All Writings
يناير 11, 2017

ما هو ضمان نجاح المبادرة الفرنسيّة ؟

لقد أظهرت التطورات الأخيرة فيما يتعلّق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الفجوة الشاسعة ما بين موقفي الحكومة الإسرائيليّة والمجتمع الدّولي حول المستوطنات في الأراضي المحتلّة وإمكانيّة حلّ الدولتين. وقد كان قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2334) – الذي تبعه أيضا ً خطاب وزير الخارجيّة الأمريكي جون كيري الذي أدان المستوطنات الإسرائيليّة ووصفها بالعقبة الرئيسية أمام السّلام – إلى حدّ كبير في محلّه. ولكن إنهاء بناء المستوطنات لن يحلّ بحدّ ذاته الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لقد تجاهلت للأسف الأمم المتحدة وجون كيري قضايا مهمّة أخرى، وبالأخصّ الجوّ الإجتماعي والسياسي المسمّم بين الطرفين وخطوط الصّدع في العمليّة السلميّة نفسها وموقف حماس ودعوات مجموعات فلسطينيّة أخرى لتدمير إسرائيل والتي أشار إليها جون كيري فقط بشكل ٍ عابر.

إنّ المبادرة الفرنسيّة المتمثلة بعقد مؤتمر دولي حول الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني في الخامس عشر من شهر يناير / كانون الثاني الجاري هي فرصة زخمة لعرض منهج ٍ جديد قد يخفّف من العلاقة العدائيّة بين الطرفين وخلق مناخ ٍ إجتماعي – سياسي جديد يفضي إلى إعادة الشروع في مفاوضات السّلام باحتمال ٍ واقعي للنجاح. وعلى أية حال، ينبغي على أجندة المؤتمر ونتائجه أن تعمل على إيجاد إطار لإدارة ترامب لكي تنحاز له لأنه في الواقع بدون دعم الولايات المتحدة في نهاية المطاف لن يكون له تأثير دائم في ضمان سلام ٍ إسرائيلي – فلسطيني ثابت.

وبالرّغم من أنّ مجلس الأمن الدّولي قد دعى لاتخاذ “خطوات فوريّة  لمنع جميع أعمال العنف ضدّ المدنيين، شاملة أعمال الإرهاب وأيضا ً جميع الأعمال الإستفزازيّة والتدمير”، فقد قصّر القرار في إدانة حماس بالإسم ودعوة قيادتها لنبذ العنف وقبول حقّ إسرائيل في الوجود.

هذا التقصير الفادح يعود بالفائدة المباشرة على الجناح اليميني المتطرّف في حكومة نتنياهو والذي يدّعي بأنّ إسرائيل مستمرّة في كونها مهددة في وجودها وأنه فقط في حالة قبول الفلسطينيين بكلّ وضوح بوجود إسرائيل، ستسفر المفاوضات حينئذ ٍ عن اتفاقية سلام ٍ دائم.

في خطابه دافع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن امتناع الولايات المتحدة عن التصويت في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي سمح بتمرير القرار رقم (2334) لأنه أدرك الأهمية البالغة لمحاربة الإرهاب وإنهاء جميع أعمال العنف. وقال كيري في خطابه:”الكلّ يفهم بأنه لا تستطيع أية حكومة إسرائيليّة أن تقبل بأية اتفاقيّة لا تلبّي احتياجاتها الأمنيّة أو تخاطر بخلق تهديد أمني مستمرّ مثل انتقال تهديد قطاع غزّة للضفة الغربيّة …ولكن التصويت في الأمم المتحدة كان حول الإحتفاظ بحلّ الدولتين”.

لم يدرك قرار مجلس الأمن الدولي وخطاب كيري بأن الأوضاع على الأرض قد تغيّرت بشكل ٍ جذريّ، وهذا ليس بسبب المستوطنات فقط، بل أيضا ً بسبب الأبعاد السيكولوجيّة التي تؤثّر على تقدّم أية قضية متنازع عليها وتعرقلها. فهناك مثلا ًعدم ثقة عميق ما بين الطرفين تفاقمه قضايا عويصة حول الأمن مقرونة بأوهام ٍ قوية من طرف الجناح اليميني الإسرائيلي والمجموعات الفلسطينيّة المتطرفة التي تدّعي بأنّ لديها حقّ متأصّل على كامل الأرض الممتدّة من البحر الأبيض المتوسّط حتّى نهر الأردن.

