرة العالميّة وبالأخصّ لأنّ سلام إسرائيلي – سوري قد يكون له العديد من النتائج الإيجابية الإقليميّة وحتى الدوليّة الأخرى. قد يغيّر هذا السّلام من وجهة النظر التركية الديناميكية السياسيّة للمنطقة ويمهّد الطريق لسلامٍ أوسع بين إسرائيل ولبنان وإسرائيل والفلسطينيين وقد يغيّر أيضاً طبيعة العلاقات العدائية القائمة حالياً بين إسرائيل وإيران متجنباً بذلك صراعاً دموياً محتملاً ما بين
-4-
الدولتين تخشاه أنقرة كثيراً. لقد تصرّفت إسرائيل من وجهة نظر الأتراك كما لو كانت غير مسئولة أمام أية جهة ومستقلة عن أية جهة كانت. تشعر تركيا بأن عليها مسئولية كبيرة في أي صراعٍ يحدث في الشرق الأوسط وهي مشمئزّة من أن تسلّم فقط بسياسات الأمر الواقع الإسرائيلية التي تسير بشكلٍ معاكس للمصالح القومية التركية. لقد ذكر العديد من كبار المسئولين الأتراك بمرارة بأنّ التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل له معنًى فقط عندما يكون هناك تعاوناً تاماً وصريحاً بين الأطراف حول أية قضية قد تؤثر على المصالح الاستراتيجية القومية لأي من الطرفين. ولكن عندما يتصرّف هذا الطرف أو ذاك بطريقةٍ توحي بأنّ التحالف يُستغلّ من جانبٍ واحدٍ فقط، عندها يصبح هذا التحالف بدون معنىً وقد يصبح غالباً مضرّاً بسبب التواقف الاستراتيجي المتأصّل والتعاون بين الطرفين.
وخلافاً للرأي القائل بأن السلطات السورية تتكلّم فقط عن السّلام ولكنها غير مهتمة في صنعه لأن الحفاظ على التوتر مع إسرائيل يسمح لبشّار الأسد، رئيس سوريا، بالبقاء في سدّة الحكم، فإنّ سوريا من كلّ ما نعرفه ما زالت مستعدة وقادرة على عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، ليس لأنّها ضعيفة وجزعة بل لأنّ سوريا تفهم بأنّ ازدهارها ورفاهيتها أخيراً تعتمد على علاقاتها الجيدة مع الغرب، وبالأخصّ اولايات المتحدة، التي تعتبر حاضراً ومستقبلاً الحكم القوي والمطلق في الشرق الأوسط. زد على ذلك، ليس للتّوتر المستمرّ مع إسرائيل أية قيمة استراتيجية وقد يَستفاد منه من الناحية التكتيكية وحتّى لنقطة معيّنة فقط قد تكون فقدت الآن معناها لأنّ إسرائيل تصبح يوماً بعد يوم أقوى من الناحية العسكرية وأكثر ازدهاراً من الناحية الاقتصادية. أضف إلى ذلك، فإنّ دمشق تدرك حساسية وخطورة موقفها فيما يتعلّق بإيران وذلك ليس فقط بسبب عزلة إيران الدولية المتنامية – الناتجة عن برنامجها النووي – بل أيضاً بسبب عدم التوافق المتأصّل مع تصميم سوريا أن تبقى الحكم المسيطر على مصير لبنان.
وبالرّغم من تشكّك إسرائيل من سوريا وبالأخصّ من روابط دمشق الوثيقة مع إيران،
-5-
فإنّه يبدو بأنّ هاجس إيران المستحوذ على إسرائيل حجب العديد من الخيارات الأخرى، وبالأخصّ عقد اتفاقية سلام مع سوريا. ويبدو أنّ حكومة نتنياهو في الوقت الحاضر أبعد حتى بكثير من أي من أسلافها الحكومات الإسرائيلية في التفكير باتفاقية يتم التفاوض حولها مع سوريا تتطلّب بالضرورة إعادة الجولان. وبالنظر لقوّة إسرائيل العسكرية لن تكون سوريا في الواقع قادرةً على استعادة مرتفعات الجولان بالقوة في المستقبل المنظور. ولكن هذا لا يعني بأنّ استمرار التحصين الإسرائيلي في الجولان سيخلق مع مرور الزمن وضعاً لا يمكن إلغاءه أو عكسه بحيث قد يجبر سوريا على التخلّي ببساطة عن مطالبتها بإقليمها. وبالرّغم أنّه من الصحيح أيضاً أن إعادة توطين المستوطنين سيتطلب مليارات الدولارات وسيكون مفجعاً للعديد من الإسرائيليين، غير أنّ مرور الوقت لن يجعل الأمر سوى أكثر تكلفةً وإيلاماً بالنسبة للإسرائيليين. لا يستطيع أحد أن يعوّل على أنّه ستكون هناك مقاومة عنيفة من طرف المستوطنين. سيُعاد توطين الأغلبية العظمى بصورة سلمية بشرط توفير نفس نوعية الحياة وفرص العمل لهم. أيّة حكومة إسرائيلية لا تتمتّع ببعد النظر للمستقبل ولا تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع أية تطورات مأساوية محتومة، حتى لو كان الشعب ليس على دراية بالوضع الحالي، ستلقى (هذه الحكومة) يوماً ما حكم الزمن الذي سيكون قاسياً ولا يرحم.
وبالنظر للصّدع التركي – الإسرائيلي المستمرّ والذي تعمّق أيضاً بحادثة أسطول كسر الحصار على غزة، قد يكون الوقت ليس مبشّراً بالنجاح بالنسبة لتركيا لاستئناف دورها الوساطي، غير أنّ مكانة تركيا كانت وما زالت تؤهلها لأن تكون أفضل وسيط بين إسرائيل وسوريا، ولكن بشرط أن يكون هناك حكومة في إسرائيل قادرة على رؤية النور وليس حكومة مضروبة بالعمى ومنهمكة فقط في شئونها الذاتية، حكومة تسمح لنفسهاعدّة مرات بتفويت فرص لا تعوّض باسم الأمن القومي، في حين أنّها في الحقيقة بقصر نظرها تعرّض قضايا الأمن القومي الإسرائيلي طويلة الأمد للخطر.