للنزاعات في العراق وسوريا قاسم مشترك
إنّ النزاعات الطائفيّة المتصاعدة حاليّا ً بين قوات الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) من ناحية والقوات العراقيّة النظاميّة من الناحية الأخرى، وكذلك الحرب الأهليّة المستمرّة في سوريا، هي الآن محبوكة ومتضافرة مع بعضها البعض بحيث لا يمكن حلّ أيّ منها دون الآخر، الأمر الذي يتطلّب تغييرا ً جذريّا ً في الخارطة السياسيّة والعسكريّة في كلا البلدين، سوريا والعراق.
وما يحدث الآن في العراق وكيفيّة تطوّر الأحداث في الأشهر والسنوات القادمة، هذا كلّه مرتبط بشكل ٍ مباشر بثلاثة تطورات أو عوامل مركزيّة:
أوّلا ً، حرب العراق المضلّلة التي شنّها الرئيس جورج بوش والتي أحدثت النزاع المسلّح ما بين السنّة والشيعة في المنطقة. وثانيا ً، فشل الرئيس أوباما في التوصّل لترتيب ٍ أمني في العراق قبل انسحاب القوّات الأمريكيّة منه وفي ربط الإستمرار بالدعم الأمريكي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بشرط إقامة حكومة مصالحة وطنيّة شاملة. وثالثا ً وأخيرا ً، عدم رغبة الولايات المتحدة في تزويد الثوّار في سوريا في وقت ٍ مبكّر بأنواع الأسلحة والمعدات العسكريّة التي هم بحاجة لها للحدّ من مجازر الأسد. وهذه جميعها متّحدة ً قد ساهمت في تدفّق القاعدة والمجموعات الإسلاميّة الجهاديّة لداخل العراق وثمّ لداخل سوريا مسبّبة ً الرّعب المتصاعد الذي نشهده اليوم.
لقد أجبرت أخيرا ً تركة حرب العراق إدارة أوباما لإعادة تقييم مشاركتها، أو بالأحرى عدم مشاركتها، في النزاعات المسلّحة المحتدمة في العراق وسوريا، وعلى الإدارة الآن وضع استراتيجيّة قد تساعد في تهميش دور قوات “داعش” في كلا البلدين.
لا يوجد حلّ جاهز وواضح. والصراع الدموي في كلا البلدين المجاورين لبعضهما البعض يتجاوز طموح “داعش” في إقامة دولة إسلاميّة سنيّة تشمل العراق وسوريا. وسيبقى هناك نزاع مسلّح ومستمرّ متأصّل ما بين السنّة والشيعة لعدّة سنوات. لقد وصل هذا النزاع ذروة ً جديدة باستلام إيران الشيعيّة والمملكة العربيّة السعودية السنيّة قيادة طرفي الصّراع الشيعي والسنّي ويشنّ كلا البلدين حربا ً بالوكالة في سوريا والعراق بهدف الحفاظ على هيمنتهما، إن لم يكن الإبقاء على نظام حكمهما.
ولهذه الأسباب، على الولايات المتحدة الآن أن تضع استراتيجيّة متعدّدة الجوانب تعالج أوّلا ً الحاجة الملحّة لوقف تقدّم قوّات “داعش” نحو العاصمة بغداد ثمّ التحرّك لمعالجة الصّراع السنّي – الشيعي المزمن الذي يسبّب بلاءاً للمنطقة بأكملها.
وفيما يتعلّق بالعراق، لا خيار للولايات المتحدة سوى أخذ زمام القيادة وترتيب ردّ عسكري مناسب ضدّ قوات “داعش”. ويجب أن يكون هذا العمل مشروطا ً بالتعاون التامّ من طرف نوري المالكي على الجبهة العسكريّة من ناحية والموافقة على تشكيل حكومة وفاق جديدة تشمل الأكراد والسنيّين. أضف إلى ذلك، ولإظهار بوادر حسن النيّة وإغراء زعماء القبائل السنيّة لدعم الجهود ضدّ “داعش”، يجب على الولايات المتحدة أن تصرّ على أن يقوم المالكي بإطلاق سراح آلاف السجناء السنيين المعتقلين منذ سنوات بدون محاكمة ووقف حضّ الشبّان الشيعيين (جنبا ً إلى جنب مع آية الله علي سيستاني) لتشكيل ميليشيات ضدّ قوات “داعش”، الأمر الذي يشكّل وصفة لحرب طائفيّة موسّعة وللفوضي.
وحيث أنّه من غير المحتمل أن يتخلّى نوري المالكي عن السلطة بمحض إرادته، يُفترض على الولايات المتحدة خلال الأشهر القليلة القادمة أن تشجّع بصمت قادة شيعيين عراقيين آخرين غير راضين عن رئيس الوزراء السّلطوي الفاسد وملتزمين بقيام حكومة وفاق وطني لإخراجه من السلطة، الأمر الذي سيكون ضروريّا ً لتغيير الخارطة السياسيّة المحليّة وتشجيع الأكراد والسنّة – الذين يمقتونه بشدّة ولا يثقون به – على التعاون على المدى الأطول.