حماس أعلنت هذا الإدّعاء مرارا ً وتكرارا ً ووزير التربية والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، أعلن مؤخرا ً بأنه ينبغي على إسرائيل ضمّ مستوطنة معالي أدوميم (التي تقع على بعد 4.5 أميال شرقي القدس) وتلحق بها المنطقة “ج” بالكامل التي هي في الوقت الحاضر تحت السيطرة الإسرائيليّة وتشكّل أكثر من 60% من مساحة الضفّة الغربيّة.

وكما يرى ذلك بينيت، نتنياهو وشركاء آخرون في التحالف الحكومي، فإن توسيع المستوطنات وبأثر رجعي شرعنة العديد من المستوطنات التي شيّدت بدون موافقة أولية من الحكومة، سيخلق حقائق غير قابلة للإلغاء على الأرض، ممّا سيجعل من حلّ الدولتين وبكلّ بساطة أمرا ً غير قابل للتطبيق، وهذا بالضبط ما يريدون ضمانه.

وللتأكيد، فإن قرار الأمم المتحدة وخطاب جون كيري ليسا إلاّ نداء في البريّة.  فعدا ممارسة بعض الضغوط السياسيّة على إسرائيل وتحذير الفلسطينيين لوقف أعمال التحريض والعنف، ليس هناك آليات تنفيذيّة فعليّة لإجبار أيّ من الطرفين على التقيّد بقرار الأمم  المتحدة أو بنداء كيري.

نتنياهو يشعر باطمئنان بأن دونالد ترامب كرئيس سيعيد الدّعم التقليدي الأمريكي لموقف إسرائيل وسيزوّدها بالتغطية السياسيّة في أيّ وقت ُتتخذ فيها محاولات من قبل المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل أو إجبارها لاحتضان سياسات تتعارض مع مصالحها القوميّة التي ترتئيها.

وتوقيت المبادرة الفرنسيّة يبدو أيضا ً غريبا ً حيث أنه سيكون قبل خمسة أيام ٍ فقط من تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب. ويبدو أنّ الحكومة الفرنسيّة، على أية حال، تريد أن تستفيد من الزّخم الذي أحدثه قرار مجلس الأمن الدّولي وخطاب كيري لخلق وفاق ٍ دولي يقف وراء قرار مجلس الأمن الدولي ضدّ المستوطنات وإنقاذ حلّ الدولتين، وهو ما يُنظر إليه كشرط ٍ لا غنى ً عنه لسلام ٍ دائم.

علاوة ً على ذلك، يأمل الفرنسيّون بذلك من منع إدارة ترامب القادمة من التسرّع في اتخاذ موقف مؤيد تماما ً لنتنياهو وإغراق أو إحباط على الأقلّ ما بقي من عمليّة السلام، وبالأخصّ في هذا الوقت من الإضطرابات والثورات الإقليميّة والتطرّف الذي يغذيه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مع الآثار السلبية الناتجة عنه والمترتبة على المجتمع الأوروبي.

ولكي ينجح المؤتمر الفرنسي على أية حال، ينبغي ألاّ يكون مجرّد صدى ً لما دعا إليه قرار مجلس الأمن أو نادى به خطاب كيري، وألاّ يدفع فقط ببساطة لإستئناف مفاوضات السلام بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر والتي ستلقى نفس المصير الذي لاقته المفاوضات السابقة. بل يجب على المؤتمر تبنّى نهجا ً ثلاثي المسار سيفضي إلى إستئناف مفاوضات بنّاءة تؤدي إلى اتفاقيّة سلام تستطيع إدارة الرئيس ترامب أن تدعمها.

