ما قبل وما بعد الكارثة الســوريّة
ما بدأ كحرب أهليّة في سوريا قبل حوالي خمسة أعوام قد تطوّر الآن إلى أزمة دوليّة لا تضاهيها أية أزمة أخرى منذ الحرب العالميّة الثانية. وعلى المجتمع الدولي الآن إلتزام مقدّس لإنهاء هذه الكارثة الإنسانيّة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك ما لم تضع كلّ القوى المتضررة أو المتأثرة بالنزاع خلافاتها جانباً من أجل إنهاء معاناة ملايين السوريين. وتعرض الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في جلستها السنويّة المنعقدة الآن على الولايات المتحدة وروسيا وإيران فرصة زخمة للتوصّل لحلّ هو بالتأكيد في متناول اليد إذا هي فقط أرادت ذلك.
لا يمكن إيجاد حلّ للحرب الأهلية في سوريا ولمأساة اللآجئين السوريين التي تتكشف في سوريا إلاّ من خلال هزيمة “داعش”وفي نفس الوقت صياغة حلّ سياسي لمنع تفكك الدولة بالكامل.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بدّ من إشراك جميع الأطراف المعنيّة في سوريا في هذه العملية ، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وإيران وحكومة الأسد التي ُيعتبر تعاونها الكامل محوريا ً لإيجاد حل دائم.
كما ولا يمكن، على أية حال، إيجاد حلّ قبل معرفة المنظور التاريخي والأسباب الجذرية التي أدت إلى هذه الكارثة. وللأسف، فإن الدول التي يتوجب عليها ان تتعاون الآن- وبشكل ٍ خاصّ الولايات المتحدة وروسيا، وإيران – هي إلى حدّ كبير المسبّبة لهذه الأزمة، وإن كان ذلك لأسباب استراتيجية مختلفة.
حرب العراق عام 2003 وسياسة الولايات المتحدة التي أشعلت ذلك قد حطّمت الإستقرار النسبي في الشرق الأوسط. لقد حرّضت الحرب الصراع ما بين السنة والشيعة ودمّرت استراتيجية الإحتواء المتبادل للولايات المتحدة التي استمرّت حوالي عقدا ً من الزمن لمنع أيّ من إيران أو العراق من بسط اليد العليا على المنطقة وسمحت لإيران أن تلعب دوراً مهيمناً في العراق، ممّا جعل العراق ساحة معركة بين السنة والشيعة، و أدت إلى صعود “داعش” في وقت مبكر من عام 2005.
أدى سحق الأسد الوحشي للمظاهرة السلميّة عام 2011 في درعا إلى الحرب ألأهلية، ومكّنت أعمال العنف في العراق وسوريا إلى التقاء عشرات المجموعات المتطرّفة في سوريا. ويشمل ذلك تنظيم القاعدة، جبهة النصرة والصعود الرسمي “لداعش”، الأمر الذي صعّد من وتيرة الحرب الأهلية وخلق أزمة لاجئين ذات أبعاد تاريخية.
وإلحاقا ً بمغامرة الرئيس بوش الكارثية في العراق، دفع الرئيس أوباما تأرجح بندول سياسة الولايات المتحدة في الاتجاه المعاكس. لقد استبدل سياسة الرئيس بوش العدوانية والمضللة بسياسة مفعمة بالتردد والعزلة والتحفّظ ومثقلة بالأطروحات الفكرية، بعيدة كل البعد عن واقع المنطقة، في حين أنها تغفل الدور العالمي الذي لا غنى عنه للولايات المتحدة في حلّ النزاعات.
وفي المقابل، أظهر رئيس روسيا فلاديمير بوتين على طول الخط سياسة واضحة وحاسمة في دعم حليفه الرئيس الأسد. وبوتين كان وما يزال مصمماً على حماية مصالح روسيا في سوريا بالحفاظ على نظام الأسد، الذي لا يزال محوريّا ً لاستراتيجيته. وكما فعل في الماضي، سيواصل بوتين منع أي حل للأزمة السوريّة ما لم يتم ذلك بشروطه. انه لا يتفق مع الولايات المتحدة في أن مشاركة أعمق لروسيا في سوريا قد تصعّد من الصراع. ومستشعرا ً عدم وجود عزم أمريكي وسياسة سليمة لمعالجة الأزمة السورية، شرع بوتين بإرسال المزيد من الأسلحة والمدربين وبناء قاعدة جوية رئيسية جديدة لتعزز وجود روسيا في سوريا.
إنّ رسالة بوتين إلى الولايات المتحدة هي أن روسيا ستكون حازمة في الشرق الأوسط وستفعل كل ما يلزم لدعم قبضة الأسد الضعيفة على السلطة مع تعزيز يد موسكو في أية مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة لحلّ النزاع.
