هل يستطيع أردوغان التخلص من ازدواجيته والقيام بشيء صحيح؟
كان من الممكن للرئيس التركي أردوغان أن يخرج من الحرب بين إسرائيل وحماس كصانع للسلام. وبدلاً من ذلك، بعد أن انغمس في التقوى الزائفة والنفاق والحماقة، اختار تأجيج نيران الحرب المروعة، مما أدى إلى تسميم الأجواء بشكل أكبر وزيادة العداء والكراهية بين إسرائيل والفلسطينيين. فهل يستطيع أردوغان التخلص من نفاقه ولعب دور بناء؟
عندما أكتب عن الرئيس التركي أردوغان أجد صعوبة في توضيح نوع الإرث الذي يريد هذا الرجل أن يتركه وراءه. لقد أتيحت له كل الفرص ليصبح قائدا عظيما لأمة عظيمة لكنه فشل فشلا ذريعا. إن تعظيمه لذاته، وحماسته الدينية الزائفة وشهوته المتزايدة للسلطة منعته من تمييز ما هو الأفضل لبلاده وكيف يصبح زعيماً بنّاءً وصادقاً يحظى بالإعجاب والاحترام في الداخل والخارج، وهو ما كان يرغب فيه بشدة. ومن بين إخفاقاته العديدة، أضاع أردوغان فرصة مهمة أخرى كان من الممكن أن تجعله يظهر كصانع سلام إقليمي فوق كل الآخرين.
فبدلاً من استخدام مساعيه الحميدة للاستفادة من النموذج المتغير للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الناتج عن هجوم حماس المروع على المجتمعات الإسرائيلية والذي أدى إلى الحرب المأساوية بين إسرائيل وحماس، والسعي نحو المصالحة بين الجانبين، اختار أن يثير المزيد من الكراهية والمقاومة ضد إسرائيل. فهو منافق يحاول استغلال الحرب المأساوية بين إسرائيل وحماس فقط لتعزيز مؤهلاته الإسلامية الزائفة.
أردوغان لم يقم ولو مرة واحدة بإدانة المذبحة التي ارتكبتها حماس بحق 1200 إسرائيلي بريء، ولكنه لم يتردد في اتهام الحكومة الإسرائيلية بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. ومع ازدرائه المعتاد لإسرائيل، قال بلا خجل لأعضاء حزب العدالة والتنمية: “أقول بوضوح أن إسرائيل دولة إرهابية؛ نحن نواجه إبادة جماعية”. وشدد في الوقت نفسه على أننا “سنواصل رؤية إخواننا في حماس الذين يدافعون عن وطنهم ضد المحتل، كمقاومة وطنية لفلسطين”.
إذا صدر مثل هذا التصريح من فم زعيم ارتكبت بلاده إبادة جماعية ضد ما يقرب من مليوني أرمني ومئات الآلاف من اليونانيين ويسجن حاليّا ًعشرات الآلاف من المواطنين بينما يشن حملة لا هوادة فيها ضد حزب العمال الكردستاني والمجتمع الكردي السوري. – إذا لم يكن هذا قمّة النفاق، فما هو؟
وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من سحب سفير تركيا من إسرائيل، فإنه يواصل التجارة مع إسرائيل بمئات الملايين من الدولارات. ومرة أخرى، يظهر ازدواجيته بالكامل، مشيرًا إلى أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تفرض قيودًا تجارية على إسرائيل فيما يتعلق بـ 54 منتجًا. يا لها من “تضحية” كبيرة قادمة من شخص نصب نفسه إسلامياً ومدعيّا ً بأنه يهتم كثيراً بـ “إخوانه الفلسطينيين” من خلال حظر استيراد 54 منتجاً إسرائيلياً.
أذكر ما ورد أعلاه لوضع ما كان يمكن لأردوغان أن يفعله بشكل مختلف للمساعدة في دفع حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، خاصة وأن تركيا اعترفت بإسرائيل في عام 1949، بعد عام واحد فقط من تأسيس الدولة، وحافظت على علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ، وإن كان ذلك مع بعض الصعود والهبوط منذ ذلك الحين. وعلى مر السنين، ازدهرت السياحة والتجارة بين البلدين بشكل كبير. علاوة على ذلك، ساعدت إسرائيل في تحديث جزء كبير من القوات الجوية التركية مع تزويدها بالتكنولوجيا المتقدمة للاستخدام العسكري والمدني. وللتأكيد، بغض النظر عن سلوك أردوغان الشاذ ودعمه لحماس، قدّرت إسرائيل علاقاتها مع تركيا بشكل كبير بسبب ما ورد أعلاه وبسبب أهمية أنقرة الجيواستراتيجية.
