بداية نهاية عهد أردوغان
تمثل نتيجة الإنتخابات البلدية الأخيرة في تركيا تحولًا كبيرًا في المشاعر العامة تجاه الرئيس أردوغان ، والذي سيكون له تداعيات سياسية كبيرة ستلحق به العار. صحيح أن الأزمة الإقتصادية وعدم الكفاءة التي أظهرها في التعامل معها لعبت دوراً هاماً في الإنتخابات والخسائر المدمرة لحزب العدالة والتنمية في أكبر المدن ، وخاصة مسقط رأسه اسطنبول. ومع ذلك ، هناك عوامل رئيسية أخرى ساهمت بشكل مباشر في الإشمئزاز العام من خلال حكم الرجل الواحد الذي لا يرحم. قدمت الإنتخابات المحلية أول تعبير عن الغضب الشعبي الذي بدأ يتصاعد على مدار السنوات القليلة الماضية ، والذي عكس فيه أهم الإنجازات الإجتماعية والسياسية والقضائية بينما كان يزيل بشكل منهجي ما تبقى من ديمقراطية تركيا.
وبالنسبة لأردوغان ، لا يمكن أن يخدم شكل ديمقراطي من الحكم طموحه في أن يصبح القائد المطلق الذي يستطيع أن يحدد مصير تركيا كدولة إسلامية وأن يكون رئيسًا للعالم الإسلامي السني. كما قال ذات مرة ، “الديمقراطية مثل الحافلة ، بمجرد وصولك إلى وجهتك تنزل منها”. وفي أعقاب الإنقلاب العسكري الفاشل الذي اتهم به خصمه القوي فتح الله غولن بالتنسيق له ، قام بإقالة حوالي 125.800 موظف حكومي وتعرض ما يقرب من 446.000 لاستجواب قاسٍ.
في حملة غير مسبوقة ، تم سجن 17000 امرأة مع أكثر من 700 طفل صغير وتعرضن للتعذيب. لقد اضطهد بشكل منهجي المجتمع الكردي في البلاد وحرمه من حقوقه الإنسانية الأساسية. علاوة على ذلك ، قام بإغلاق ما يقرب من 130 قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية وصحف ومجلات ودور نشر ، واعتقل 231 صحفياً. تسببت عمليات التطهير التي قام بها في معاناة أكثر من مليون ونصف المليون شخص كانت أفراد أسرهم هدفا ً لأردوغان.
لا شك أن أردوغان جعل من تركيا دولة بوليسية. الأتراك العاديون مرعوبون من الإنتهاكات التي تتكشف لأنه لم يسرق حريتهم فحسب بل كرامتهم أيضا ً. وفي ظل هذه البيئة أجريت الإنتخابات الأخيرة وكانت النتيجة ، ولا غرابة في ذلك ، إنعكاس لغضب الجمهور.
أدت الرياح السياسية المتغيرة إلى إضعاف أردوغان إلى حد كبير ، ونتيجة لذلك ، أصبحت أحزاب المعارضة أكثر جرأة لتحدي أردوغان. وبخلاف سآمة الناخبين من حزب العدالة والتنمية ، تضافرت قوى أحزاب المعارضة ، وهي حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الكردي ، واستفادت بالكامل من استياء الجمهور من الطريقة التي تعامل بها أردوغان مع الأزمة الإقتصادية. وعلى الرغم من أنهم بالكاد تلقوا أي تغطية في وسائل الإعلام ، إلا أنهم كانوا قادرين على إحراز تقدم كبير في الإنتخابات.
أصبح منافس أردوغان السياسي السابق والشريك الحالي في الإئتلاف ، ديفلت باهجيلي ، ذات نفوذ ٍ كبير بائتلافه مع أردوغان وحكومته ، حيث أن التحالف بالنسبة لأردوغان مهم للغاية للحفاظ على أغلبيته البسيطة جدّا ً في البرلمان. إن هذا التحول في الديناميكية السياسية هو علامة على تلاشي سيطرة أردوغان القوية على السلطة ، ويبدو أنه لا يوجد أي احتمال بأن يستعيد أردوغان ثقة الجمهور التي خانها بطريقة تعسفيّة.
يصور أردوغان نفسه كمسلم متدين. فبالعودة إلى شهر ديسمبر/كانون أول 1997 ، سُجن بسبب بيانه العلني الذي يربط بين الإسلام والحملة الصليبية العسكرية ، مستشهدا بقصيدة تنص في جزء منها: “إن المساجد هي ثكناتنا والقباب خوذاتنا والمآذن حرابنا والمؤمنون هم جنودنا”. ويستغل أردوغان خلفيته الدينية ليصّور نفسه على أنه رجل تقي ، ويستخدم الدين كأداة سياسية لأنه مصمم على تحويل تركيا إلى دولة إسلامية محافظة.
ولتحقيق هذه الغاية ، اتبع أجندة إسلامية عدوانية تغرس في الوعي العام بأن رفاهيتهم بشكل ٍ عام مرتبطة مباشرة بكونهم مسلمين متدينين. لقد قام ببناء مئات المساجد والمؤسسات التعليمية الدينية ، ليس فقط في تركيا ولكن في دول البلقان وأفغانستان وباكستان وحتى بعض الدول الأوروبية.