فنظرا ً لوجود عدم الثقة المتأصّل والشعور العميق بالإفتقار للأمن على كلا الجانبين والوهم الشديد بأنه يمكن لأيّ من الطرفين أن يحصل على الكلّ، من المهمّ للغاية أن يبدأ المسار الأول بعمليّة مصالحة بين الشعبين تستمرّ حوالي سنتين لتخفيف إلى حدّ كبير هذه العوائق الرئيسية الثلاثة المذكورة أعلاه.

وخلال هذه الفترة، ينبغي ألاّ يُطلب من أيّ من الطرفين القيام بتنازلات بخصوص أيّ من القضايا الرئيسيّة المُختلف عليها – التي لن يكن مستعدّا ً لها في أي حال ٍ من الأحوال أيّ من الطرفين في هذه المرحلة – بل بالأحرى إتخاذ بدلا ً من ذلك  خطوات وإجراءات مصالحة من حكومة لحكومة ومن شعب لشعب وذلك لخلق بيئة إجتماعيّة – سياسيّة جديدة وداعمة لمفاوضات ذات مغزى.

أما إجراءات من حكومة لحكومة فينبغي أن تشمل: وقف الروايات الشعبية اللاذعة على كلا الجانبين، عدم اتخاذ إجراءات استفزازية (مثلا ً: منع الفلسطينيين من مقاضاة إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدوليّة)، إبطاء بشكل ملموس التوسّع في المستوطنات وأخذ بعين الإعتبار فقط معدلات النموّ الطبيعي، تشجيع المشاريع المشتركة الهادفة للتطوّر الإقتصادي، الزيادة في تعزيز التعاون الأمني لمنع العنف وإطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين الغير ملطّخة أياديهم بالدماء كبادرة حسن نوايا. وأخيرا ً، ينبغي تعديل الكتب المدرسيّة لكي تعكس الواقع وحقوق كلا الشعبين، وهو أحد أهم الإجراءات التي يجب إتخاذها لكي يرى الجيل القادم من الإسرائيليين والفلسطينيين بعضهم بعضا ً كأصدقاء وجيران بدلا ً من أعداء أبديين.

وفي مجال نشاطات التواصل من شعب ٍ لشعب، ينبغي على كلا الجانبين إتخاذ عدّة خطوات عديدة (البعض منها ميسّر من قبل الحكومة) شاملة الإنخراط في خطابات وحوارات شعبية مفتوحة للتنفيس عن بعض مخاوف الشعبين والتعبير عن طموحاتهم المستقبليّة، والسماح بعدد أكبر من العمّال الفلسطينيين بالعمل في إسرائيل، وتشجيع وسائل الإعلام لنقل أخبار أية تطورات إيجابيّة، وتسهيل السياحة في الإتجاهين، وتشجيع النشاطات النسائية، ودعم نشاطات تواصل الطلبة، وتوفير الفرص للشباب الفلسطيني للدراسة في الجامعات الإسرائيليّة، والشروع في نشاطات رياضيّة مشتركة وتبادل المعارض الفنيّة.

إنّ الغرض من هذه النشاطات هو أن يرى الإسرائيليّون والفلسطينيّون بعضهم بعضا ً كآدميين وأن يتوقفوا عن “القولبيّة” (أي حمل الأفكار الخاطئة عن فرد أو مجموعة من الشعب وتعميمها على كافة الشعب) وبناء علاقة جديدة تعتمد على القبول والثقة المتبادلين والتي تعتبر أساسيّة لصنع السّلام.

ولتهدئة مخاوف إسرائيل بشكل ٍ كبير، أكانت مخاوف حقيقيّة أم مُدركة أم ُمبالغ فيها، حول أمنها الوطني، فإن المسار الثاني للمؤتمر ينبغي أن يكون مطالبة حماس ومجموعات فلسطينيّة أخرى متطرّفة إلى نبذ العنف والإنضمام إلى السلطة الفلسطينيّة في البحث عن حلّ سلمي للصراع. حماس جزء لا يتجزّأ من الكيان السياسي الفلسطيني، وبدونها لا يمكن صنع سلام إسرائيلي – فلسطيني، ناهيك عن تثبيته.