يتمتع أردوغان وقادة حماس أيضاً بعلاقات جيدة، ويرجع ذلك إلى الوقت الذي أطاحت فيه حماس بالسلطة الفلسطينية من غزة في عام 2007. كان هناك تقارب فوري بينهما، حيث رأى كل منهما نفسه إسلاميا سنيا متدينا يتقاسمان نفس القيم الدينية. وبخلاف إيران الشيعية، كانت حماس بحاجة إلى دعم دولة إسلامية سنية ذات أهمية تتمتع بعلاقات غربية قوية. وفي الوقت نفسه، سعى أردوغان إلى إقحام نفسه في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتصوير نفسه على أنه حامي القضية الفلسطينية، حيث يمكنه أن يكتسب هيبة ويمارس نفوذًا كبيرًا.
ولتحقيق هذه الغاية، قدم الدعم المالي وكذلك الملاذ لقادة حماس، ممكنّا ً إيّاهم من العمل من بلاده دون أي عائق أو خوف من استهدافهم من قبل إسرائيل. كما قدم الجنسية التركية لكبار قادة حماس واحتضنهم بكل إخلاص، حتى عندما كانت حماس تدعو علنًا إلى تدمير إسرائيل. ومع ذلك، تمكن أردوغان من الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من إسرائيل وحماس على الرغم من أن كل منهما ينظر إلى الآخر على أنه تهديد وجودي.
إنها العلاقات مع إسرائيل وحماس التي تمكّن أردوغان من الحفاظ عليها على مر السنين هي التي أعطته فرصة نادرة وميزة، على الأقل، للمساعدة في تخفيف صراع حماس مع إسرائيل، خاصة في هذا المنعطف من الحرب الإسرائيلية – الحمساوية على غزة ونكبتها المتكشفة.
وفي حين يعارض أردوغان بشدة احتلال الضفة الغربية والحصار المفروض على غزة، فإنه يدرك أيضا أن إسرائيل لن تتخلى عن سيطرتها على أي من المنطقتين طالما أن حماس وغيرها من الفلسطينيين المتطرفين يدعون إلى تدميرها. وكان بوسعه أن يوضح لقادة حماس أنه على الرغم من أن القادة الإسرائيليين المتعاقبين يدركون أن حماس لن تكون في وضع يسمح لها أبداً بتدمير بلادهم، فإنهم يستخدمون خطاب حماس لتبرير الاحتلال والحصار باسم الأمن القومي.
يدرك أردوغان أيضاً أن التعايش الإسرائيلي – الفلسطيني ليس أحد الخيارات العديدة؛ إنه الخيار الوحيد. وسواء قبلت حماس بهذا الواقع أم لا، فليس هناك ما يمكنها فعله حيال ذلك. لا أحد يتمتع بمصداقية أكبر لدى حماس من أردوغان الذي اكتسب ثقتهم على مر السنين بسبب دعمه الذي لا يرقى إليه الشك وتحديه لتصنيف المجتمع الدولي لحماس كمجموعة إرهابية، حيث ينظر إليها باعتبارها حركة تحرير وطني.
قد تنجح إسرائيل في منع حماس من إعادة تشكيل نفسها باعتبارها السلطة الحاكمة في غزة. لكن من المؤكد أن حماس كحركة سياسية ستصمد لأنها وقفت في وجه إسرائيل التي غيرت ديناميكية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وخلقت نموذجا جديدا، مما يجعل من المستحيل العودة إلى الوضع الراهن الذي كان قائما قبل السابع من أكتوبر 2023.
تركيا هي الدولة الوحيدة التي تعترف بإسرائيل وتقيم علاقات دبلوماسية معها، وفي الوقت نفسه تتمتع بعلاقات دافئة مع حماس. يمكن لأردوغان استغلال موقعه الفريد لبدء محادثة مع قادة حماس وإيقاظهم على واقع إسرائيل الذي لا يمكنهم الهروب منه. لقد وصلت العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية إلى الحضيض بالفعل، ولم تكن مسمومة كما هي الآن منذ عام 1948. ولكن عندما يحدث انهيار في علاقة بهذا الحجم، فإن ذلك يقدم أيضاً فرصة تاريخية لتحقيق اختراق.
لقد نجحت حماس، ولو بطريقة مروعة، في تغيير ديناميكية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وبوسعها أن تدعي النصر على الرغم من سحقها في غزة. لقد أعادت حماس حل الدولتين إلى الطاولة، وهو الحل الذي يتطلع إليه الفلسطينيون بشدة، وبطريقة غريبة نجحت حماس في تعزيز هذا الاحتمال بشكل كبير.
نحن لا نعرف على وجه اليقين كيف ومتى ستنتهي حرب غزة، لكننا نعرف بالتأكيد شيئا واحدا. ستظل حماس، بشكل أو بآخر، وإسرائيل، هناك في النهاية، ويجب على كل منهما أن يختار إلى أين يريد الذهاب من هنا. ولدى أردوغان الآن فرصة ذهبية لاستخدام نفوذه على حماس لتلطيف موقفها تجاه إسرائيل، وأن يكون صانع سلام بدلاً من داعية للحرب، ويفتح الباب، ولو قليلاً، أمام عملية مصالحة، وهو شرط أساسي للتوصل إلى سلام إسرائيلي – فلسطيني دائم.