ونظرًا لأن الأتراك بشكل عام أكثر توجهاً نحو الغرب ، فإن محاولات أردوغان المتزايدة لإدخال الإسلام في المجتمع والسياسة محطّ إستياء الجمهور لأنها تتعارض مع اعتقاد الجمهور بأن كونك مسلماً يمكن أن يسير جنباً إلى جنب مع الثقافة الغربية. يحمّل الجمهور أردوغان المسؤولية بأنه ضيّع الفرصة لجعل تركيا عضواً في الإتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك ، فإن أردوغان مصمم على إحياء العديد من عناصر الإمبراطورية العثمانية باستخدام القوة الناعمة للتأثير على السياسات واتجاه العديد من البلدان التي كان يهيمن عليها العثمانيون ذات يوم. أخبرني رئيس وزرائه السابق داود أوغلو أنه بحلول عام 2023 الذي يصادف الذكرى المئوية لقيام جمهورية تركيا الحديثة ستمارس تركيا نفوذًا كبيرًا على هذه الدول مثلما فعلت الإمبراطورية العثمانية في أوج عهدها.
ولغرس صور من العهد العثماني بنى أردوغان لنفسه قصرًا رئاسيًا يتكون من 1150 غرفة. وبعكس إرادة الناس في اسطنبول ، فقد إستمرّ في خطته وحوّل قسمًا كبيرًا من ميدان تقسيم إلى مركز تجاري ضخم يضم أحد أكبر المساجد المصمم معمارياً ليعكس الحقبة العثمانية. والإستثمارات الضخمة التي قام بها أردوغان للترويج لإحياء وهمه بالعصر العثماني خيبت بشكل كبير آمال حتى بعض أتباعه المتحمسين الذين تعتبر قضايا الخبز والزبدة أكثر أهمية بالنسبة لهم ، خاصةً عندما يتعثر الإقتصاد ويصبح من غير المرجح أن يتعافى في وقت ٍ قريب.
علاوة على ذلك ، بالنسبة لأردوغان ، أصبح التحالف الوثيق مع الغرب عقبة أمام تحقيق طموحاته الوطنية ، واتخذ قرارًا بداخله بأن ينأى بنفسه عن حلفائه. ومتجاهلاً تحالف تركيا المهم مع الولايات المتحدة ، قام بسجن القس برونسون واستخدمه دون جدوى كورقة مساومة لإجبار الولايات المتحدة على إطلاق سراح فتح الله غولن. كما أن أردوغان كان وما زال مصمماً على سحق الأكراد السوريين (YPG) الذين يُعتبرون أقرب حليف للولايات المتحدة في الحرب ضد “داعش” وعلى إقامة موطئ قدم دائم في سوريا، وهو أمر ٌ تعترض عليه الولايات المتحدة بشدة، الأمر الذي زاد من توتر العلاقات مع الولايات المتحدة.
لقد تحدى أردوغان زملاءه من أعضاء حلف الشمال الأطلسي “الناتو” من خلال شراء نظام دفاع جوي متطور من العدو الأكثر غرابة للغرب، وهي روسيا ، مما قد يعرض التكنولوجيا العسكرية للولايات المتحدة للخطر. وفي تصريح لكورتيس سكاباروتي ، جنرال في الجيش الأمريكي وقائد حلف الناتو، أمام مجلس الشيوخ في مارس / آذار قال: “إن أفضل نصيحة عسكرية لدي هي ألا نتابع الأمر مع الطائرة F-35 ، أكان بطيرانها أو العمل بها مع حليف يعمل مع الأنظمة الروسية ، خاصة أنظمة الدفاع الجوي ، مع واحدة من قدراتنا التكنولوجية الأكثر تقدما. “
تركيا تحت حكم أردوغان لم تلتزم بالكامل برسالة الناتو. رفض أردوغان كعضو في حلف شمال الأطلسي تلبية شرطه الأساسي ، وهو الإلتزام التام بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وينظر معظم الأتراك إلى تباعد تركيا المتزايد عن الغرب على أنها نكسة كبيرة لبلدهم حيث لن يتم تصحيحها طالما ظل أردوغان في السلطة.
إن تقارب أردوغان المتنامي مع بوتين يبعث على القلق بالنسبة لمعظم الأتراك الذين يعتقدون أن بوتين يعمل فقط لصالح بوتين وسوف يفعل أي شيء لتقويض مصلحة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وإضعاف التحالف بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وزعزعة استقرار الناتو. ويعد تعاون أردوغان جزءًا من مخطط بوتين الشرير. إن العمل عن كثب مع زعيم إيران إلى جانب بوتين في البحث عن حل للأزمة السورية واستبعاد الولايات المتحدة عمداً من العملية يقدم مثالاً صارخاً آخر على المدى الذي سيذهب إليه أردوغان في تحدي حلفائه الغربيين.
يقول البعض إن نتيجة الانتخابات المحلية ضارة بالفعل لأردوغان سياسيا لكنها لن تقوضه على المدى الطويل. أنا لا أوافق على ذلك. فنظراً للفزع العام والإستياء من حكمه الوحشي ، فإن بداية نهاية عهد أردوغان قد بدأت وختم سقوطه ؛ السؤال الوحيد هو متى.