أضف إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تعمل كلّ ما بوسعها لاحتواء العداء المتبادل ما بين العراق والمملكة العربيّة السعوديّة حيث أنّ على كلا الحكومتين أن تدركا بأن الخطر القائم يجب أن يُعالج أوّلا ً.
وحيث أنّ العراق يعتبر “الحكومة السعوديّة مسئولة عن الجرائم الخطيرة التي ترتكبها تلك المجموعات الإرهابيّة”، فإن السعوديّون بالمقابل يلومون العراق على “السياسات الطائفيّة والإستثنائيّة التي نفّذت في العراق خلال السنوات الماضية والتي تهدّد استقرار المملكة وسيادتها”.
وبما أنّ الرئيس أوباما كما يبدو يأخذ جديّا ً بعين الإعتبار وضع إيران سياسيّا ً وعسكريّا ً على قائمة الدول التي ستساعد نوري المالكي على وقف تقدّم قوات “داعش” نحو العاصمة بغداد، يجب على الولايات المتحدة أن تتذكّر دائما ً – بصرف النظر عن الصفة التي ستشارك بموجبها إيران في العراق – بأن هذه المشاركة ستقوّي فقط قبضة إيران على العراق وتعزّز طموحاتها الإقليميّة في أن تصبح القوّة المهيمنة في المنطقة.
ولهذا السبب يجب أن تكون مشاركة إيران مشروطة بتعهّد طهران قولا ً وفعلا ً بإنهاء دعمها لنظام الأسد والمساعدة في إنهاء هذه الحرب الأهليّة المرعبة في سوريا. إنّ تعبير إيران عن رغبتها في إشراك جيرانها بقضايا بنّاءة والمساهمة في الإستقرار الإقليمي يتناقض تناقضا ً كليّا ً مع دعمها المتواصل لنظام الأسد المجرم. وما دامت الحرب الأهليّة في سوريا مستمرّة على أشدّها، فحتّى لو هُزمت قوات “داعش” في العراق وخسرت معظم مكاسبها الإقليميّة أو حتّى كلّها، فإنها ما زالت تحتلّ مساحات شاسعة من الأراضي والريف في سوريا بإمكانها أن تنسحب إليها وتستمرّ في القتال منها حتّى تحقيق أهدافها.
وحتّى لو كان من غير المحتمل أن يتلاشى العداء ما بين المملكة العربيّة السعودية وإيران في وقت ٍ قريب، غير أنّه من المهمّ أن يكون هناك مصلحة مشتركة مؤقتة على الأقلّ بينهما. فتعهّد إيران بتقديم المساعدة لإنهاء الحرب الأهليّة في سوريا والسّماح في النهاية ببروز حكومة تمثّل جميع قطاعات الشعب في دمشق قد يخفّف من التوتّر ما بين الدولتين ويقلّل من حدّة الإنقسام السنّي – الشّيعي.
إنّ خوف السعوديين من انتشار التيار الإسلامي الجهادي المتطرّف وقلقهم بشكل ٍ خاصّ حول نوايا “داعش” لاستهداف النظام الملكي لا يقلّ عن قلق إيران بأن احتمال نجاح قوات “داعش” سيؤدي في النهاية إلى إقامة دولة سنيّة متطرّفة في جوارها تحكمها قوانين الشريعة الصارمة. فهذه المخاوف المشتركة لكلا البلدين قد تخلق نوعا ً من الجوّ الإيجابي بينهما.
وفي الختام، فإنّ استخدام القوات العسكريّة الأمريكيّة ضدّ قوّات “داعش” لم يعد أمرا ً ممكن تجنّبه. فبدون الدّعم العسكري الأمريكي سيواجه العراق والمنطقة بأكملها فترة طويلة من العنف وعدم الإستقرار، الأمر الذي قد يجرّ دولا ً أخرى للصراع بعواقب خطيرة.
وحيث أنّ قوات “داعش” في تقدّم وهي خبيرة في حرب العصابات، سيكون من الصّعب جدّا ً تدمير أهدافها بالقصف الجوّي، خصوصا ً وأنّ هذه القوات تختبىء بين المدنيين، الأمر الذي قد يتطلّب مشاركة بعض القوات الأمريكيّة الخاصّة على الأرض، ولكن يجب أن يكون العبء الأكبر على كاهل القوات العسكريّة العراقيّة.
من الأمور التي قد تبدو متناقضة هو أنّ الصراع الحالي في العراق والديناميّات الجيو-سياسيّة المتغيّرة قد تسارع في عمليّة إنهاء الحرب الأهليّة في سوريا. وللتوصّل لهذا الهدف، يجب على الولايات المتحدة أن تغتنم هذه الفرصة وتسرع في توريد الأسلحة للثوّار لإيقاف الأسد من الإستمرار في قصف مخابىء الثوار بدون تمييز بالبراميل المتفجّرة وقتل آلاف المدنيين في هذه العمليّة.
ولهذا السبب، فحال قيام الولايات المتحدة بمنع قوّات “داعش” من تحقيق أهدافها، وبما أنّ لكلّ أقطار المنطقة مصلحة مشتركة في إنهاء طموحات “داعش” الهدّامة، يجب عليها الآن وضع خلافاتها جانبا ً وحشد قواتها تحت القيادة الأمريكيّة لتحقيق هدفها المشترك.