وبالنسبة لإيران، يبقى الحفاظ على نفوذها في سوريا شرطاً أساسيّا ً لحماية الهدف الأكبر، ألا وهو أن تصبح القوة المهيمنة في الخليج، حيث تشكّل سوريا العمود الفقري لهلال طهران الذي يمتد من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط. ولذا تستمر ايران في إمداد الأسد بدعم عسكري ضخم يزخر بالمستشارين والإستخبارات والقوات البرية. كما أن إيران في وضع يمكّنها من منع أي حل للحرب الأهلية في سوريا ما لم تُصان مصالحها الإستراتيجية. وبصرف النظر عن مدى الدمار الذي لحق بسوريا، سوف تستمر طهران في دعم الأسد لآخر جندي سوري.
وعلى الرغم من أنّ بقاء قوة الأسد يعتمد إلى حدّ كبير على استمرار دعم إيران وروسيا، فإنه ما يزال- على عكس وجهات النظر التي ما زالت سائدة في واشنطن – جزءاً هاماً من أي حلّ.
الأسد يعلم أيضاً أنه على الرغم من أنّ إيران وروسيا قد تتخذا العديد من الإجراءات من جانب واحد في سوريا، غير أنهما لا يستطيعان تحدّى الولايات المتحدة والإفلات التام من العقاب، وخاصة لأن الولايات المتحدة تقود التحالف المشكّل من العديد من الدول التي تحارب “داعش”، الأمر الذي يخدم مصالح روسيا وإيران والأسد نفسه.
وعليه، فإن أهمية الأسد ودوره سيضمحلّ بمجرد هزم “داعش”. وحيث أن الأسد خسر بلا رجعة الكثير من شرعيته الدولية، سيّصبح في غنى ً عنه في نظر روسيا وإيران في حالة قيام البلدين بتأمين مصالحهما في سوريا ما بعد الأسد. وأي مراقب مهتمّ بمجريات الأحداث والإضطرابات في سوريا سيقول أنه في أعقاب هزيمة “داعش” لن يكون هناك سوى حلّ سياسي لإنهاء الحرب الأهليّة في سوريا، وليس للولايات المتحدة خيار آخر سوى العمل مع روسيا وإيران.
ولذا، وللحفاظ على الدور القيادي لأميركا، يتعين على الرئيس أوباما أن يشمل روسيا وإيران في البحث عن حلّ ووضع استراتيجية جديدة تمكّن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة من احتضانها:
أولاً، وضع استراتيجية شاملة لهزيمة “داعش” يجب أن يشمل إدخال قوات برية. ويؤكّد أيّ خبير إستراتيجي عسكري بأنه لا يمكن تدمير “داعش” من الجو وحده، والقوات العراقية لا تستطيع هزيمة “داعش” بدون قوات إضافية بريّة هامّة من بلدان أخرى. وتكوين هذه القوات البرية هي قضية حساسة، ولكن حان الوقت لإدارة أوباما لقبول الواقع على الأرض والتفاوض مع روسيا وإيران وكذلك المملكة العربية السعودية على تشكيل مثل هذه القوة.
بالتأكيد القول أسهل من الفعل، ولكن الهدف النهائي من هزيمة “داعش” يخدم مصالح جميع الأطراف، الأمر الذي يتجاوز الخلافات بينها. (وبالمناسبة، فقد أفيد بأن القوات الإيرانية والروسية تقاتل بالفعل ضد المتمردين وضد “داعش”).
ثانيا ً، وحيث أنّ القتال ضدّ “داعش” مستمرّ، يجب في نفس الوقت تضافر جميع الجهود وبقوّة لإنهاء الحرب الأهلية من قبل جميع القوى المعنية. بإمكان الولايات المتحدة بالتأكيد ممارسة الضغط على الثوّار، في حين تقوم روسيا وإيران بإجبار الأسد على إنهاء أعماله العدائية.
ثالثاً، يجب على كلّ القوى المعنية أن تعمل معاً للمساعدة في تشكيل حكومة تمثيلية انتقالية (5-7 سنوات). وحيث أنّ لا روسيا ولا إيران ستتخلى عن الأسد ما لم تؤمّن مصالحها المستمرة ونفوذها في سوريا، يجب شمول الأسد في البداية في هذه الحكومة الإنتقاليّة. وعلى ضوء ذلك، يجب أن تعكس تشكيلة الحكومة البنية الديمغرافية للبلد، بما في ذلك العلويين.
رابعاً، يمكن أن تصل الولايات المتحدة الى اتفاق مع روسيا وإيران يستدعي أن يتنحّى الأسد “طوعاً” بعد عام ٍ أو عامين كحد أقصى ويؤمّن له عبور آمن إلى أي بلد من شأنها أن تقبل به جنباً إلى جنب مع كبار مساعديه السياسيين والعسكريين ومسؤولي الأمن الداخلي الملطخة أياديهم بالدماء.
خامساً، ولتجنب الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، يجب أن تبقى البيروقراطية السورية الحالية، والأمن الداخلي، ويجب أن يبقى الجيش في مواقعه لمنع تطوّرات فوضويّة جديدة قد تحدث. لن تقبل، في الواقع، العديد من الجماعات المتطرفة التي لديها أجندتها الخاصة أي نظام سياسي جديد وسوف تفعل كل ما يلزم لنسفه.
سادساً، ينبغي وضع خطة شاملة للتعامل بفعالية مع مشكلة اللاجئين واسعة النطاق. لا يمكن إيجاد حلّ على أساس كم من اللاجئين يمكن للمجتمع الأوروبي والولايات المتحدة أن تستوعب. سواء أدخل هؤلاء ثلاثة أو أربعة مائة ألف لاجىء، هذا العدد يبهت بالمقارنة بما يقرب من خمسة ملايين لاجئ يسعون إلى إعادة توطينهم مرة أخرى في بلدهم.
وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب الآن إعادة إحياء فكرة فرض منطقة حظر جوي وأخذها بجديّة بعين الإعتبار بحيث يتمكّن تدفق اللاجئين المستمرّ من إيجاد مساكن مؤقتة، ورفع بعض العبء عن الأردن وتركيا ولبنان، الذين استوعبوا بشكل جماعي أكثر من أربعة ملايين لاجئ.
لقد حان الوقت للمجتمع الدولي أن يرقى إلى مستوى الإلتزام الأخلاقي لإعادة توطين اللاجئين السوريين وجباية المبلغ اللازم لذلك من المال، وهو جزء ضئيل ممّا ُينفق على الجيوش (وحدها حرب العراق كلّفت حوالي 2 تريليون دولار أمريكي).
وفي حين أنّ الإلتزام الأول لجميع البلدان هو حماية مصالحها الوطنية، يجب على روسيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية أن تدرك أن استمرار تدمير سوريا، وتزايد عدد القتلى الذي تجاوز حتّى الآن 300.000، وتشريد أكثر من 12 مليون سوري، والإمتداد الذي لا مفر منه إلى البلدان المجاورة، سيطاردهم في نهاية المطاف إن لم يكن قد بدأ بذلك بالفعل.
هذه ليست صيغة مثالية وقد يعتقد الكثيرون بأنها تقوم على افتراضات غير واقعية أبعد من عالم الإحتمالات. وأنا أتفق مع هذا القول بأنها ليست مثالية وليس هناك صيغة من شأنها أن تلبي تماماً جميع رغبات اللاعبين المشاركين. ولكنني مضطرّ أن أتساءل رغم ذلك كلّه: ما هو البديل؟ هل هناك حلّ قابل للتطبيق من شأنه أن يستثني أو يستبعد روسيا وإيران؟
روسيا وإيران راسختان بعمق في سوريا، ولا يمكن تفكيكهما عنها وسيبقيان دائماً لاعبين في تشكيل مستقبل سوريا. والولايات المتحدة ليس لديها خيار سوى قبول هذه الحقيقة البسيطة.
يتعين على الرئيس أوباما أن يستخدم خطابه في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة للتعبير عن سياسة جديدة لوضع حد للحرب الأهلية في سوريا ومبادرة جديدة لإنهاء محنة اللاجئين السوريين. إنه لن يكون قادراً على القيام بذلك، على أية حال، بدون الدعم الكامل والتعاون من طرف روسيا وإيران، اللتين من المرجّح أن يركز قادتهما على الأزمة السورية خلال خطابيهما أمام الجمعية العامة.
وبناء ً على ذلك، يقدّم التوصل إلى حلّ للحرب الأهلية في سوريا فوائد كبيرة لأنه سوف يحبط العديد من الصراعات المستعصية في الشرق الأوسط ويفتح الباب لمزيد من التعاون بين روسيا والولايات المتحدة لتسوية خلافاتهم بشأن أوكرانيا، والولايات المتحدة وإيران فيما يتعلق بالصراعات المختلفة في المنطقة.
وهذا بدوره سوف يطلق عملية لتخفيف وتهدئة الأعمال العدائيّة بين الأعداء التقليديين في المنطقة التي يمكن أن تستفيد منها إلى حدّ كبير الولايات المتحدة وحلفاؤها ، في حين تنهي أفظع مأساة العقود السبعة الماضية.