وينبغي على المؤتمرين أيضا ً مطالبة تركيا وقطر بشكل ٍ خاصّ للضغط على حماس، حيث لهما تأثير هائل عليها، لنبذ العنف وقبول حتميّة وجود إسرائيل بدون تسليم أسلحتها بالضرورة. وكحافز ٍ لها، ينبغي إزالة حماس من القائمة الأوروبية والأمريكيّة للمنظمات الإرهابية ومدّها بالمساعدات الماليّة الهادفة لبناء المساكن والمرافق الطبيّة والمدارس والبنية التحتيّة وإخراج الفلسطينيين في قطاع غزّة من فقرهم المدقع وقنوطهم. وتحت هذه الظروف ستقوم إسرائيل بتخفيف حصارها على القطاع ورفعه في نهاية المطاف ضمن شروط إحلال السّلام.

أما المسار الثالث فهو تبنّي مبادرة السّلام العربيّة كالإطار العام للسلام، الأمر الذي سيحشد العالم العربي بأكمله خلف المبادرة الفرنسيّة وخلق خارطة طريق لإقامة سلام ٍ إسرائيلي – فلسطيني في سياق سلام ٍ عربي – إسرائيلي شامل.

ينبغي على المؤتمرين أن يكلّفوا ثلاثة وزراء خارجيّة، بالتحديد من مصر وفرنسا والولايات المتحدة، لإقناع إسرائيل وحماس لاحتضان مبادرة السّلام العربيّة التي تقدّم عدة قواسم مشتركة بينهما. قد لا يكون هناك وقت أفضل من هذه الفرصة للقيام بذلك الآن بالنظر لتكثيف التعاون في القضايا الأمنيّة والإستخباراتيّة ما بين إسرائيل والدول العربيّة الرئيسيّة في الخليج العربي، هذا إضافة ً إلى الأردن ومصر اللتين تسعيان لحلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والتركيز على التهديد الإيراني.

سيضع المؤتمر بتبنّي هذه المسارات الثلاثة الحكومة الإسرائيليّة والسلطة الفلسطينيّة تحت الإختبار، إذ لا يُعقل أن يجاهروا في السعي وراء حلّ دولتين من ناحية ويرفضوا من الناحية الأخرى إتخاذ مثل هذه الإجراءات التصالحيّة الأساسيّة لاتفاقيّة سلام ٍ حقيقيّة. أنا مقتنع شخصيّا ً أنّه إذا لم يتبنّى المؤتمر النهج الذي شرحته أعلاه وبالتالي الحصول على موافقة إدارة الرئيس دونالد ترامب، فإنه سيفشل. وهذا الفشل سيحرم فرنسا، وامتدادا ً لها الإتحاد الأوروبي، من قدرتها على فعل الشيء الكثير في معالجة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في المستقبل.

وأخذا بعين الإعتبار بأن الولايات المتحدة هي المحاور الرئيسي اليوم وغدا ً ما بين إسرائيل والفلسطينيين، فإن المؤتمر سيمنح ترامب – من خلال النهج الثلاثي المسار – الوقت والفرصة اللازمين لتقييم واقع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل ٍ حقيقي. وبعد كلّ ذلك قد لا ينوي ترامب أن يلبّي لنتنياهو جميع رغباته ويجعله يتوسّع في المستوطنات ويضمّ المزيد من الأراضي الفلسطينيّة إذا كان مثل هذا التحرّك سيقتل أية فرصة لحلّ الدولتين ويعرّض إسرائيل لمستقبل ٍ محفوف بالمخاطر.

وينبغي على ترامب، الذي يتفاخر بأنه أعظم صانع إتفاقيّات، أن يكترث إلى ما ذُكر أعلاه وأن يقوم بدعم ٍ من المجتمع الدولي بقيادة فرنسا بصنع اتفاقية سلام ما بين إسرائيل والفلسطينيين، وهذه ستكون بالتأكيد إتفاقية القرن.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE